تُعدّ الفنون البصرية من أبرز وسائل التعبير عن الهوية الثقافية والتاريخية للأمم التي تبحث عن نسج الروابط البصرية والجمالية من خلال الفن، إذ تساعد القوة البصرية على خلق نسيج اجتماعي وجماعي من شأنه ربط التجارب ببعضها البعض لتصل إلى العلوم كافة، مثل الفيزياء والطبيعة البشرية والكيمياء، وغير ذلك من العلوم المرتبطة بالفنون التشكيلية، أو الأصح بالقوة البصرية التي خصصتها لإظهار الفروق الجمالية التي تفسح المجال لإثراء الهوية الثقافية، التي يمكن الكشف من خلالها عن هويتنا الثقافية والمعادلة الفطرية التي تولد من القوة البصرية في الفن باعتباره الوسيلة الأقوى في التواصل بين الحضارات، حيث تنعكس من خلالها القيم والمعتقدات والجماليات التي تشكل حياة الأفراد والمجتمعات، فكيف تتغذى القوى البصرية في الشرق والفروق الجمالية في الفن في زمن تتوسع فيه البصمة الفنية عبر الذكاء الاصطناعي؟
في السياق الشرقي، يتمتع الفن بقوة بصرية هائلة، تجعله أداة فعّالة لنقل الأفكار والمشاعر. تمتاز الفنون الشرقية بتنوعها وغناها، مما يتيح لها استيعاب عناصر متعددة تعكس الثقافة والبيئة المحيطة. فما هي الأعمال الفنية التي تفرض علينا إعادة التفكير في إبراز الفروق الجمالية في الفن؟ وهل استطاع البعض من الفنانين تأكيد هوياتهم الفنية الحديثة، كالفنان السعودي أحمد ماطر، والفنان المصري معتز نصر، والفنانة ليلى الجندان، التي تفتح الرؤية وتجعل بوصلتها محاكاة تجمع بين الفنون عبر ريشة تؤكد على معنى القوة البصرية في الشرق والفروق الجمالية في الفن، وكأنها تضع معادلات تجمع بينها وبين الفنان أحمد ماطر ومعتز نصر، دون أن تنتزع هويتها الأنثوية الشرقية المحملة بعبق الجمال العربي الخاص؟
ولكن بقي السؤال الأهم، الذي يثير بي عدة توجهات بحثية تفرض نفسها: ما الذي يمكن اكتشافه في الفن عبر الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن أن يضفي على روح القوة البصرية ما تضفيه لوحات هؤلاء الثلاثة معاً في الفن من تنوع في التقنيات والتجديد والبعد عن الكلاسيكية والنظريات المقيدة في الفن؟ وهل ستتوسع البصمة الفنية للأجيال القادمة عبر الذكاء الاصطناعي؟
تتجلى الفروق الجمالية بين الفنون المختلفة في الشرق من خلال الأساليب والتقنيات والرموز المستخدمة، والتي تعكس التراث الغني والتأثيرات الثقافية المتبادلة. من الفنون الإسلامية والزخارف المعمارية إلى الرسم التقليدي والفن المعاصر، تعكس كل هذه الأشكال الفنية رؤية فريدة للعالم وللإنسان. لنشعر أن الفن بات العنصر الأساسي في فهم الهويات المتشكلة عبر الأجيال، من خلال المعارض التي تقام في كل بلد والتأثيرات التي تفرضها النظم الاجتماعية والثقافية فيه، وبالتالي التنوع الذي يمكن أن نخاطب به البصر في العالم التكنولوجي الحديث الذي يأخذنا صوب التغيرات التي حدثت في العالم، قبل أن نحدد التغيرات المؤثرة على الفن في الشرق من خلال الأجيال الجديدة التي تتمرد على ما سبق وتتمسك بالأسس التي يمكن لها أن تكون اللب أو الفكرة الأساس أو اللبنة الحقيقية للقوة البصرية في الشرق تحديداً، خصوصاً ونحن نملك الكثير من التراثيات التي يمكن تطويرها، والتي تحمل في نفس الوقت هويتنا الشرقية، وإن بدت الأشكال تميل نحو العلوم أكثر كما هي الحال في لوحات أحمد ماطر. وكأن قانون الجذب هو لوحة تستقطب وتجذب البصر نحوها، لتترك الذهن في عصف يدفعنا للبحث عن الثقافات الأخرى في الفن. فماذا عن الفنون الإسلامية والفنون الصينية والهندية، وغيرها؟ وهل يمكن أن يتطور الفن الشرقي في المستقبل ويحاكي العالم بقدرته على بث العلوم المختلفة أو الإيحاء بنظريات جديدة في الفن؟ وما تأثير الفنون المعاصرة والتكنولوجيا على الفنون البصرية في الشرق؟
ما بين الفكرة والانطلاق منها، بدءاً من الحروفيات العربية في الفن أو الزخارف الإسلامية، والواقع في الفن الغربي، تبقى التقاط اللحظة الموحية بالعمل الفني هي الفكرة التي يمكن توليد الأعمال الفنية عبر الذكاء الاصطناعي، الذي سيجعل من القوة البصرية هوية لحضارات أو أمم تتسابق فيما بينها عبر الفن، لما سيحمله من إضاءات مختلفة تؤثر على الذهنية البصرية، وبالتالي على فتح الأبواب أمام الذكاء الفني التشكيلي وما يمكن أن يكتشفه الذكاء الاصطناعي في لوحات قديمة كلاسيكية، كلوحة الرقص على الشاطئ لإدوارد مانش، ولوحة التركي عثمان حمدي، وهو أحد أشهر الشخصيات الثقافية في أواخر التاريخ العثماني، والذي استطاع الجمع بين عدة تقنيات. إلا أن التوازن في لوحته (قارئ القرآن) في ذلك العصر يمكن أن يتولد منها العديد من الأشكال والألوان وبواقعية سحرية. وحتى يمكن أن يتولد منها عبر الذكاء الاصطناعي الأشكال الزخرفية القائمة على فتح الفضاءات الفيزيائية والرياضية والدخول في علم المتناقضات البصرية.
