مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الفيلم الإيطالي (ساعي البريد): قصة نجم شهير ورجل في الظل

هل من الممكن أن يتم التخلي، في فيلم سينمائي ما، عن تدوين سيرة نجم شهير لصالح رجل من الظل؟ هل من الممكن أن يتجه الضوء إلى ساعي بريد ويترك شاعراً شهيراً بحجم التشيلي الكبير بابلو نيرودا؟ الإجابة تأتي: نعم.
وهذا تماماً ما حدث في فيلم (ll Postino 1998)، الذي منح مخرجه مايكل رادفورد البطولة فيه لرجل إيطالي عاطل يعيش في جزيرة (كالا دي سوتو)، وكان قد ترك مهنة صيد الأسماك لأنه كان يتشكى من البحر ومن الرطوبة، ليقول له والده: أنت لم تحب الصيد قط!.

قرأ (ماريو روبولو) إعلاناً عن طلب ساعي بريد، مرفقاً بشرط صغير وهو أن يمتلك المتقدم لمثل هذه الوظيفة دراجة، وقد تقدّم ماريو إلى تلك الوظيفة ليقنع والده بأنه تخلى عن كونه رجلاً عاطلاً، ليفاجأ بأن مهمته البريدية تقتصر على أن يسلم الرسائل لرجل واحد هو الشاعر بابلو نيرودا، الذي تم نفيه إلى تلك الجزيرة الإيطالية الصغيرة.
عندما أخذ موظف البريد يلقن ماريو مهمته الجديدة نبهه إلى أنه سيتعامل مع رجل عظيم يستحق الاحترام، وأوصاه أن يُلقي عليه التحية عند مقابلته ويشكره فإن دفع له إكرامية فإن عليه أن يعاود شكره ثانية، ويسهم ماريو في تغذية الهالة التي رسمها موظف البريد ليقول إنه الشاعر الذي تحبه النساء وهي العبارة التي التقطها ماريو عندما كان يشاهد في التلفزيون تقريراً عن وصول نيرودا إلى إيطاليا، حيث انبهر ماريو بكثرة المعجبات اللواتي كن في استقباله، وقد ذكر التقرير أنه الشاعر الذي يكتب قصائد على هوى المشاعر النسائية. لكن موظف البريد اعترض بعصبية على هذه الصفة وقال «الذي يحبه الناس»، ليعلق ساعي البريد ماريو بقوله «الناس، والنساء أيضاً». وفيما بعد، عندما كان ماريو يتفحص الرسائل وجد أن أغلب تلك الرسائل مرسلة من أسماء نسائية، غير أن موظف البريد برر هذا الإعجاب بقوله: «حتى النساء في تشيلي يكترثن بالسياسة».
إن تقدير موظف البريد لنيرودا لم يكن لكونه شاعراً عظيماً فحسب بل لكونه شاعراً شيوعياً عظيماً، وهو أمر يتّفق مع الانتماء السياسي للموظف نفسه، بينما ينصرف ساعي البريد، دون أن يتعمّد ذلك، إلى استكشاف عوالم ذلك الشاعر ويمسه الشغف بقصائده.
المسافات تقترب
في الأيام الأولى لماريو كساعي بريد، وعندما كان يسلم الرسائل لنيرودا، لم يكن يفكر سوى في الإكرامية التي قد تساعده على أن يحصل على تذكرة لدخول السينما، لكن هذا التفكير توارى وأصبح مدهوشاً بلطافة الشاعر وبرومانسيته مع مساعدته ماتليدا التي كان نيرودا يناديها بأمورا، وهذا التدليل توقف عنده ماريو كثيراً، وأعجب به. لذا أصبح ساعي البريد يتخلى عن مهمته ليسأل نيرودا عن احتياجاته الشخصية. بعد ذلك راودته فكرة أن يوقع له نيرودا على كتابه. وعندما طلب ذلك التوقيع لم يكن بسبب الإعجاب بل بغرض التباهي، فهو يقول إنه سيذهب إلى نابولي ويقول للفتيات إنه صديق نيرودا، شاعر الحب، ليحتج رئيسه الشيوعي مرة ثانية ويردّ عليه بحدة «بل شاعر الناس». لكن المفاجأة أن نيرودا كتب له (تحياتي)، (بابلو نيرودا) واعتبر ساعي البريد هذا التوقيع بلا معنى وفكر في أن يعاود الذهاب إلى نيرودا كي يعيد صياغة التوقيع فـ(يكون إهداؤه لي كأننا صديقان) بحسب تعبيره، حيث شعر ماريو بأن توقيع نيرودا لا تظهر فيه خصوصية الإهداء بل إنه عندما كتب ذلك التوقيع كان ممسكاً ببصلة، وقد احتدّ عليه رئيسه مجدداً «أتظن الشاعر يعجز عن التفكير وهو ممسك ببصلة؟»، ثم عمد إلى شرح الأمر لماريو البسيط، الذي تظهر عليه ملامح السذاجة بالقول إن نيرودا رجل مشغول ولا يمكن أن يتفرغ لجعل الناس سعداء، فما كان من ماريو إلا أن ردّ عليه متهكماً «لكنه شيوعي.. ألم تقل إن الشيوعيين يحبون الناس؟».
المسافات تزداد اقتراباً
التواصل مع نيرودا ألقى بأثره على اهتمامات ماريو، الذي صرح في بداية استلامه للوظيفة، بأنه يقرأ ويكتب ولكن ليس بطلاقة. اقترابه من شاعر بحجم نيرودا رغّبه في القراءة وصار كلما ذهب إلى الشاعر يجيب على أسئلته بمقاطع من قصائده، لكن نيرودا غضب لأن ساعي البريد المتباهي بقراءة الشعر كان يستشهد بعبارات من كتابه الأول واحتج أيضاً لأن ماريو كان يمطره بالتشبيهات والاستعارات. ولم يكتف ماريو بالتباهي بقراءة الشعر بل أخذ يسأله عن الاستعارات وعن عبارته القائلة «سئمت كوني رجلاً»، وعن الدافع الذي من أجله تجعلك رائحة دكاكين الحلاقة تتنهد.
بل، وفي مرة أخرى، يفاجئ نيرودا برغبته في أن يكون شاعراً هو أيضاً «أريد أن أكون شاعراً.. بالشعر سأجعل النساء تعشقني». كان يظن أن مهمة الشعر هي جعل صاحبه في مكانة تحبه من خلالها النساء، ثم بعد ذلك يسأله كيف يصبح شاعراً؟ لكن نيرودا يرفض تحول ماريو إلى شاعر بحجة أن الشعراء يصبحون بدينين وعليه أن يحتفظ برشاقته ووظيفته.
بهذا الاهتمام من ماريو تضيق المسافة بين الشاعر نيرودا وساعي البريد البسيط، ويصبح الحديث عن الشعر جزءاً من التواصل بينهما، بل إن نيرودا صار يأخذ رأي ماريو في بعض القصائد أحياناً.
باقترابه من نيرودا، وبفعل تسرب الشعر إلى قلبه، صار ماريو مهيأ لأن يعشق (بيترشا روسو)، تلك الفتاة التي لم يستطع أن يتحدث معها، ولا أن يقول لها شعراً كشعر نيرودا، لكن ما أن استشعر أنه أصبح صاحب حظوة عند نيرودا حتى طلب منه أن يكتب قصيدة عن بيترشا روسو لينفعل نيرودا ويرفض مبرراً إنه لا يعرفها وعلى الشاعر معرفة كيان إلهامه. لم يقتنع ماريو بهذا العذر بل توسل نيرودا قائلاً «لا أحد سواك يستطيع مساعدتي.. الجميع هنا صيادو سمك»، لكن الشاعر نيرودا وبخبرته في الحياة يجيبه «صيادو الأسماك يقعون في الغرام أيضاً ويستطيعون التحدث مع حبيباتهم ليقعن في الحب ثم يتزوجوهن».
