كان الإمام علي ينشد:
إن المكارم أخلاق مطهرة
فالعقل أولها والدين ثانيها
وليس من شك في أن العقل أعظم ما وهب الله للإنسان، فبه يستطيع أن يميز بين الطيب والخبيث والنافع والضار والحق والباطل، وبدون العقل لا يكون هناك دين، لأن التميز شرط في التكليف، وفي القرآن الكريم تكرر وصف المؤمنين بالعقل عشرات المرات، كما وصف غيرهم بأنهم قوم لا يعقلون، فأين كان أبو العلاء المعري من ذلك حين يقول:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
نعم إن هناك حدوداً للعقل لا يصح له تجاوزها، كالغيبيات التي يعجز المرء عن إدراك كنهها، والتي ربما كان الوجدان أكثر استشرافاً لها وإحساساً بها، ولكن ليس معنى ذلك أن نلغي عقولنا فيما سوى ذلك بل على العكس أمرنا بالتفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وبديع صنع الله الأعظم. يقول لين يوتانج أحد المفكرين الصينيين: إن العقل الناقد يتميز بالضحالة وضيق الأفق والجمود كما أن التفكير قد لا يجدي كثيراً والمنطق لا يكون نافعاً ولا ريب في أن روح التعقل والتفكير الدافئ المصحوب بالعاطفة هو الذي يضمن لنا عدم الرجوع إلى صورتنا المتوحشة.
وقد شغل العقل اللغويين والمفكرين كما شغل الشعراء أيضاً، فهو عند أهل اللغة ضد الحمق ويطلق على الحجر والنهى واللب والحلم والحجي والقلب والفؤاد، وربما جاء أيضاً بمعنى العلم والفهم والرأي، والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه وقيل للعاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا حبس من الكلام، ويسمى العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه من التورط في المهالك أي يحبسه.
والعقل عند أهل الفكر يشمل أربعة معان: إحداها الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم، وهو الذي استعير لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية. والثاني ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. والثالث علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلاً. والرابع أن منتهى قوته الغريزية قمع الشهوة الداعية على اللذة العاجلة. ويقسم ابن رشد العقل إلى ثلاثة أقسام: فهناك عقول نافذة تغوص إلى العمق وتضع يدها على الخيوط الدقيقة لتربط الأشياء. وهناك عقول دون هذا المستوى لأنها تقف في الربط عند الصفات الظاهرة. والأمور الواضحة. والمستوى العقلي الأقل في نظره تلك العقول التي لا تدرك أسرار ربط المدركات الخفية أو الظاهرة وإنما تقف فقط لتستجيب للألفاظ الرنانة والأدلة الخطابية الوعظية.
أما العقل في الشعر العربي فقد تناوله الشعراء من عدة أنحاء، ففي مجال الشرف يشير المتنبي إلى أن العقل هو الوسيلة الوحيدة التي ترتقي بالإنسان وترفعه عن سائر حيوان، ولولاه لصار أهزل الأسود أعلى قدراً منه وأكثر شرفاً ونبلاً، يقول:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
وفي موضع آخر يعبر عن اعتزازه بالعقل فيجعله مع العرض أغلى ما في الوجود، ففي سلامتهما تهون إصابة الأجسام، يقول:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
وفي سياق المقارنة بين أهمية العقل والشجاعة وأثرهما في الإنسان يشير المتنبي إلى أسبقية الرأي على الشجاعة، يقول:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا بنفس حرة
بلغت من العليا كل مكان
ويلخص زياد الأعجم ماهية الإنسان في شيئين لا ثالث لهما فيقول:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ويتناول المتنبي الجانب السلبي للعقل في قوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فالعاقل في نظره يشقى وإن كان في نعمة لتفكيره في عاقبة الأمور وعلمه بتحول الأحوال بينما الجاهل ينعم وهو في الشقاوة لغفلته وقلة تفكيره في العواقب.
ولعل هذا المعنى مأخوذ من قول البحتري:
أرى الحلم بؤساً في المعيشة للفتى
ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
يقول د.علي شلق معلقاً على بيت المتنبي: نطلب من الشاعر أن يحدد معنى النعيم ومعنى الشقاوة عندئذ نصل به أو يصل بنا إلى ما نسميه اللذة والألم، وهنا يأتيك سؤال: هل اللذة في المادة نفسها وكل ما نجم عنها، أم أنها في الزهد بها، وهل كان الإسكندر أكثر سعادة من ديوجين؟ وهل اللذة إيجابية أو سلبية؟ أي تكون لذة ساعة ينتفي بها ألم، أو أن لها حقيقة؟ جوعي وعطشي ألم، شبعي وارتوائي لذة، مدة الألم واللذة فترات قليلة، فأين يمضي الألم وتذهب اللذة ساعة تكون الحالة بين بين؟! ولا ريب في أن خير علاج لقلق العاقل وشقاوة العقل هو الدين، ويسجل أحدهم أثر العقل والدين في ارتفاع من يتحلى بهما ونقص من بفقدهما حتى لو كان ذا نسب رفيع يقول:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه
وإن كان ذا بيت على الناس هين
ومن كان ذا عقل أجل لعقله
وأفضل عقل عقل من يتدين
وهناك أمور تعين على تفتح العقل واتساع آفاقه منها التجارب والخبرات ويتطرق بعضهم إلى أثر التجارب في إثراء عقل الإنسان فيقول:
ألم تر أن العقل زين لأهله
ولكن تمام العقل طول التجارب
وربما اكتسب المرء من طول عمره إذا سلم من الأمراض عقلاً آخر يستمده من خبراته وتجاربه، يقول أحدهم:
إذا طال عمر المرء في غير آفة
أفادت له الأيام في كرها عقلا
يقول الأبهشي: العقل قسمان، قسم لا يقبل الزيادة والنقصان وقسم يقبلهما. فأما الأول فهو العقل الغريزي المشترك، وأما الثاني فهو العقل التجريبي وهو مكتسب وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة يقال إن الشيخ أكمل عقلاً وأتم دراية وأن صاحب التجارب أكثر منهما وأرجح معرفة. والحياة مليئة بالعظات والعبر والخبرات والتجارب، وعلى الإنسان أن يستفيد من كل ذلك بعقله المفكر وقلبه المشع.