قد يستغرب القارئ لمقالي هذا، لما تحمله اللوحات التشكيلية الاستشراقية والكلاسيكية، وحتى لوحة الرقص على الشاطئ وغيرها من معادلات توليدية، هي بمثابة توسيع للبصمة الفنية للأجيال القادمة بفضل الذكاء الاصطناعي. فالتكنولوجيا الحديثة توفر أدوات جديدة للفنانين، مثل برامج توليد الفن، التي تمكنهم من استكشاف أساليب جديدة وتوسيع حدود الإبداع. يمكن للذكاء الاصطناعي أيضاً أن يساعد في تحليل الأعمال الفنية وتقديم أفكار مبتكرة، مما يعزز من تنوع التعبير الفني. وبالتالي، يفتح العوالم البصرية على بعضها البعض لتندمج في البصمة الفنية التي أعتبرها بحق القوة البصرية القادمة لجمع الثقافات مع بعضها البعض في بصمة واحدة يتولد منها العديد من الأفكار التي بقيت راكدة في لوحات الفن عبر العصور.
فهل الذكاء الاصطناعي هو قوة دافعة ستعيد تشكيل مشهد الفن في المستقبل؟ بينما تفتح هذه التكنولوجيا أبواباً جديدة للإبداع، تتطلب منا أيضاً التفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية التي ترافقها. البصمة الفنية للأجيال القادمة وما الذي سينتج عن هذا التفاعل المثير بين الإنسان والآلة؟ وهل سيؤدي إلى تشكيل تاريخ فني جديد ومثير جداً للبصر الذي يُخضع كل شيء للموازين الجديدة المخضبة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟
إن تعزيز فهم القوة البصرية في الثقافات الحالية هو توليد لمجتمعات إيجابية ومتسامحة، وتسمح باحتضان الأعمال الفنية كافة، بل والبحث عنها وفهمها، لأنها تفتح النوافذ على فكرة إعادة النظر في فهم العصور القديمة بشكل مختلف كلياً، ناهيك عن الخطوات الأولى لتفكيك العمل الفني عبر الذكاء الاصطناعي وتوليد العديد منها من حيث التعددية البصرية التي ينشأ عنها لغة بصرية جديدة بدأنا نلمسها في الفنون في العديد من الدول، إن في الشرق أو الغرب. وبالتالي، فإن أعمالاً فنية مشابهة لأعمال الفنان السعودي أحمد ماطر والفنان المصري معتز نصر والفنانة السعودية ليلى الجندان وغيرهم كثير، كالفنان الصيني ووجوانزونج (Wu Guanzhong)، وهي عبارة عن أشكال يمكن تصنيفها بسهولة، إلا أنها تمثل الصعود بمعناه الفلسفي الشرقي للارتقاء الروحي، أو حتى الأشكال من مثلث ومستطيل، وحتى خطوط طول وخطوط عرض، وهي عناصر يتمسك بها الإنسان كما يتمسك بها الذكاء الاصطناعي في التشكيل أو الأصح التوليد. وهي مفردة ستحمل الكثير في الزمن القادم الذي سيكون بمثابة قوة بصرية لثقافات مجتمعة في نسيج واحد لا يمكن فهمه ما لم نتمسك بالمعنى الأساسي للقوة البصرية وتأثيرها على بقية العلوم كافة وصولاً للأدب.
فهل الفن سيكون بمثابة ثورة ثقافية جمالية بصرية ستترك الجميع في حالة ذهول من أعمال فنية قديمة سيقرأها الذكاء الاصطناعي ويُنتج منها المزيد مما يمكن القول عنه النصوص البصرية القوية المؤثرة على ثقافات العالم أجمع؟
إن البصمة الفنية للأجيال القادمة ستكون بلا شك نتيجة لهذا التفاعل المتزايد بين الفن والتكنولوجيا. ومع ذلك، من الضروري أن نتذكر أن الإنسان يبقى جوهر العملية الإبداعية في قدرته على خلق قوة بصرية عالمية تشد أو تجذب إليها الذهن البصري إن صح لي قول ذلك. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة قوية، لكن الإبداع الحقيقي يأتي من التجربة البشرية، من العواطف والتحديات التي يواجهها الفنان في حياته اليومية أو واجهها كما هي الحال في لوحات عديدة كلوحة الصرخة. في نهاية المطاف، إن الفن هو وسيلة للتواصل الإنساني، وكلما تطورت أدواتنا، يبقى الهدف الأساسي هو نقل المشاعر والأفكار بطريقة تلامس الأرواح وتجمع بين الثقافات.