وبما أن ثمة تناغماً يشبه تناغم الأصدقاء والرفقاء قد تكوّن بين ساعي البريد والشاعر فإن نيرودا تخفف من تشدده وأخذ صديقه ساعي البريد إلى الحانة ليلفت نظر فتاة الحانة بيترشا، التي عشقها ماريو، إلى وجودهما فتزهو به وهي تراه برفقة الشاعر الكبير، بل إن نيرودا تعمّد كتابة إهداء حميمي على دفتر قام بإهدائه لماريو مما يجعل ماريو يتشجع ويبدأ في نسج الكلمات العاطفية التي استوحاها من قصائد نيرودا.
سطوة الكلمات
الشعر الذي شجع ماريو على مغازلة بيترشا. الشعر الذي خلق من ماريو رجلاً آخر، صارت له سطوة مؤثرة على فتاة الحانة التي أخذت تحلّق مع استعارات ماريو التي استعان بها من قصائد نيرودا فهو عندما قال لها «أحب صمتك لأنه يجعلك وكأنك غائبة» جعلها ذاهلة، ثم أردف قائلاً لها، بلغته الشعرية المكتسبة حديثاً، «ابتسامتك تحلق مثل الفراشة». لكن العمة روسا، وهي تلك العجوز المتشددة، لم يرق لها الهيام الذي بدا على بيترشا، وكانت تعتقد أن ماريو سيتجاوز هذا الغزل بالكلمات إلى ما هو أبعد، فها هي تحذّر ابنة أخيها بقولها «ساعي البريد خاصتك كما أن لديه فم فإن لديه يدين، فما أن يبدأ رجل بمداعبتك بالكلمات، فهو ليس بعيداً عن مداعبتك بيديه». لكن باتيرشا العاشقة تعترض على توجس العمة من الشعر فتقول لها «ما من خطب في الكلمات»، لتجيبها العمة في غضب شديد «الكلمات هي أسوأ شيء على الإطلاق. إنني أفضّل أن يتحرش بك سكيراً في الحانة عن أحد يقول: ابتسامتك تطير كالفراشة»، وعندما حاولت بيترشا إقناع عمتها بأن ماريو رجل محترم تقول لها العمة إنّه عندما يتعلق الأمر بالفراش فلا فرق بين شاعر وكاهن وشيوعي.
لم تكتف العمة بجدلها مع بيترشا بل تذهب إلى نيرودا لأنها ترى أن ماريو تعلم منه الكثير ولكي يقرأ لها القصيدة التي وجدتها مع بيترشا. لم تكن تلك القصيدة لماريو بل هي لنيرودا، الذي وقع في حرج لم تستشعره العمة روسا، فالأوصاف الحسية التي في القصيدة والتي جعلت العمة روسا تهدد ماريو بالقتل هي من خيال نيرودا وليس من ماريو، لكن نيرودا أظهر الفرح السري وهو يسمع العمة تقول إن تلك التشبيهات تنطبق على باتيرشا وكأن ماريو شاهدها وهي عارية.
ضحية الكلمات
عندما تخوف ماريو من تهديد العمة بالقتل شعر أنه تورط، وأن الكلمات قادته إلى أفعال لم يكن يجرؤ أن يفعلها لولا أنه تعرف على شعر نيرودا «لقد أقحمتني في هذه الفوضى وعليك أن تخرجني منها.. أعطيتني كتباً.. علمتني أن أستعمل لساني في كتابة الكلمات أكثر من لعق الطوابع.. إن كنت عاشقاً فهذا ذنبك». هكذا قال ماريو لنيرودا، ومع هذا الادعاء الساذج من ساعي البريد يجيبه نيرودا: «أعطيتك كتبي، لكن لم أسمح لك بسرقة قصائدي وإعطاء بيترشا القصيدة التي كتبتها لماتيلدا». لكن كان لماريو مبرره في سرقة قصائد نيرودا «الشعر ليس حكراً على كاتبه وإنما لمن يحتاجه». ومع هذا، فقد سعى نيرودا في وساطة زواج ماريو من بيترشا ونجح في ذلك المسعى.
