مارينا تبسّم، مهندسة معمارية من بنغلاديش مشهورة على الصعيد العالمي، وهي صاحبة رؤية في عالم التصميم المعماري. يجسّد عملها مزيجاً متناغماً من العناصر التقليدية والجماليات المعاصرة التي تخلق مساحات تولد الشعور بالهدوء والروحانية والصدى الثقافي. ولكن رحلة مارينا تبسّم المعمارية وتألقها في هذا المجال لم تبدأ منذ فترة قصيرة، بل هي متجذرة بعمق وتعود إلى نشأتها الأولى في مدينة دكا، بنغلاديش، حيث طورت رؤية عميقة للتراث الثقافي الغني وأهمية الفضاء في تشكيل التجارب الإنسانية.
ولدت مارينا تبسّم في دكا، بنغلاديش، عام 1968، وهي ابنة لطبيب أورام كان قد هاجر إلى بنغلاديش من الهند أثناء تقسيم البنغال في عام 1947. التحقت بمدرسة وكلية هولي كروس للبنات، وحصلت بعد ذلك على شهادة في الهندسة المعمارية من جامعة بنغلاديش للهندسة والتكنولوجيا عام 1994. وهي تشغل حالياً منصب المهندسة المعمارية الرئيسة لشركة مارينا تبسّم للمهندسين المعماريين، التي أسستها بنفسها في عام 2005 في بنغلاديش، وأستاذة زائرة في جامعة براك منذ عام 2005. كما تدير أيضاً أستوديوهات جامعية في جامعة آسيا والمحيط الهادئ، وقد ألقت محاضرات وعروضاً تقديمية في عدد من المؤسسات التعليمية والمؤتمرات الأخرى.
بدأت رحلة تبسّم في عالم العمارة فوراً بعد الانتهاء من تعليمها الأساسي في جامعة بنغلاديش للهندسة والتكنولوجيا، حيث صقلت مهاراتها وغذت شغفها لإنشاء مساحات تعكس روح البيئة المحيطة. لقد أرست تجاربها المبكرة وتعرفها على أعمال المهندسين المعماريين المشهورين أمثال لويس خان ومزهر الإسلام، الذي عملت معه في أكثر من مشروع، الأساس لفلسفتها التصميمية المتميزة، والتي تتسم بفهم عميق للمساحة والضوء والسياق.
يكمن جوهر براعة مارينا تبسّم المعمارية في قدرتها على دمج المبادئ المعمارية التقليدية بسلاسة مع الحساسيات المعاصرة، مما يؤدي إلى تصميمات ليست ملفتة للنظر فحسب بل وتبدو متجذرة أيضاً بعمق في النسيج الثقافي والسياق العام لمحيطها. إن التزام تبسّم بتبني المواد المحلية وتقنيات البناء التقليدية يزيد من أصالة إبداعاتها المعمارية واستدامتها، الأمر الذي يميزها عن غيرها ويحولها إلى سيدة الفضاء والصدى الثقافي الأولى.
ومن أهم أعمالها التي نفذتها في بلدها الأم بنغلاديش، وحازت على اهتمام المصممين والنقاد والمهتمين في مجال العمارة، متحف الاستقلال في دكا (2006)، والمجمع السكني (A5 (2001، ومشروع كومفورت ريفيري (2011)، ومنزل الإجازات في فريد آباد، دكا (2009)، ومسجد بيت الرؤوف في دكا (2012)، ومنتجع بانيجرام إيكو في جاشورل (2018)، وأخيراً مشروع خودي باري، في المناطق الساحلية من بنغلاديش (2020).
أهمية الفضاء في تصاميم مارينا تبسّم
يحتل الفضاء موقعاً مركزياً في تصاميم مارينا تبسّم المعمارية، حيث يعمل بمثابة اللوحة القماشية التي تنسق عليها سيمفونية الضوء والشكل والوظيفة. ويتجاوز فهم المهندسة المعمارية السليم للمكان الأبعاد المادية للبيئة المبنية، ليشمل الصفات غير الملموسة للأجواء المحيطة والإدراك والتجربة الإنسانية. إذ تبدو تصميماتها مشبعة بحس الشعر المكاني، حيث يخلق التفاعل بين الفراغات ومواد البناء الصلبة، والضوء والظل، عالماً أثيرياً يتجاوز ما هو عادي ويتردد صداه في الروح الإنسانية.
تتميز تركيبات تبسّم بتصاميم معمارية دقيقة تولي أهمية كبيرة للتسلسلات المكانية، حيث يتحول الانتقال من مساحة إلى أخرى إلى رحلة حسية، تشرك الساكن في حوار مع البيئة المبنية. إن التفاعل بين المساحات الخارجية والمغلقة، والمناظر المفتوحة والمؤطرة يضفي على تصميماتها إحساساً بالديناميكية والارتباط العميق بالسياق المحيط، مما يطمس الحدود بين العوالم الداخلية والخارجية.
