حظيَّ التاريخ بدراسة واسعة من قِبَل المؤرخين العرب والمستشرقين، وكان للمستشرقين دور بارز في نشر الحقائق والمعلومات عن الحضارة الإسلامية وتصحيح الادعاءات التي تحدث عنها البعض الآخر منهم والبعض الآخر منهم كشف تلك المعلومات الزائفة بالبراهين والدلائل، وعلى رأس هؤلاء المستشرقين الذين ناصروا الإسلام وحضارته (فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد) ولد في مدينة سانت بطرسبرغ 3 نوفمبر 1869م وتوفّي 19 أغسطس 1930م، وهو مستشرق روسي بارز ولاسيما في مجالات تاريخ الحضارة الإسلامية.
أحد كبار علماء ومؤرخي روسيا القيصرية، كان مستشرقاً منصفاً، كرس حياته لدراسة التاريخ ولاسيما التاريخ الإسلامي ودوله، كان من أسرة ألمانیة قدمت للاستیطان في الإمبراطوریة الروسیة، وأمه كانت حفیدة لرئیس الكنیسة اللوثریة وسلیلة لتلك الأسرة التي قدمت من هامبورغ إلى روسیا للاستیطان، وكان والده من العاملین في بورصة سانت بطرسبرغ، یتمتع بحالة مالیة جیدة سمحت لابنه منذ نعومة أظافره بتحصیل دراسي جید، شمل تعلمه اللغات الكلاسیكیة القدیمة ومبادئ اللغات الأوروبیة الحدیثة، وبعد استیلاء (البلاشفة) على السلطة 1917م في الإمبرا طوریة الروسیة آثرت أسرته البقاء في روسیا وعدم الهجرة منها كما فعلت العدید من الأُسر الأرستقراطية والثریة والمثقفة في روسیا آنذاك.
كان أستاذاً في جامعة بطرسبرغ، كرس حياته في التدريس والبحث المقرونين بالدراسات الميدانية والرحلات الطويلة إلى المواقع، وتناولت أبحاثه الدراسات الشاملة للتاريخ الثقافي والاجتماعي والدراسات المتخصصة في التاريخ، مستنداً إلى إحاطة واسعة بلغات كثيرة مثل اللغتين اللاتينية واليونانية ولغات أوروبا الغربية الرئيسة، ومعرفة جيدة باللغات العربية والفارسية والتركية والتترية.
يعد بارتولد مؤسس المدرسة التاريخية للاستشراق الروسي وواحداً من أكبر مؤرخي الحضارة في الشرق، ترك ما يناهز أربعمئة كتاب ودراسة وبحث ونقد عن تاريخ الشعوب والأفكار والحضارة الإسلامية أي تاريخ المشرق في العصور الوسطى، شغل بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا منصب الرئيس الدائم للجنة المستشرقين في أكاديمية العلوم السوفييتية، وظل مؤرخاً في تاريخ دول آسيا الوسطى في المشرق إلى أن وافته المنية، وشمل أيضاً تاريخ الإسلام وتاريخ الخلافة العربية في عصورها المبكرة وتاريخ النقوش والمسكوكات الإسلامية.