تباعد المسافات
انتهت أزمة نيرودا السياسية وقرر أن يعود إلى تشيلي فودع صديقه ساعي البريد بحميمية، وأخبره أن الأوضاع في بلاده لا تستقر على حال، لذا فسيترك بعض الأشياء خلفه فلربما عاد ذات يوم. بعد رحيل نيرودا عاش ساعي البريد في مأزق فقد رمزه الشعري، وعندما رأى صورته في الجريدة تنازع مع موظف البريد على الاحتفاظ بتلك الصورة. وفي مرة أخرى عندما قرأ مقابلة لنيرودا في إحدى الجرائد وتحدث فيها بشكل عابر عن منفاه في تلك الجزيرة، شعر ماريو بالخذلان لأن صديقه الشاعر تناساه تماماً ولم يأت على ذكره. لكن ذلك الخذلان لم يكن ظاهراً إذ حاول أن يدافع عن نيرودا ويبرر عدم ذكره أسماء من عرفهم في تلك الجزيرة بأن الشعراء يتكلمون عن الطبيعة لا عن الناس.
وعندما وصلته أول رسالة من مكتب نيرودا فرح بها ، بل إنه تأخر في فتحها، لكنه عندما قرأ الرسالة وجد أنها رسالة جافة مضمونها هو إرسال أشياء تخص نيرودا. بل إن تلك الرسالة لم تكن حتى من بابلو نيرودا بل من مساعدته. عندما قرأ تلك الرسالة أمام زوجته وعمتها وصديقه الموظف وبعد أن عرفوا مضمونها أصابتهم الخيبة من هذا التناسي، وكان الأسى يتجلى في ملامح ماريو الذي أخذ يدافع عن نيرودا بعد اتهام العمة بأنه لن يذكرهم فقد انتهت فائدتهم بالنسبة لنيرودا فقال «لقد علم أنني شاعر سيئ ومع ذلك فقد عاملني كصديق، كأخ. فلماذا يتذكرني؟ كشاعر، لست بارعاً. كساعي بريد، بالكاد يتذكر. ساعي البريد الذي خدمه عندما عاش في إيطاليا. كشيوعي؟ لم أكن كذلك».
الشغوف صار مناضلاً
بعد زمن طويل عاد نيرودا إلى تلك الجزيرة وذهب إلى منزل ماريو. لكن لم يجده ووجد زوجته باتشيريا وطفلها الذي يحمل اسم بابلو تيمناً بالشاعر بابلو نيرودا، لتخبره الزوجة أن ماريو قتل في إحدى المظاهرات. كان ماريو قد أصبح شيوعياً وكان أحد الشبان الذين يلهمون المتظاهرين بالقصائد، فقد تحول ماريو من رجل شغوف بقصائد الحب في شعر نيرودا إلى رجل يعتنق الشيوعية كما هو رمزه الشاعر بابلو نيرودا. هذا التحول الذي حدث في غياب نيرودا أبهجه وفي ذات الوقت حزن على فقدان صديقه الطيب ساعي البريد.
ختاماً إنّ الفيلم وهو يتوغل في تلك العلاقة الحميمية بين رجل مشهور بحجم نيرودا وبين رجل أقرب إلى البراءة والسذاجة التي يتصف بها ساعي البريد ماريو يؤكد على خطورة الاستلاب، فقد ذهبت كلمات نيرودا بماريو إلى حدّ العشق ثم بعد ذلك إلى الانتماء السياسي إلى أن وصل إلى كتابة الشعر الذي يلهب الجماهير، لكنه، في النهاية، قتل وصار ضحية للكلمات وللانتماء السياسي. كذلك فإن الفيلم، وفيما عدا النهاية، أخذ من نيرودا حالته الإنسانية التي أشعرتنا بحالة من الإعجاب الإنساني بهذا الشاعر، لكن مخرج الفيلم أظهر تعاطفا شديداً مع فكرة أن الشيوعية هي الخيار الأمثل للشعوب.

ذو صلة