كما حدث من قبل -مراراً وتكراراً في تاريخ الاكتشافات العلمية والثقافية– حين يواجه كل اكتشاف أو نظرية جديدة مخالفة متناقضة مع السائد والمألوف باللغط وسوء الفهم والهجوم الجارح؛ فقد واجه المؤرخ الراحل د.كمال الصليبي ما واجهه مؤرخون وعلماء وكتاب، سبق لهم أن قدموا نظريات وأفكاراً غيرت وإلى الأبد تصورات قديمة وأحلت محلها تصورات جديدة. لقد أحدث كتابه الشهير (التوراة جاءت من جزيرة العرب) هزة عنيفة وعميقة الأثر, لا في نطاق أبحاث التاريخ القديم، وإنما كذلك في نطاق علم الآثار.
ليست الجرأة التي اتسمت بها نظرية هذا الكتاب، وحدها، ولا كذلك إثارته لأسئلة جديدة وغير مسبوقة حول مصير ومستقبل الدراسات التوراتية التقليدية؛ هما مصدر اللغط الذي لم يهدأ حتى اليوم, وإنما وبدرجة أكبر من ذلك, لأن هذا الكتاب كان إعادة صياغة لوعي العرب بتاريخهم القديم. إن فرادة هذا البحث وأهميته الكبرى، تكمن هنا: أنه سلط الأضواء على جوهر المعضلة في أبحاث التاريخ القديم وعلم الآثار، والتأكيد على حقيقة أن التوراة كتاب ديني ينتمي في نسيجه السردي إلى العالم الثقافي للعرب القدماء، وأن لا صلة له بفلسطين على مستوى التوصيف الجغرافي أو سرد المرويات والأحداث.
لكن الصليبي، وبخلاف كثيرين، واجه اللغط بصمت العالم، مثلما تقبل النقد –حتى غير الموضوعي منه– برحابة صدر الباحث والمؤرخ الصبور. هذه الكلمات يجب أن تقال اليوم في وداع مؤرخ كبير رحل دون ضجيج؛ لأن الذين أثاروا الضجيج من حوله وهي حي، لم يعد لديهم ما يقولونه وهو يرحل عن عالمهم. لكأن الذين ملؤوا الدنيا صخباً ضد نظريته في التاريخ التوراتي، لم يعرفوا الصمت إلا الآن؟ وتلك مفارقة محزنة مثلما هي المناسبة محزنة ومريرة. مع ذلك، فالحقيقة التي مناص من رؤيتها، أن كمال الصليبي ترك في صفحات التاريخ الثقافي للعرب بصمة لن تمحى. إن أهمية كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب) والأدق مشروعه الفكري الأهم، والذي لم يتسن له تطويره في صورته النهائية؛ تكمن في النقطة المثيرة التالية: إن العرب المعاصرين قرؤوا التوراة بعيون الآخر الغربي/الأوربي؛ ولم يقرؤوه بعيون عربية، وبذلك ساهموا في تجذير الفكرة الخاطئة والملتبسة القائلة: إن جغرافية التوراة تتطابق مع جغرافية فلسطين, وهذا تزوير فاضح لم يكشف عنه أي مؤرخ أو عالم من قبل. وبهذا الاكتشاف، وبفضله، وبرغم كل ما قيل ويقال - والكثير منه مجرد نقاشات غير علمية-؛ أصبح بوسع الثقافة العربية المعاصرة، أن تعرض ما يمكن اعتباره أول قراءة عربية مضادة للرواية التوراتية الزائفة. لقد كانت المعضلة الأهم في قراءة التوراة, وما تزال؛ تكمن في حقيقة أن الكتاب المقدس لليهودية لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى جغرافية فلسطين، ولا يوجد فيه أي نص يشير ولو تلميحاً إلى أن الأحداث وقعت في المسرح التاريخي الفلسطيني.