في معجم تبسّم المعماري، تمتد أهمية الفضاء إلى ما هو أبعد من مظهره المادي، لتشمل الأبعاد الثقافية والتجريبية والرمزية التي تثري التجربة الإنسانية. سواء أكان الأمر يتعلق بالهدوء التأملي في قاعة الصلاة أو التفاعل الحيوي الجماعي ضمن مساحة عامة، فإن تصميمات تبسّم تثير نسيجاً غنياً من المشاعر والتجارب، وتدعو السكان إلى التفاعل مع السرد المكاني بطريقة غامرة وروحية عميقة.
علاوة على ذلك، تسترشد تصاميم تبسّم بالتعاطف العميق مع الديناميكيات الاجتماعية والحضرية للمجتمعات التي تم تصميمها من أجلها، وتجسد روح الشمولية والاستدامة التي تعزز الشعور بالانتماء والاستمرارية الثقافية. سواء كان الأمر يتعلق بتنشيط منطقة حضرية تاريخية أو إنشاء مؤسسة ثقافية جديدة، تسعى تدخلات تبسّم المعمارية إلى إثراء النسيج الاجتماعي والثقافي لمحيطها، مما يخلق مساحات تتوافق مع الذاكرة الجماعية وتطلعات المجتمع.
كما يتجاوز نهج تبسّم في التعامل مع الأهمية الثقافية والسياق العام للموقع التقليد السطحي، ويتعمق في جوهر المكان لاستخلاص صفاته المتأصلة وإضفاء إحساس بالأصالة والصدى على تصميماتها. من خلال الانخراط في حوار مع الهندسة المعمارية المحلية، وتقنيات البناء التقليدية، والأهمية المادية الأصلية للمنطقة، تبدو إبداعات تبسّم المعمارية كتفسيرات معاصرة تشيد بحكمة الماضي الخالدة بينما تحتضن تطلعات المستقبل.
ويتجسد هذا المفهوم بشكل كبير من خلال مشروع متحف الاستقلال في دكا، الذي يصور النضال من أجل استقلال بنغلاديش ويُظهر تاريخ الأمة منذ عهد المغول حتى الاستقلال عام 1971. وهو المتحف الأول والوحيد الذي تم بناؤه في البلاد تحت الأرض. ويعد جزءاً من مخطط رئيس يشتمل على مسرح عرض متعدد الوسائط، ومدرج، وثلاث برك مائية، ونصب الشعلة الأبدية التي ترمز إلى أبدية القومية البنغالية، ولوحة جدارية تبرز النضال من أجل الاستقلال، وغيرها من المرافق الملحقة.
ولكن النقطة المحورية في تجربة الفضاء في البناء هي النصب التذكاري المعروف باسم برج النور، وهو برج يبلغ ارتفاعه 50 متراً ويتكون من ألواح زجاجية مكدسة، بينما يقع المتحف أسفل البرج. وتبلغ مساحة ساحة المتحف 5669 متراً مربعاً من الأرضية المبلطة، بينما يحتوي تراسه الموجود تحت الأرض على نافورة في المنتصف حيث تتساقط المياه من فوق السقف.
الشمولية.. روح التصاميم المعمارية لتبسّم
في قلب التصميمات المعمارية لمارينا تبسّم تكمن روح عميقة متجذرة تتخطى النماذج التقليدية وتتبنى نهجاً شمولياً للمساحة والشكل والوظيفة. تعد تصاميم تبسّم شهادة على التزامها الثابت بخلق مساحات تعزز الارتباط العميق بين البيئة المبنية والعالم الطبيعي، وتدعو السكان إلى التفاعل مع محيطهم بطريقة هادفة ومستقلة وشمولية.
يمثل كل تصميم من تصميماتها استجابة مدروسة للفروق الدقيقة الفريدة لموقعها، مما يعكس فهماً عميقاً للعوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والجغرافية التي تؤثر على البيئة المبنية. من خلال الانخراط في حوار مع الموقع والمناطق المحيطة به، تتجاوز إبداعات تبسّم المعمارية الهياكل المبنية، وتتطور إلى تجارب غامرة يتردد صداها مع الروح الإنسانية.
في سعيها لتحقيق التميز المعماري، تؤكد تبسّم على أهمية البساطة وتجنب التصاميم الزخرفية المبالغ بها لصالح لغة معمارية نقية وغير مبهرجة. هذا النهج الواعي في التصميم لا يضفي على إبداعاتها أناقة خالدة فحسب، بل يسمح أيضاً للجمال المتأصل للمواد والتفاعل بين الضوء والظل أن يحتل مركز الصدارة، مما يرفع التجربة الحسية للبيئة المبنية إلى عالم متعال.
ولعل من أهم الأمثلة التي تؤكد على هذا النهج المتفرد للمعمارية المتألقة مشروع مسجد بيت الرؤوف في مدينة دكا في بنغلاديش، والذي حصل على العديد من التقديرات والجوائز العالمية، وفي مقدمتها جائزة الآغا خان للعمارة في عام 2016، والتي تمنح كل ثلاث سنوات لعدد من المشاريع المعمارية المتميزة التي تلبي احتياجات المجتمعات التي يتواجد المسلمون فيها بكثافة في العالم.