فكر بقلبك فيما أنت تبصره
فالأرض مملوءة الأقطار بالعبر
وصاحب الرأي الراجح هو الأولى بالرياسة من سواه لأنه الأقدر على تحمل مسؤولية القيادة فإذا توارى عن السلطة أو أقصي عنها فسدت الأمور على أيدي الجهلة والسفهاء والأشرار، يقول الأودي في ذلك:
تهدي الأمور لأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جاهلهم سادوا
ومن خصال السيادة الجرأة والسماحة يرثي المعري والده فيقول إن عقله زاده جرأة وسماحة، ولكن بعض الحجا يدعو من هو فيه إلى أن يبخل ويجبن. فالخوف على يتم الابن يجعل الوالد يحجم عن المخاطرة بنفسه، والخوف على فقر الولد والأهل يجعل رب الأسر يبخل ليوفر لهم معاشهم يقول:
حجا زاده من جرأة وسماحة
وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن
ومن علامات العاقل استشارة ذوي الرأي فيما يستعصى عليه من الأمر، فيقول أحد الناصحين:
إذا الأمر أشكل إنفاذه
ولم تر منه سبيلاً فسيحا
فشاور بأمرك في ستره
أخاك أخاك اللبيب النصيحا
كما نصح الشعراء بمصاحبة العاقل الناصح واستشارته، فقد نصحوا في المقابل بمجانبة الأحمق لما في صحبته من بلاء وضرر، يقول مسكين الدارمي:
اتق الأحمق أن تصحبه
إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً
بددته الريح وهناً فانخرق
وفي معرض الهجاء بخفة العقول يقول أحدهم مشيراً إلى اختلاط الأمر على هؤلاء الذين لا يميزون بين الصواب والخطأ والرشد والغواية، على الرغم من عظم أجسامهم.
أنتم أناس عظام لا حلوم لكم
لا تعلمون أجاء الرشد أم غابا
لا تبصرون وجوه الرأي مقبلة
وتبصرون إذا ولين أذنابا
ويشكو شاعر من زمرة من الحمقى العي الذين لا يحتملهم عاقل لخفة عقولهم وثقل ألسنتهم ونفوسهم، يقول:
إني بليت بمعشر
نوكي أخفهم ثقيل
بله إذا جالستهم
صدئت لقربهم العقول
لا يفهموني قولهم
ويدق عنهم ما أقول
وقلة المال قد تكون سبباً في التخبط وضياع العقل بينما قد تغطي كثرته على الجهل والحمق، يقول حسان:
رب حلم أضاعه عدم المال
وجهل غطى عليه النعيم
أما إذا اجتمعت قلة المال مع كثرة العيال فتلك الطامة التي تذهب بعقل أحكم الناس حتى لو كان لقمان الحكيم نفسه، يقول الشافعي:
لو أن لقمان الحكيم الذي
سارت به الركبان بالفضل
بلي بفقر وعيال لما
فرق بين التبن والبقل
وثمة كثير من الشعراء العقلاء بلغ بهم الإعسار إلى حالة من اليأس جعلتهم يسلكون مسالك الحمقى لكي يعيشوا عيشة راضية، واتبعوا ما يمكن أن يسمى فلسفة اللامعقول التي قد ينطبق عليها قول لين يوتانج: فالعقل الإنساني رائع في لا عقلانيته وفي أهوائه المتأصلة وشذوذه وعدم انضباطه للقياسات، وحول فلسفة التحامق يقول أحدهم:
تحامق تطب عيشاً ولا تك عاقلاً
فعقل الفتى في ذا الزمان عدوه
فكم قد رأينا ذا نهى صار خاملاً
وذا حمق في الحمق منه سموه
ويقول آخر معللاً تخيله عن عقله الذي حرمه المال فاختار الجنون لينال عن طريقه الغنى:
جننت نفسي لكي أنال غنى
فالعقل في ذا الزمان حرمان
يا عاذلي لا تلم أخا حمق
تضحك منه فالحمق ألوان
ويدعو أحد المتحامقين الإنسان الذكي إلى أن يلبس لكل حالة لبوسها فيكون عاقلاً مع العقلاء وأحمق مع الحمقى.
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم
وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
ويقول آخر داعياً إلى اتباع فلسفة التحامق، وإطراح العقل جانباً مبرراً دعوته بغربة العقل ووحشته في زمانه، يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم
ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل
فإن الفتى ذا العقل يشقى بعقله
كما كان قبل اليوم يشقى ذوو الجهل
ويذهب المتنبي إلى استحالة الجمع بين الحظ والعقل حين يقول:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
يقول شلق: ودندنة المتنبي حول إخفاق العاقل الفهم ونجاح الجاهل المغلق دندنة أو شنشنة سبقه إليها أخزم.
وبعد فإذا كان العقل هو مصدر الرأي النافع فإن الإرادة هي الأداة الفاعلة لتحقيق هذا النفع وحين لا تكون هناك عزيمة لا يصبح للرأي جدوى أو قيمة على حد قول الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا