(ديفيد إي. كيلي) هو كاتب ومنتج تليفزيوني أمريكي بارز، ويُعد واحداً من أكثر الأسماء تأثيراً في مجال التلفزيون الأمريكي. كتب وأنتج عدداً كبيراً من المسلسلات الشهيرة، التي حظيت بإشادة نقدية وجماهيرية واسعة. ما لا يعرفه عنه الكثيرون أنه درس القانون وكان يمتهن المحاماة، مما ترك تأثيراً عميقاً وواضحاً على أسلوبه في الكتابة، خصوصاً في الأعمال التي تتناول القضايا القانونية، مسلسلات مثل (The Practice) و(Boston Legal) تمتلئ بتفاصيل دقيقة حول الإجراءات القانونية، المحاكمات، والتحديات الأخلاقية التي يواجهها المحامون، كما يظهر تأثير خلفيته القانونية في الحوارات الذكية والمتشابكة التي يشتهر بها، فالمسائل القانونية تتطلب قدرة على التفكير المنطقي والتحليل الدقيق، وهي مهارات حوّلها كيلي إلى أدوات سردية، حيث تجد في أعماله حوارات تعتمد على الحجة والجدال، هذا الأسلوب يجعل المشاهدين يشعرون أنهم داخل محاكمة فعلية، ولذلك كان هو الكاتب الأنسب الذي يستطيع اقتباس رواية إثارة قانونية من طراز (Presumed Innocent)، وتحويلها إلى الوسيط المثالي كدراما تليفزيونية.
يتميز ديفيد إي. كيلي أيضاً بأنه أحد أبرز الكُتاب الذين يستطيعون تناول موضوع العائلة بفهم عميق ومُتشعّب، بغض النظر عن التنوع الكبير في التصنيفات الدرامية التي يكتب فيها، فلديه القدرة على استكشاف تعقيدات الأسرة والروابط بين أفرادها، وإبراز تأثيرها العميق على الشخصيات والأحداث، وكيف أن العلاقات العائلية بكل ما تحمله من تعقيدات وولاءات وخيانات، هي شاغله الأساسي في كتاباته، مهما كان السياق الدرامي مختلفاً.
مسلسل (Big Little Lies) الذي يبدو في الظاهر أنه يتناول الصراع الاجتماعي والمنافسة بين الأمهات، إلا أن جوهره الحقيقي يكمن في استكشاف العلاقات العائلية المعقدة، النساء في القصة هن زوجات وأمهات، وكل قرار يتخذنه يتعلق بشكل مباشر بحماية أو تحسين حياتهن الأسرية، ستجد محاور رئيسة تُظهر كيف يمكن للعائلة أن تكون ساحة للصراعات الدرامية، مثل الصراعات الزوجية والعنف المنزلي، وحتى الروابط بين الآباء والأبناء.
في (The Undoing) رغم أن الحكاية تتمحور حول جريمة قتل والبحث عن الحقيقة، إلا أن الموضوع الأساسي يظل هو كيفية تفاعل الأسرة مع الضغوط الخارجية، تطور العلاقة بين غريس وزوجها تحت وطأة الشكوك، وكيف تؤثر الأسرار الشخصية على الروابط العائلية، وكيف يمكن أن تنهار الثقة التي تأسست على مدى سنوات.
أما في مسلسل (Love - Death)، الذي يحكي قصة حقيقية عن جريمة قتل وقعت في تكساس، فإن كيلي يستخدم العائلة كمنطلق لفهم دوافع الشخصيات، الزوجات والأزواج هنا يلعبون أدواراً محورية في تسيير الأحداث، الخيانة الزوجية والرغبات المكبوتة بأشكالها المختلفة هي جزء لا يتجزأ من العمل، رغم أن المسلسل يتناول ثيمات الجريمة والغموض، إلا أن العلاقة بين الزوجين وحياتهما هي التي تشكل نواة القصة، لأن فهمنا لتلك العلاقة الزوجية المعقدة، هي ما يجعلنا نستوعب ونتفاعل مع القصة وشخوصها.
يُظهر كيلي كيف يمكن للعائلة أن تكون محفزاً لأعمال عنف مأساوية، أو تكون السبب في سلسلة من الأحداث التي تقود إلى تفجر الأمور، ستجد في أعماله أن الدافع الإنساني العميق وراء قرارات الشخصيات غالباً ما يكون مرتبطاً بالعائلة، فهو يرى العائلة باعتبارها الإطار الذي تتشكل فيه هوياتنا وصراعاتنا، وبالتالي يستخدمها كعنصر محوري ليجعل قصصه أقرب إلى حياة المشاهدين، الذين يجدون في تلك الحكايات شيئاً من تجربتهم الشخصية.
في مسلسل Presumed Innocent، يستمر ديفيد إي. كيلي في تقديم العائلة كعنصر محوري، حتى في إطار دراما قانونية وإثارة نفسية، المسلسل مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب (سكوت تورو) نُشرت عام 1987، الرواية لا تعد مجرد إثارة قانونية بل هي أيضاً استكشاف نفسي عميق للذنب والبراءة والطبيعة المراوغة للحقيقة، أحد الأفكار المركزية التي تتناولها الرواية هو فساد النظام القانوني وقابليته للخطأ، تورو بخلفيته كمحام، يوضّح كيف يمكن أن يتأثر السعي لتحقيق العدالة، بالتحيزات الشخصية وصراعات السلطة والتأثيرات السياسية، يتردد صدى هذا الموضوع طوال الرواية.
كما تفكك الرواية حياة العديد من شخصياتها المزدوجة، كاشفة عن الدوافع والمشاعر الخفية التي تحركها، فمثلاً العلاقة الغرامية بين راستي وكارولين وتداعياتها، تسلّط الضوء على الهشاشة والأزمات الأخلاقية التي يواجهها الأفراد عندما تتداخل حياتهم الشخصية والمهنية، وتستكشف الرواية موضوع الهوية والإدراك الذاتي، رحلة راستي خلال المحاكمة تُجبره على مواجهة شخصيته والصورة التي يعكسها للعالم، هذا التأمل الداخلي يضيف بعداً نفسياً، مما يجعل القارئ يشكك في مصداقية رواية راستي وطبيعته الحقيقية.
تدور الحبكة الرئيسة للرواية حول راستي سابيتش مساعد المدعي العام، وهو نفسه المشتبه الرئيس في جريمة قتل زميلته كارولين بوليموس، التي كانت تربطه بها علاقة غرامية سرية، ويجد راستي نفسه محاصراً بين محاولته إثبات براءته وبين تفكك حياته الشخصية، كما يصبح مثار شكوك الجميع، سواء زملاؤه في العمل أو أسرته.
ولأن الحبكة جذابة للغاية للتحويل إلى وسيط بصري، جاء الاقتباس السينمائي للرواية الذي صدر عام 1990، من إخراج (آلان ج. باكولا) وبطولة (هاريسون فورد)، ولكن السيناريست (فرانك بيرسون) لم يتمكن من تقديم معالجة سينمائية محكمة للرواية، وعلى الرغم من التقييم النقدي الجيد للفيلم، إلا أن مشاهدته اليوم بعد صدور المسلسل تجعل عيوبه جلية، فالفيلم يتحرك ببطء شديد لا يتلاءم مع نوعه، يجري راستي التحقيقات بهدوء وروية دون أي إحساس بالتوتر، ويستعرض الفلاش باك العلاقة الغرامية بينه وبين كارولين بهوادة وتأن، مع الالتزام لما جاء في الرواية بأن كارولين كانت سيدة متعددة العلاقات، مما يقلل من التعاطف ناحيتها، ثم وبعد مرور 50 دقيقة كاملة، يظهر أخيراً الاتهام والشكوك ناحية راستي بكونه مشتبهاً به. وتقيد الفيلم بوجود شخصية ساندي ستيرن المحامي الذي يدافع عن راستي، تسبب في ترهل الإيقاع، والشعور أن الفيلم مُقسّم إلى جزأين منفصلين عن بعضهما البعض، الأداءات التمثيلية أيضاً غير موفقة، حيث لا نشعر من أداء هاريسون فورد أنه يفتقدها أو نادم أو منزعج من توليه للقضية، والأمر يسري على بقية الممثلين الذين لم يقدموا أداء مناسباً لأي لحظة درامية يمروا بها، والعيب في الأساس مرهون بالكتابة وتوجيهات المخرج، الذي شارك في كتابة السيناريو، ولم يمتلك الحساسية الكافية لإدارة مشاعر الشخصيات وفهمها، وركز عمله على سير الحبكة وصولاً إلى المفاجأة في نهاية الفيلم، التي عول كثيراً أنها ستخفف من عثرات السرد، لتبقى التجربة في مجملها غير موفقة وكانت في حاجة إلى معالجة أكثر ذكاء.
وبعد أكثر من ثلاثين عاماً يظهر اقتباس جديد، يتمتع بالذكاء الكافي، ولا يكتفي بتجنب أخطاء سيناريو الفيلم، ولكنه يتفوق عليه وحتى على النص الأدبي نفسه لعدة أسباب، منها أنه يسمح باقتباس أكثر وفاء وتوسعاً لعمل تورو، مع وقت عرض أطول، حيث يوفر الوقت الطويل استكشافاً أعمق للأبعاد النفسية والعاطفية للقصة، مما يمنح المشاهدين فهماً أعمق لدوافع الشخصيات، كما يتيح الفرصة لإدراج قصص فرعية وأقواس لشخصيات تم حذفها أو تطويرها بشكل محدود في الفيلم، كما قدم كيلي معالجة معاصرة للقضايا المتعلقة بالجنس وديناميكيات السلطة والنظام القانوني، مما يجعل المسلسل ليس فقط دراما قانونية مثيرة، بل تعليقاً على قضايا مجتمعية أوسع تُناقش اليوم.
ولكن الأمر ليس مجرد نسخة أطول فقط، ديفيد إي. كيلي يبدأ الأحداث بشكل خاطف معلناً مقتل كارولين بوليموس، وهو ما يُربك راستي وزوجته باربرا. ينتقل راستي بسرعة إلى مسرح الجريمة، ويقرر المدعي العام ريموند هورغان أن يتولى راستي القضية لأنه أفضل من تومي مولتو الذي أراد توليها، وهكذا في مشهد واحد تأسس كل شيء بسرعة، في حين أن مولتو في النسخة السينمائية ظل اسمه يتردد كشبح طوال الفيلم قبل أن يظهر أخيراً عند منتصفه، رغم أنه الخصم الرئيس لراستي، ثم يقدم المُتهم بقتلها، وهو مجرم مسجون تسببت كارولين في سجنه، وسبب اتهامه أن جثتها وُجدت مربوطة بنفس الطريقة التي ربط بها ضحاياه، ولا ينسى المرور بفلاش باك على ذكريات خاطفة بين راستي وكارولين يظهر معها تألم وحزن راستي على ذكرياتهما العاطفية معها، وقبل أن تختتم الحلقة الأولى، يشير مولتو بأصابع الاتهام تجاه راستي كونه ليس مقصراً في التحقيق وإنما معرقل له وبشكل متعمد واحترافي، ثم يعطينا الختام المثالي بمعلومة أن كارولين كانت حبلى، لتكون مفاجأة مدوية.
كيلي لم يكتف بإعادة ترتيب الأحداث بشكل جذّاب، ولكنه صنع عدة قرارات جعلت العمل أكثر جاذبية وعمقاً، أولها هو أنه جعل لراستي ابنين في عمر المراهقة، وليس طفلاً واحداً صغيراً كما في الفيلم، واستفاد من ذلك بجعل المواجهات والاعترافات أمام العائلة أشد وطأة وتأثيراً، فبدلاً من الاعتراف للزوجة فقط، أصبح الاعتراف بالخيانة الزوجية أمام الأبناء يشكل عبئاً نفسياً ثقيلاً عليهما. من ناحية أخرى ومع تقدم الأحداث، نكتشف أن أحد الابنين كان على علم بما يدور، وهو ما يضعه في دائرة الشبهات ويزيد الأزمة تعقيداً.
أيضاً قرر كيلي استحداث شخصية جديدة، وهي الطبيبة النفسية ليز راش، طبيبة راستي وباربرا، التي تعطي المساحة الكافية لهما للتعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم الداخلية وقوس علاقتهما العاطفية، وهو ما أثرى الشخصيات وجعلها أكثر فهماً وعمقاً. في المقابل قرر كيلي حذف شخصية ساندي ستيرن تماماً من معالجته، وجعل ريموند هورغان هو محامي راستي بعد أن غادر منصبه السياسي، وبذلك جعل الشخصية أكثر قوة بدلاً من أن تختفي رغم كونها شخصية مؤسسة في بداية الأحداث. وهو ما يعني أن وجود وقت إضافي لمعالجة الرواية لا يعني فقط إضافة شخصيات جديدة، بل إن حذف بعضها مفيد تماماً كالإضافة.
وفي مقابل الأداء التمثيلي المتواضع في الفيلم، نجد هنا كل الممثلين في أحسن حالاتهم. قدم (جيك جيلنهال) الدور بانفعال منضبط ملائم للحالات الشعورية التي تمر بها الشخصية، وهو أمر صعب خصوصاً أنه يتعرض كثيراً للانهيار والغضب، ورغم ذلك لا تشعر أبداً بأي مبالغة، كما أدى (بيتر سارسجارد) دور تومي مولتو بأفضل ما يكون. تمكن من التعبير عن مشاعر الغيرة التي طالته من علاقة راستي وكارولين، وهشاشته الذكورية أمام رفض كارولين له أكثر من مرة. أما الممثلة الأثيوبية (روث نيجا) كانت صاحبة الأداء الأفضل في المسلسل، حيث لعبت دور باربرا بحساسية وتفهّم عميق، فهي امرأة مخدوعة في زوجها، ولا يمكن التنبؤ برد فعلها، إن كانت تسعى إلى الانتقام، أو تحاول فعلاً معاونته على إنقاذ العائلة، وكل ذلك دون أن تتسبب في إرباك المتفرج، أداء من الطراز الرفيع، في نسخة درامية تستحق المشاهدة.