لقد كشف الصليبي في كتابه العظيم عن حقيقة أن الأرض التي تصفها التوراة لا تتطابق مع جغرافية فلسطين، وأن فشل علماء الآثار في العثور على أي موضوع من المواضع التي ذكرتها الأسفار، ناجم عن سوء فهم للنص التوراتي، وأنه -ككتاب ديني- يصف أماكن وأحداثاً تخص جغرافية الجزيرة العربية وليس فلسطين. وكما كان متوقعاً، فقد أصبح هذا الاكتشاف مادة تشهيرية، تخللتها الأكاذيب والتصورات السطحية وسوء الفهم الذي أتاح للكثير من المتطفلين على علم التاريخ، أن ينشروا مزاعم زائفة مفادها أن مجرد القول بوجود جغرافية أخرى للنص التوراتي، تعني أن الصليبي (يريد أن يعطي الصهاينة أرض العرب في الجزيرة). وهذا زعم لا أساس له، لأن مقاصد البحث تذهب إلى تقرير حقيقة أخرى، مفادها أن أسفار التوراة لا تصف أرض فلسطين، وأن الأحداث التي تذهب جاءت على ذكرها لا علاقــة لها بالتــاريخ الفلســـطـينـــي. لكن الصليــبــي، وقع - ويا للأسف - في خطأين كبيرين، أولهما أنه أبقى بحثه العلمي أسير منطقة جغرافية صغيرة، هي شريط جبلي ضيق من عسير، لا يتلاءم مع التوصيف الوارد في أسفار التوراة، وثانيهما إفراطه غير المبرر في استخدام فكرة وجود تحول فونيطيقي في أسماء المواضع. وذلك قاده إلى تصور أن أسماء بعض المواضع والقرى اليوم في جنوب غرب الجزيرة العربية (عسير) لها علاقة بأسماء المواضع التي وردت في التوراة، وهو ما أثار اللغط والأسئلة والشكوك. ومع ذلك فما قام به الصليبي في كتابه، يتخطى بكثير مثل هذه الهفوات المحدودة، لأن النظرية الجديدة جاءت لتنسف فعلياً الأطروحة الغربية المخادعة من أساسها، ولتعيد النقاش إلى المربع الأول: هل كانت فلسطين في الأصل مسرحاً لقصص وأحداث التوراة، أم أن هذا التصور هو نتاج قراءة غربية مضللة لم تعتمد نتائج البحث الأثري، بل اعتمدت على مطابقة غير علمية بين جغرافيتين لا يجمعهما جامع؟ وبذلك تكون نظرية كمال الصليبي قد تجاوزت، رغم كل الاعتراضات والشكوك، نطاق التصورات السائدة الجامدة التي سادت في أبحاث التاريخ القديم. لقد فتح كتابه أبواب النقاش التاريخي على مصراعيه، وأتاح –لأول مرة– أمام المؤرخين وعلماء الآثار، إمكانية الانخراط في نقاش علمي حول المسرح الحقيقي لأحداث الكتاب المقدس. وإذا كان ثمة من عزاء مقبول لثقافتنا العربية المعاصرة بفقدان هذا العالم الجليل، فهي أن نظريته الرائدة في التاريخ، خلفت بيئة نقاش علمي سوف يتيح لجيل جديد من الباحثين العرب أن يواصلوا السجال ضد الأطروحة التوراتية، وأن يعيدوا بناء المرويات التي سجلتها الأسفار، بوضعها في بيئتها التاريخية: أرض العرب. والمثير للدهشة أن المعترضين على نظرية الصليبي، يتجاهلون حقيقة أن 70 عاماً من البحث الأثري المتواصل والهستيري في فلسطين، لم تقدم أي دليل مهماً بسيطاً، يمكن أن يؤيد أو يدعم المزاعم القائلة بوجود (حق ديني–تاريخي) لليهود. إن السؤال التاريخي الذي طرحه الصليبي هو الذي فتح آفاق الدراسة والبحث في صحة الجغرافيا التوراتية. وتلك مأثرته الكبرى.