مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

المعرفة الإنسانية : تاريخ العلم وتطوره

لاشك أن العاقل هو من استفاد وأفاد غيره، وأن العالم من أضاء شمعـة في حياة الناس، والقوي من أعطى لا من أخذ. هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وقد وعدنا الله بالأمن والسلام والاستقرار إذا أخذنا بأسبابه، والناس فـي ظل العولمة والحدود المفتوحة، والاتصال المباشر، والرؤية اللحظية لكل ما يجري في الدنيا؛ أصبحوا في أمس الحاجة إلى القيم العربية والإسلامية التي أوضحها القرآن، وعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين استطاعوا في أقل من عشرين عاماً­ أن يكونوا سادة الدنيا في العلم والمعرفة والحضارة والتقدم والعمران. فالإسلام يدعو في قواعده الأساسية إلى التقدم العلمي والحضاري ليكون الإنسان مثالاً لإنتاج المعرفة وتطورها وتطبيق المعرفة على نفسه وعلى البشر من دون استثناء.

يقلل البعض من قيمة تاريخ العلم وربما ينكر دوره في المعرفة، فالمهم في رأي هذا البعض ­حسب وجهة نظرهم العلمية هو الحاضر وما يعرفونه اليوم ويطبقونه ويقومون به، فيعيش هذا البعض معاصراً وممارساً للإنجاز الإنساني، بغض النظر عما كان في الماضي، إلا أن هناك وجهة نظر أخرى تقول بأن العلم وتاريخه هما وجهان لعملة واحدة لا يمكن أن يكون لأحدهما قيمة فاعلة من دون الآخر، خاصة إن تطلعنا لتطوير المعارف العلمية وتحسين الأداء، إذ يصعب أن نفهم الحاضر بالعمق الكافي إلا إذا علمنا كيف نبدأ وكيف نتطور وطرق دروب التطور على مدى زمان الإنتاج العقلي للإنسان.
نعم كانت هناك معارض علمية عقلانية فيما مضى من الزمان وفي أماكن مختلفة من هذا الكوكب، وعندما تنتقل تلك المعارض من منطقة ما ذات مواصفات طبيعية خاصة، ويسكنها بشر ذوو مواصفات عقلية وعاطفية خاصة إلى منطقة ومجتمع ذي مواصفات طبيعية أخرى، فإن ثمار تلك المعارف تتنوع ويظهر الجديد بمواصفات جديدة، هذا حدث عندما انتقلت المعارض العلمية من مصر إلى اليونان قبل مولد المسيح، ومن اليونانيين إلى العرب والمسلمين بعد ظهور الإسلام، ومن العرب والمسلمين إلى الأوروبيين مع مطلع الألفية الثانية بعد الميلاد.
العلم بين العقل والنقل
وإذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر التأثيرات الاقتصادية والسياسية للعلم المعاصر فإننا سنجد أنفسنا أسرى لواقع مرير يسود فيه آخرون، فالطبيعة البيولوجية للإنسان تدفعه أن يكون مميزاً لذاته غير منصف لغيره خاصة إذا تعارضت المصالح، كما أن الدين والأخلاق الدينية كما نفهمها نحن كعوامل توازن لتلك الطبيعية البيولوجية ومميزة للنوع الإنساني هي أمور وافدة على هؤلاء الآخرين وليس لها جذور آلية في مجتمعاتهم وعلينا أن نتذكر بأن اليهودية والمسيحية والإسلام لم تبدأ من أوروبا أو أمريكا.
اليوم يسود شعور من الاستعلاء والتفرد للأوروبي إزاء باقي المجموعات البشرية نتيجة للإنجازات العلمية الهائلة التي حققها خلال القرون القليلة الماضية، وما ينتج عنها من ثروة وقوة، وهناك تساؤلات بين المشتغلين بتاريخ وفلسفة العلوم عن التأثير التبادلي لملكات الإنسان الفطرية على طبيعة الثقافة المنتجة والعلم من الأركان الفاعلة للثقافة هذا من ناحية، وكذلك تأثير الإنتاج وخاصة في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والتقنية على تهذيب تلك الملكات، وتطور الطاقات الإبداعية للإنسان من ناحية أخرى.
ومن المعروف أن مصادر المعارض العلمية اثنان: إما النقل، وإما العقل. والمقصود بالنقل هو انتقال المعارف التي حصلها الإنسان من جيل سابق إلى جيل لاحق، فيعلم الأب ابنه أو المعلم تلميذه. وهكذا، والمرجعية في صدق تلك المعارض هو الثقة والتبجيل للمعلم الحكيم، هذا بجانب ترتيب المعارض وسهولتها والاقتناع العقلي بالإضافة إلى تطابقها مع الواقع، ولما كان الحكيم المتدبر لأمر دنياه، المجتهد في التحقق من صدق ما يقول هو إنسان غير متكرر، وإذا وجد فليس من السهل الاعتراف بحكمته من سائر المحيطين به، وخاصة في مجتمعه، لذا يكون التقدم العلمي المرتكز على النقل فقط بطيئاً بل معوقاً وتكون المعارف العلمية المتبادلة ضحلة الاستيعاب.
