قبل أكثر من ثلاثين عاماً أصدر المؤرخ اللبناني (كمال الصليبي) كتابه: التوراة جاءت من جزيرة العرب. حيث عقد مقارنات بين مسميات في التوراة وأماكن في جنوب الجزيرة العربية، مستعيناً ببعض المعاجم والدراسات التي قدمها بعض المؤرخين ومنهم حمد الجاسر وعبدالله بن خميس رحمهما الله. وقد انبرى عدد من الباحثين والمؤرخين للرد عليه وتصحيح ما طرحه في كتابه. وكان لعلامة الجزيرة العربية هذا الرأي الذي نورده, وقد نشر في مجلة العرب:
حمد الجاسر *
أدركتُ مما قرأت في ذلك الكتاب أن قدماء الإغريق يعبدون آلهة متفرقين، لهم كبيرهم الذي يدعونه الإعفس (زيوس), ولكل مظهر من مظاهر الحياة إله: فللجمال عندهم إله، وللحب وللشعر وللحكمة وللحرب ولغيرها.. ولهذه الآلهة أمكنة تستقر فيها هي قمم الأُلُمْب (أولمبيا), ومن هذا الاسم وما كان يقيمه قدماء الإغريق من احتفالات بأربابهم استمرت حتى تبلورت في هذا العصر بالألعاب الرياضية (الأولمبية) التي تقام في أوقات محددة من الزمن.
وما كنت أتصور أن لقدماء الوثنيين في بلادنا من الأحوال والخرافات المتصلة بمعبوداتهم مثل ما لقدماء اليونان، وأن مهد تلك المعبودات جبال السروات, ولا أمكنة العبادة المعروفة في العصور القديمة؛ حتى قرأت الفصل الذي خصصه الدكتور كمال الصليبي في كتابه للحديث عن آلهة السراة – بعنوان (ملكي صادق وآلهة السراة) – ص 221 إلى 234 – وهو الفصل الثاني عشر.
ولقد حاول في هذا الفصل إبطال ما يعتقده اليهود والمسيحيون من وجود كاهن معاصر لإبراهيم، يدعى (ملكي صادق). وذلك بتحليل النصوص العبرية من كتاب (التوراة) بطريقة لغوية تخالف ما عُرف عن علماء أهل الكتاب في جميع العصور. وهذا الأمر قد لا يعني الباحث كثيراً، فهو لا يـأتي بجديد عما سار عليه الدكتور كمال في تحليله للأسماء وللكلمات القديمة، تحليلاً يعتمد أكثر ما يعتمد على فهمه هو للنص ولمفرداته، بل على تمكنه من حل (لغز) تاريخي يتعلق بالأصول الوثنية المنسية للديانة اليهودية في غرب شبه الجزيرة –كما قال ص 229– وتأثير إبراهيم –عليه السلام– في زعزعة تلك الأصول، وإن لم يشر بصراحة إلى نبوته، وقيامه بنشر الملة (الحنيفية)، ولم يتعرض بتوسع لإيضاح الجهة التي قدم منها إلى غرب الجزيرة، مع أنه قرر أن (شلم) ما هي سوى قرية (آل سلامة) بجوار بلدة (النماص) في منطقة بلاد عسير.
ثم عرض لأسماء الآلهة الواردة في التوراة واستخلص مما عرض منها –ص 229-: أن استعراضاً سريعاً لأسماء الأمكنة التي تبدأ بـ (آل) مع مقارنتها ونقضها بأدلة قائمة على أسس من العلم والمنطق القويم؟!
وإذا لم يعنَ أولئك بالتصدي –بكل ما وهبوا من علم وسعة إدراك– لما يحدث بلبلة في الأفكار العامة فمن الذي يُعنى بهذ؟!
إن (خدمة المجتمع) التي هي هدف المؤسسات العلمية العالية –ومنها الجامعات– عليها أن تُعنى أول ما تُعنى باستقامة الفكر، وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، ومن ذلك صيانته عن الانحراف أو التأثر بالآراء الباطلة.
وما حالة مجتمع تقوم على أساس التنافر في اتجاهاتها بسبب ما منيت به من تبلبل الأفكار، وضعفها، واختلاف نظراتها إلى مقومات الحياة في هذا المجتمع؟!
لست مع الإخوة الذين يرون في أفكار الدكتور الصليبي في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب) من بواعث الكراهية والسخط والانفعال ما يبرزها بصورة من البشاعة والسوء بغير صورتها، لتقابل بأساليب من التجريح والطعن قبل تناولها بالدراسة والتحليل، مما لا يتفق مع قواعد البحث العلمي النزيه.
لا مراء في أن الصليبي نظر إلى تلك التوراة التي عرفها ووصفها بأنها من صنع البشر، فسلك النهج القائل: (خذ رفشك واتبعني) وحاول –ما استطاع– أن يأتي بكل وسائل الزعزعة والتشكيك على جميع ما أثر عن علماء الأديان على اختلاف نحلهم، منذ عرفت الأديان، وما عرف عن علماء التاريخ بصفة عامة، بحيث لا يصح وصفه بأنه جامل قوماً على حساب آخرين، أو خدم بتلك الآراء اتجاهات معينة، أو أتى بحقائق من العلم تصلح لتتخذ أساساً لما حاول زعزعته وإزالته فيكون لتلك الحقائق ما يحدث الرهبة في النفوس.
وغاية ما في الأمر –في رأيي– أنه فيما أتى به أشبه بمن ألقى بحجر صغير في خضم بحر عظيم، لا تلبث تلك الفقاقيع التي تطفو فوق مائه من أثر إلقاء ذاك الحجر أن تتلاشى بنفسها.
وما أريد بهذا أن أنظر إلى أستاذ له مكانته العلمية نظرة استخفاف، أو أن أقف من آرائه موقف استهانة، مما لا يتفق مع ما يجب للعلماء من احترام، ما لم تتضح لهم من الغايات والأهداف ما يحمل على تغيير ذلك الموقف.
وكل ما استطعت إدراكه –من خلال مطالعتي في كتاب الدكتور الصليبي– وإن جانف ما أصبح عقيدة راسخة في نفسي مما اكتسبته من معارف وعلوم؛ أظهر لي أن الدكتور كما وصف نفسه في مقدمة كتابه –ص 19-: «وجل ما في الأمر أنني اجتهدت قدر الإمكان.. وليس بالضرورة أن يكون كل مجتهد مصيباً».
أما بواعث هذا الاجتهاد فأسوأها –في رأيي– إبراز آراء فيها طرافة، وفيها جدة، ولو لم يكن في إبرازها سوى السير على قاعدة (خالف تعرف). وما آسى إن كنت مخطئاً في هذا.
* مجلة العرب
العدد (1) المجلد (25)