بيد أن أبحاثه وكتبه أثرت المكتبة التاريخية بالمعلومات التي أصبحت من أهم المراجع في تاريخ الشعوب الآسيوية وعلى رأس هذه المؤلَّفات كتاب (تاريخ الترك في آسيا الوسطى) الذي يُعدّ المرجع الأهم لتاريخ هذه المنطقة من القرن السابع الميلادي/ الأول الهجري إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري والذي اعتمد فيه على عدد كبير من المصادر التي فحصها الفحص الدقيق في وقت لم يكن معظمها قد نشر، وكتاب (تركستان منذ الفتح العربي حتى الغزو المغولي) الذي اهتم فيه بتحليل التطور التاريخي لهذه البلاد من بداية فتح العرب حتى الغزو المغولي بقصد إيضاح الظواهر الاجتماعية والنُّظم التي سادت أثناء هذا الغزو، بالإضافة إلى كتاب (تاريخ الحضارة الإسلامية) الذي كتبه بأسلوب تركيبي بلغ 123 صفحة، ورغم العدد الصغير لصفحاته إلا أنه كان مليئاً بالدرر القيمة النافعة ومن أقواله عن ظهور دولة الإسلام وتأثيره في العالم:
(نشأت في العالم في القرن السابع دولة عظيمة من شبه جزيرة العرب للمرة الأولى والأخيرة في التاريخ وبدأت حركة جديدة)، وذكر في موضع آخر (وفي القرن السابع والقرن الثامن أدخل العرب تحت سلطانهم أقواماً كثيرين يفوقونهم حضارة إلى درجة لا تقبل القياس، إلا أنهم لم يفقدوا قوميتهم كما فقدت الشعوب الجرمانية في أوروبا والمغول في آسيا بل أكثر من ذلك أدخلوا سوريا وما بين النهرين ومصر وأفريقية الشمالية وغيرها من البلاد التي استولوا عليها في قوميتهم ولم تكن غلبة اللغة العربية بعد ذلك بسلطان الحكومة بل بالاختيار). (مقتطفات من كتاب الحضارة الإسلامية نقلاً عن الأستاذ إحسان نمر)
عالجَ بارتولد أبحاثاً في تاريخ إيران وبلاد ما وراء القفقاس والأقطار العربية وتاريخ الشعوب التركية والمغولية، وذاعَ صيته في العقد الثاني من القرن العشرين في روسية وخارجها بوصفه أكبر عالم يحيط بتاريخ الشرق في العصور الوسطى، وإلى جانب ما تقدم فإن مؤلف بارتولد الأساسي هو كتاب (تركستان منذ الفتح العربي حتى الغزو المغولي) ومجموعة كتيّبات مخصّصة لتاريخ الطاجيك والقرغيز والتركمان.
وقفَ وعارضَ بارتولد أقوال العلماء والمستشرقين الذين يزعمون أن أوروبا هي مركز العالم وأن شعوب الشرق لا تاريخ لهم، وردَّ على ذلك بـ(إن الناس هم الناس في كل مكان ليس بينهم فارق، وإن التباين بين حضارتي الشرق والغرب يمكن ردّه برمته إلى الأحوال التي وجّهت النشاط الذهني لشعوب الشرق إلى وجهات مغايرة).
لم تقف مشاركات بارتولد عند هذا الحد فحسب بل أسهمَ بنصيب وافر في الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية التي أمدَّها بمئتين وأربع وسبعين مقالة جُمِعَت كلها في مجموعة واحدة من تسعة مجلدات صدرت باللغة الروسية، وتُرْجِمَ بعضها إلى اللغة العربية، وتم نقل أعماله إلى لغات عدة منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والعربية والأوزبكية والقرغيزية والتترية.
حصل بارتولد على الميدالية الفضية أثناء دراسته في الكلية عن بحث بعنوان (المسيحيون في تركستان) عام 1889م وتم نشره في القسم الشرقي لجمعية الآثار الروسية عام 1893م تحت عنوان (المسيحيون في تركستان قبل المرحلة المغولية)، ومن شدة شغفه وحبه لدراسة الشعوب والأماكن بعد تخرجه مباشرة زار (فنلندا، ألمانيا، سويسرا، شمال إيطاليا، النمسا، هنغاريا وكراكوف) على نفقته الخاصة.
