وضع الكتاب جانباً وطفق يراقب الشمس وهي تتسلل بهدوء خلف الجبال بعد يوم طويل كانت حنونة لآخر لحظة وهي تلقي على الجميع ابتسامة ذهبية ناعسة، ابتسم لها بدوره واتجه ببصره لمراقبة سنجاب صغير، وهو ينتقل بين العشب بحثاً عن حبات البندق، ماتت الابتسامة في شفتيه، وعيناه تراقبان حركته الخفيفة هنا وهناك.
- كم أنت محظوظ يا صغيري.
رددها في أعماقه وهو يضغط بقوة على مسند الكرسي، فإذا بقوة قبضته تخترق المعدن لتلتف حول قلبه وتعصره بقسوة. أحس بنبضات قلبه تتسارع في محاولة منه للتخلص من تلك القبضة المؤلمة لكن دون جدوى.
تأوه بألم وهو يرمي برأسه للوراء محاولاً فك أزرار قميصه بيدين مرتعشتين. كانت عيناه تحدقان في السحب الناعسة، وهي تسبح في السماء باسترخاء، بينما راح يدلك صدره وعنقه براحة كفيه، حتى استعاد قدرته أخيراً على التنفس. مسح آثار الدموع من عينيه، وعاد لمراقبة السنجاب الذي كان قد ذهب.
تلفت حوله فلم يجد غير السكون يلف المكان فقد غادر الجميع ولم يبقَ سواه متكوراً على كرسيه يتجرع مرارة العجز التي ألف مذاقها على مدى أعوام طويلة. تذكر أنه هو أيضاً لابد وأن يؤدي طقوس الوداع، ويغادر قبل أن تخلد الشمس كلياً إلى النوم وتصبح دواليب كرسيه عاجزة عن تبصر طريق العودة.
التقط كتابه ووضعه في حقيبة صغيرة بجانب بقايا طعامه وشرابه، زاده اليومي الذي ينطلق به صباحاً إلى مملكته الصغيرة حيث يطوي الساعات الطويلة عالقاً بين دهاليز الماضي تحت الشجرة التي شاركته الاستمتاع بحكايات أبيه الرائعة عن الفترة التي قضاها في الجيش.
- أنت بطل حقيقي يا أبي.
قالها وهو يداعب كرته الصغيرة بقدميه بعد أن أخبره والده كيف أنه أنقذ ثلاثة من أصدقائه من الأسر ورفض التخلي عنهم ولو على حساب حياته.
- هل أصبت يومها؟!.
- لم تكن إصابة خطيرة ولم يتطلب الأمر إلا شهرين كي أستعيد عافيتي.
- أنت بطل حقيقي يا أبي.
- بل أنا إنسان يحب وطنه وأصدقاءه.
وضع الكرة جانباً وجلس إلى جانبه.
- عندما أكبر سأصبح مثلك جندياً شجاعاً.
حمله بين ذراعيه وأعطاه قبلة طويلة.
- بل ستكون أجمل شاب على وجه الأرض يا بطلي الصغير.
حرك دواليب الكرسي مبتعداً، وما أن مر من جانب الشجرة التي تسلقها السنجاب قبل لحظات حتى توقف -كما يفعل دائماً- في حين راح يتلمس بأنامله الاسمين المنحوتين على جذعها. شعر برجفة تسري في أوصاله وصوتها يداعب أذنيه:
- تعال معي سأريك شيئاً.
همست بها في أذنيه، وهي تجذبه من ذراعيه.
- حسناً.. حسناً.
قادته إلى شجرته المفضلة، أشارت إلى نحتها الصغير، وهي تقول:
- كنت مشغولاً جداً في مطالعة كتابك، فصنعت هذا التذكار الصغير لكلينا.
نظرت إليه، وقالت مداعبة:
- حين نصبح جدين سنحضر أحفادنا، ونطلعهم على تذكارنا الجميل.
أومأ برأسه إيجاباً وهو يتحسسه برفق.
سحب يده بسرعة قبل أن تباغته الدموع مجدداً، وتقذف به في أتون الماضي الأليم، ألقى عليها بنظرات دامعة قبل أن تعود الدواليب المتحركة لإصدار ذلك الصرير الخافت مبتعدة عن المكان.
- ألا يمكن أن ينتظر الأمر حتى الصباح؟
قالتها وهي تجهز نفسها بسرعة:
- لا يمكن فوالدي مريض جداً وعلي أن أكون بجانبه.