أما عن العقل فهو الاتصال المباشر بين الإنسان والواقع الذي يعيشه ومحاولة فهمه، وهنا لابد من التفريق بين المخ والعقل، فالمخ هو العضو المادي الذي يتكون من المواد الموجودة في الطبيعة من بروتين ودهون وفسفور وكالسيوم. وغير ذلك من تراكيب وتنظيم تلك المواد في صورة خاصة تؤدى إلى ما تقوم به من وظائف، أما العقل فهو أحد نشاطات المخ، وإذا كان هذا النشاط مرتبطاً بسلامة العضو وحالته البنائية إلا أنه في عواقبه وتأثيراته يعتمد أيضاً على وظائفه وإنتاجه.
على ذلك يقول أحد فلاسفة العلوم المعاصرين «إن العقل الإنساني وما أدى من وعي بذاته والموجودات حوله هو قمة التطور في الكون، وإن النظريات العلمية هي أرقى صور الوعي الإنساني. بمعنى أن النظرية العلمية التي تسعى إلى شرح واستبيان قواعد نشاط المادة قد قام بصياغتها العقل الإنساني الذي هو نشاط لمواد موجودة تم تحولها وتطورها وتركيبها بصورة معينة أدت إلى هذه المقدرة بإذن الله».
وتصل المعلومة إلى العقل عن طريق الحواس، سوء الخارجي منها كالسمع والبصر والشم، والتذوق واللمس، أو الداخلي منها وهي متعددة، وعند ذلك قد يقف عمل العقل عند الاستقبال والترميز والتخزين فقط، أو قد ينشط أكثر فيمتد إلى الربط بين المعلومات الواردة أو تحليلها أو قد يمتد عمله أكثر إلى استقراء أو استنباط معلومات جديدة بناء على المعلومات الأولية، وقد يمتد عمله أكثر وأكثر إلى إنشاء وابتكار معلومات غير مسبوقة.. إذن النشاط العقلي مرتبط بالحواس وطبيعتها كما خلقها الله، فالملاحظة والترتيب والتنظيم والتصنيف للمعلومات مع الاستنتاجات المنطقية كانت هي الوسيلة السائدة للوعي بالموجودات.
ظل الأمر كذلك فيما نعلم حتى القرن السادس عشر الميلادي عندما حدثت طفرة هائلة في وسائل تجميع المعلومات، إذ بدأ الإنسان في تعظيم الحواس بما تراكم عنده من معلومات، وعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى حاسة البصر نجد أن الإنسان الناضج السليم يستطيع أن يرى الأشياء ذات الحجم المعين بوضوح كاف حتى مسافة ستة أمتار مثلاً، وتلك هي قوة الإبصار الطبيعية للإنسان، إذن لو استطاع أن يرى تلك الأشياء بنفس الوضوح وهي على بعد ستمائة متر مثلاً، فذلك تعظيم لحاسة الإبصار، وبالتالي تعظيم ما يستقبله العقل عن طريقها.
هذا ما حدث فعلاً في أوروبا خلال القرون القليلة الماضية فقد اخترعوا المرصد (التليسكوب) لكي يرى الإنسان الأجسام البعيدة بوضوح أكثر واخترعوا المجهر (الميكروسكوب) لكي يرى الإنسان الأشياء المتناهية الصغر وتفصيلاتها بوضوح، واكتشفوا الأشعة السينية (X-ray) التي استطاع الإنسان بواسطتها أن ينفذ بالرؤية إلى كوامن في الأشياء ما كان يمكن أن يراها سابقاً، وهكذا، وما حدث لحاسة البصر حدث لباقي الحواس.
إذن حدثت نقلة كبرى في وسائل نقل المعلومات إلى العقل أدت إلى كثرتها الهائلة وتنوع تفاصيلها وقد تكون كثرة المعلومات الواردة إلى العقل وتنوعها من الأسباب الرئيسة التي دفعت الإنسان إلى استخدام الأرقام والرموز للتعبير عن مضمونها ثم التعامل معها باستخدام المنطق الرياضي حتى مكنت المشتغل بالعلم من بناء مفاهيم مطردة التعقيد من معلومات أولية بسيطة، ثم استخدام تلك المفاهيم في عملية التفكير بمستويات أعمق يستحيل بلوغها من دون ذلك، من هنا استطاع العقل الإنساني أن يكون مصدراً للمعارف نتيجة لنشاطه الخاص من صياغة الفروض وبناء النظريات من دون الحاجة إلى معلومة أولية عن طريق الحواس.
كانت الدعامة الثالثة لتطور المعارض العلمية والوصول إلى ما نعيشه اليوم هي تطور الآلة وتركيبها وتعقيدها بقدر ما يستخدم في إنشائها من معلومات متاحة، وأصبحت الآلة أو الجهاز أو الماكينة دعامة أساسية لتعظيم الحواس وتحليل البيانات والاقتصاد في الطاقة التي يبذلها الإنسان لتحقيق هدف محدد.