وقد اعترفت الجائزة ذائعة الصيت بإعادة تفسير تبسّم المبتكرة للتعابير المعمارية التقليدية، واستجابتها الحساسة للسياق، واهتمامها الدقيق بالتفاصيل، مما يضع معياراً جديداً لتصميم المساجد المعاصرة الذي يتردد صداه على المستوى العالمي. في هذا المشروع الاستثنائي، كان الالتزام بالضروري، سواء في تعريف الفراغ أو وسائل البناء، أمراً حاسماً في وضع التصميم. حتى الأرض التي بني فوقها مسجد بيت الرؤوف تم التبرع بها من قبل جدتها، بينما حصلت المصممة على القليل من التبرعات النقدية من المجتمع المحلي ليكون لزاماً عليها بناء هذا المكان المخصص للتأمل والصلاة بأقل التكاليف الممكنة ولكن ضمن أفضل المواصفات.
لتحقيق هذه الغاية عملت المصممة على استخدام الطوب الأحمر التقليدي لبناء المسجد، بشكله المربع، فوق مصطبة عالية لا تحميه من الفيضانات فحسب بل توفر أيضاً مكاناً للتجمع بعيداً عن الشارع المزدحم في الأسفل. وداخل هذا الشكل المربع توجد مساحة أسطوانية الشكل تم إحلالها بالزاوية الشمالية الغربية من الجدار المحيط لخلق عمق إضافي للرواق ومنطقة الوضوء في الجانبين المقابلين الجنوبي والشرقي على التوالي. وداخل هذه الأسطوانة يوجد مربع أصغر وبارتفاع يزيد بقليل عن عشرة أمتار ونصف، وهو أطول بنحو ثلاثة أمتار عن الجدار الخارجي المحيط. ويحتوي هذا الجناح على قاعة الصلاة، التي تم فصلها عن بقية المنشأة بواسطة كوات ضوء علوية مفتوحة للسماء.
وتصف لجنة التحكيم العليا لجائزة الآغا خان للعمارة هذا المشروع بالقول: (يتحدى تصميم المسجد، الممول بشكل أساسي من قبل متبرعي المجتمع المحلي، الوضع القائم ويدرك أن فراغ الصلاة يجب أن يعلي الروحانيات. ويحقق المسجد ذلك من خلال خلق فراغ داخلي غني بالنور والظل، ولكن في نفس الوقت يمتلك البساطة القوية التي تسمح بالتأمل العميق والتدبر أثناء الصلاة).
وتضيف لجنة التحكيم في تقريرها: (إن جودة البناء كثيراً ما ترفع من جودة الحياة. ولا يبدو ذلك أكثر وضوحاً في أي مكان أكثر من مسجد بيت الرؤوف، الذي يحوي طبقات هندسية معقدة من الفراغات - غرفة صلاة مربعة ضمن جدران أسطوانية، محاطة ببناء مربع منشأ من الطوب الطيني وهو بمثابة الوجه العام المتقشف للمبنى. هذه الرمزية المجردة لا تشوبها الأشكال التقليدية لعمارة المساجد، فقد ذهبت القبة والمآذن السائدة دائماً واللوحات الزخرفية من التصاميم والخطوط، لتحتل مكانها جدران محكمة الإنشاء من الطوب التي تضفي على المبنى هالة فريدة من الروحانية).
بالإضافة إلى جائزة الآغا خان للعمارة، تم الاعتراف ببراعة تبسّم المعمارية من خلال العديد من الجوائز الأخرى المرموقة مثل جائزة جميل للفن الإسلامي، التي حصلت عليها في عام 2018 لإتقانها في إنشاء مساحات تلخص الجوهر الروحي والثقافي للعمارة الإسلامية مع احتضان مفردات التصميم المعاصر. وفي عام 2020، أدرجت مجلة Prospect تبسّم كثالث أعظم مفكرة خلال حقبة كوفيد-19، حيث كتبت المجلة: (في طليعة إنشاء المباني المتناغمة مع بيئاتها الطبيعية، تتبنى هذه المهندسة المعمارية من بنغلاديش أيضاً تحديات التصميم المطروحة من خلال ما نقوم به بشكل جماعي لكوكب الأرض).
كما كانت مارينا تبسّم أول جنوب آسيوية تحصل على (جائزة لشبونة ترينالي للإنجاز مدى الحياة) (2022)، حيث أشادت لجنة ترينالي للعمارة في لشبونة باسمها. علاوة على ذلك، ظهرت أعمال تبسّم في المنشورات والمعارض المعمارية البارزة، مما عزز إرثها كمهندسة معمارية ذات رؤية تجسد تصميماتها القوة التحويلية للهندسة المعمارية لإثراء التجربة الإنسانية وتشكيل البيئة المبنية.