كان يسيطر عليه هاجس أن والده يعيش لحظاته الأخيرة، وفكرة أن يسبقه الموت إليه تفقده السيطرة على نفسه وتغيبه عن التفكير؛ فصوت أمه وهي تنقل له خبر مرض أبيه الشديد لا يبعث على الطمأنينة. وضعا الأطفال عند جارتهم العجوز وانطلقا مسرعين.
أخذ شريط ذكرياته الجميلة مع والده يمر أمام عينيه بتسارع، وكلما تسارعت الأحداث زاد من سرعته، فما عاد يفكر سوى بذلك الجسد الممدد أمامه دون حراك تلفه الشراشف البيضاء، وعيناه تحتضنان السقف معلنة الصمت الأبدي. اجتاحته رغبة لإطلاق صرخة مشبعة بالدموع والألم، وقبل أن تغادر شفتاه اخترقت أعماقه صدى صرخة زوجته المذعورة، ليخرجه من ذلك المشهد نور ساطع عجز عن تفاديه وسرعان ما غاص في ظلام دامس وسكون مطبق.
حين فتح عينيه مجدداً عاد المشهد السابق يفرض نفسه بقوة، فالشراشف البيضاء تغطي جسداً ساكناً، وعينان عانقتا السقف، وشبح الموت يلقي بردائه المقيت في أرجاء الغرفة، والأسى طاغٍ في وجوه الحاضرين، ووالده يقف على بعد خطوات منه بعين دامعة ووجه شارد؛ لتسكن روحه هو ذلك الجسد الممدد دون حراك.
مر عليه وقت طويل قبل أن يستوعب عقله المنهك تدابير القدر، ففي حين كان هو يطوي الطريق بسرعة جنونية أقفلت والدته سماعة الهاتف وقد تبدل صوتها الباكي بضحكات مكتومة. توقفت فجأة عن الضحك، وقالت لزوجها بقلق:
- أشعر أننا نقترف خطأً فادحاً بحق ابننا، فقد كان منهاراً تماماً، وأنا أخبره بوضعك الصحي.
- لا تقلقي يا عزيزتي عندما يفتح الباب ليرى المفاجأة التي حضرناها له بمناسبة عيد ميلاه، سينسى كل شيء كم أتوق لمشاهدة نظرات الدهشة والسعادة في عينيه وهو يفتح هديتي له.
علت ملامح وجهه نظرات دهشة عابقة بالحزن والأسى، وهو يتلقى خبر وفاة زوجته التي سلمها بنفسه لحتفها بتهوره، ليعيش ما تبقى من حياته حبيس كرسي بدواليب تصدر صريراً مزعجاً كلما تحركت، وحبيس ألم لا يفتأ يدق معاوله الحادة في منعطفات ذاكرته.
- إنها مشيئة الله.
تحركت بها شفتاه ككل مرة تسيطر عليه هذه الأفكار، وأكملت الدواليب طريقها فعليه أن يذهب ليعود صباحاً، ويستظل تحت رفيقته العجوز التي ارتسمت على تجاعيدها أجمل الذكريات.
- أبي تأخرت في العودة أقلقتني عليك.
قالتها وهي تقترب منه مسرعة وتتحسس بحنان وقلق وجهه ويديه:
- أنا بخير يا حبيبتي لم أنتبه للوقت.
طبعت قبلة حانية على جبينه، وهي تهمس له:
- أرجوك لا تفعلها مجدداً تعلم أني شديدة القلق عليك.
ابتسم لها فهي تذكره بنفسه في حين راحت تدفع الكرسي، وهي تقول ضاحكة:
- أبنائي الأعزاء، ورثوا العناد من جدهم، لقد رفضوا تناول العشاء حتى عودتك.
لم تكمل كلامها حتى علت ضحكاتهما الجميلة المكان، وهما يتركان الباب حيث ظلا ينتظرانه طويلاً ليرتميا في حضنه، وهما يلومانه على التأخر في العودة وككل مرة يطلبان منه اصطحابهما معه في المرة القادمة.
فتح ذراعيه لهما، وأخذ يقبلهما بسعادة، وككل مرة وعدهما أن يأخذهما معه في الغد، لكن هذه المرة قرر الوفاء بالوعد، سيأخذهما للتعرف على مملكته الخاصة سيحكي لهما الحكايات الجميلة التي ورثها عن أبيه وسيريهما تذكار جدتهما الغالية.