المتغيرات والبعد الرابع
أما اليوم فيجد الإنسان نفسه على أعتاب عصر جديد يحلو له أن ينظر للموجودات ليست ككيانات ثابتة، ولكنها نشطة متحركة متغيرة في إطار البعد الرابع وهو الزمن، ومحاولة الإمساك بهذا الزمن وتسجيل الحركة خطوة خطوة مهما قصر أو طال هذا الزمن، ومن الملاحظ أن التفاعلات الكيميائية قد تكون عمليات فائقة السرعة وأن تحورات وتطورات المادة الحية عمليات فائقة البطء تتم على مدى ملايين السنين، وهكذا أصبحت الإنجازات العلمية الأخيرة التي شارك فيه بعض أبناء وطننا العربي مثل الدكتور مجدي يعقوب، والدكتور فاروق الباز، والدكتور أحمد زويل، والدكتور شارك العشي، مصدراً جديداً لمعلومات جديدة تزيد المخزون المعرفي للإنسان وتفتح له آفاقاً جديدة من النشاط والتأثير ونعتقد أننا اليوم لا نمارس العمل العلمي كما مارسه أجدادنا رغم أن المنهج القديم مازال مفيداً وضرورياً للفهم والأداء في العديد من أمور الحياة.
كذلك هناك عقبات حقيقية أمام ممارسة البحث العلمي حسب المنهج الحديث، متى نبدأ بخطوات ثابتة على الطريق السليم حتى ينضم العلم إلى تحالف المال والسلطة في أن يتقدم وطننا العربي؟ إن صورة العلم العربي في أذهان العديد من المهتمين بهذا العلم وتاريخه وفلسفته مازالت غير مكتملة وذلك لعدم الاهتداء إلى فلسفة هذا العلم التي تتحدد في رأي كاتب هذه السطور، بجدل الاستيعاب والتجاوز الذي ميز العقل العلمي العربي في فترة ازدهاره، حيث استوعب هذا العقل علوم الحضارات الأخرى بمفاهيمها ومناهجها ونظرياتها المختلفة، ودخل معها في حوار شجاع ومكافئ لما يملكه هذا العقل من قدرة نقدية استيعابية للآخر وعلومه.  ولكن هذا العقل أدرك أن الاعتماد على هذا الاستيعاب وحده لا يقيم علماً فكان لابد من التجاوز والانفصال بكل أشكاله المعرفية والمنهجية والحضارية ليقدم علماً جديداً يعبر عن مرحلة جديدة من تطور العلم في التاريخ هي مرحلة العلم العربي، وقد اتضحت معالم هذا التداخل والتفاعل والحوار في شكل عقلانية علمية عربية جمعت بين البعد المنهجي العقلاني الرياضي والبعد التجريبي التطبيقي لذا فإننا نجد الدعوة إلى إعادة النظر في طريقة رؤيتنا لتاريخ العلم العربي، إذ أصبحت اليوم، في ظل المتغيرات المتسارعة المحمودة وغير المحمودة، ضرورة منطقية وحضارية للنهوض بواقعنا العربي المثقل بالهموم والمعوقات، ولن يأتي هذا النهوض إلا عن طريق إعادة الاعتبار للعقل العلمي العربي، وتشكيل رؤية عقلانية علمية عربية تكون قادرة على الدخول في حوار شجاع مع الحضارات الأخرى التي أصبحت لغتها الرسمية لغة علمية، من أجل رسم صورة مستقبلية أفضل يكون العلم والتفكير العلمي العقلاني أحد أبرز عناصرها. لقد زخر التراث العلمي العربي بالعديد من الدروس المعرفية والمنهجية العلمية التي تساعدنا بالدخول في حوار حضاري متكافئ، منها:
-1 أن العلم العربي تميز منذ نشأته بالبعد العالمي.
-2­ أن العلم العربي كثقافة وفكر كان جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الاجتماعية اليومية على جميع مستويات المجتمع العربي والإسلامي، النظرية والتطبيقية والتعليمية.
-3­ أن العلم العربي اهتم بالممارسة النظرية كسمة أساسية من سمات العلم، فلم يبحث فقط عن التطبيق العملي بهدف تحقيق بعض الأغراض العملية.
لقد اتخذ العلم العربي موقفاً حضارياً بارزاً إزاء القديم والجديد أو الموروث والوافد أو الأصالة والمعاصرة، هذا الموقف تجلى في قبول العقل العلمي العربي لعلوم الحضارات الأخرى ولم ينظر إليها على أنها دخيلة يجب أن تحارب، لكن هذا التبجيل والقبول لعلوم الأوائل لم يخل من دون النقد والإبداع بما يتلاءم مع الخصوصية العربية الإسلامية.


ذو صلة