ساهم بارتولد في أعمال هواة التنقيب عن الآثار الروس في تركستان خلال 1895م حتى عام 1917م، ونشرَ عدة مقالات في صحافة تركستان الروسية (تركستانسكيخ فيدوموستياخ) و(أكراييني) وأغلبها اختصت بدراسة واقع جمهوريات آسيا الوسطى وبخاصة تركمانستان، أما بعد ذلك بعد انصرف لتأليف كُتيِّبات مُبسطة عن الإسلام والحضارة العربية، فأصدر كتيّبه الأول (الإسلام) الذي يقع في 60 صفحة، وتلاه كتاب (الحضارة الإسلامية) في 123 صفحة، كما صدر له في سانت بطرسبرغ كتب منها: (أولوغ بيك وعصره)، و(العالم الإسلامي) و(الثقافة الإسلامية) عام 1918م، وتاريخ تركستان عام 1922م الذي ضم محاضراته التي ألقاها في جامعة آسيا الوسطى الحكومية في طشقند عام 1920م، ثم كتاب (عالم الإسلام) و(تاريخ الحياة الثقافية في تركستان) عام 1927م بالإضافة إلى مقالات في تاريخ الطاجيك عام 1925م، والقرغيز عام 1927م وأعيد إصدارها عام 1943م، فهذه الكتب والأعمال لا تزال من أهم شواهد الإنصاف في حقل الدراسات الاستشراقية للإسلام وشعوبه وثقافته، مقارنة بما كان يتم إنتاجه من كتاباتٍ ومؤلفاتٍ في الغرب آنذاك، لذا تُعدُّ مؤلَّفَاته من أفضل وأهم ما كُتِبَ عن المشرق، ولا تزال حتى يومنا هذا على قدر كبير من الأهمية حتى بعد مرور مئة عام على إصدارها.
أكاذيب المستشرقين
دأب بعض المستشرقين الغربيين في اِدّعاءاتهم على أن العرب أرغموا غير العرب على دخول الإسلام وتعلُّم العربية في أثناء عمليات الفتوح في آسيا وشمال أفريقيا، ويفنّد ويكشف بارتولد هذه الأكذوبة في كتابه (تاريخ الحضارة الإسلامية)، موضحاً ما رأته هذه الشعوب من تطور في عدة مجالات منها الروحي واللغوي، مستنداً على القرآن المُنزل باللغة العربية، وأن اللغة العربية كانت لغة متطورة آنذاك، وقد نظرت إليها الشعوب غير العربية من هذا المنظور، وليس هناك دليلٌ أكثر من دخول المغول في الإسلام بعد هزيمتهم للمسلمين عسكرياً، وليس ذلك فحسب بل قاموا بتأسيس أول قاعدة إسلامية في الأصقاع الشمالية على يد بركة خان بن جنكيز خان وتأسيسه للقبيلة الذهبية في روسيا وما لبثوا أن دانوا لهذه الحضارة المتقدمة.
منارات العلم والحضارة
لم يقف بارتولد عند الكتابة وسرد الأحداث وعرض تاريخ الشعوب وأصولهم والحقائق بل شرعَ يتكلم عن النهضة العلمية في العهد العباسي، وأكد أن البصرة وحران وبغداد كانت أهم مراكز العلم والحضارة آنذاك، وكانت بغداد واجهة العلماء الجاذبة لهم من كل أرجاء العالم وبخاصة من آسيا الوسطى، وأشار إلى (أبو معشر) عالِم الفلك والرياضيات منافس الكندي في بغداد أنه من أصل بلخي، كما أن (أبا زيد) أحد تلاميذه المشهورين من بلخ أيضاً، وأن (أبا موسى الخوارزمي) العلامة الرياضي الشهير عاش في بغداد وهو من بُلدان وسط آسيا -خوارزم-، و(أبو نصر الفارابي) الفيلسوف كان تركي العِرق، الذي تلقّى علومه في بغداد، وتوفّي في دمشق.
ولا أنسى ما أضافه في كتابه (الحضارة الإسلامية) وتناوله لدور العِرق التركي والفارسي في تطور الحضارة الإسلامية، فقد دأب المستشرقون في عصره على تناول دور العرب وشعوب شمال أفريقيا من الأمازيغ وغيرهم دون اهتمام كبير بالعنصر التركي والفارسي في مسيرة هذه الحضارة وتطورها في مجالات الثقافة والفكر والحرب.