أمي التي امتلكت طيبوبة الأرض
لم تنم هذه الليلة
فالقمر الساهر فوق خيمتنا
كان يرتعش من برد الخريف
حين فتح قلبه للعابرين
ولعاشقين
لفظهما قطار المساء عنوة
فسارا كما الريح
لا يلتفتان لأحد..
القمر الآن
يسرق من الأفق قليلاً من زرقته
ويهفو لغيمة شاردة
وأمي التي نسيت ذات مساء
ضفيرتها قريباً من حبل الغسيل
حين رفرفت الفراشات الثكلى..
لم تجهش بالبكاء
لم تقتف أثر خصلاتها
حتى لا تكسر هشاشة العشب
كانت أمي حينها تحتضن البحر
توشوش لعصافير المساء
تضمخ ريشها بالحناء
تلملم أحلامها
وتلوح بتضاريس المسافات
تقتفي آثار جرو ضاع بالأمس
والمساء يتجرد من العصافير
التي علقت بأهدابه..
كانت تبسط يديها
للأزهار الحبلى حين جاءها المخاض
خبأت برعماً تحت ضفيرتها
واستنجدت بنورس
كان يطير بعيداً نحو الشمال..
والمساء سيد الوقت ها هنا
كامرأة متغطرسة أمام غزال شريد
وحدها أمي كانت تدرك
لماذا كان ماء الجب حزيناً هذا المساء
ولماذا تأخر أبي عن موعده..
ووحده القمر الساهر
كان يدوّن همسات العشب والصبار
وأسرار الغيوم ورقصات الأقحوان
وهمسات البنفسج
ورسائل البريد التي لم تصل بعد
• • •
وحدها أمي منذ ثلاثين سنة
كانت تضمد جراحات الفراشات
لم تنس آثار حذوة حصان على الجبين
حين كانت رائحة الرغيف تهدهد
غبش الفجر
وهي تشهر ابتسامتها
مودعة هذا السديم
وهي تسرق من الليل
قليلاً من هدوئه..
تترصد ظلال شجيراتنا
عجلى تشرب كأس الشاي..
والدخان يبشر بالرغيف الحلو
تترقب أغنيات الرعاة وهم يمرون
مظللين بالغيم الشارد
يبشرون بالربيع الذي تأخر
ويحملون رسائل للحمام
وحفيف خطواتهم مثل أزيز الجنادب
من العشب المبلل
تترك الباب مفتوحاً لحجل الصباح
لينقر حباً ترك عمداً ثم يطير بعيداً
وحدها أمي تودعه بالدعاء
حين يدور حول البيت دورتين
وهناك على التل قبر جدي
يحرس العشب والجسر الوحيد نحو النهر
يدرب قلبه على الصبر والمنفى
على الرحيل الأخير
على الفرس المعتكف وحيداً
لا أحد يسرجه الآن سوى الانتظار