مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الدواليب المتحركة

وضع الكتاب جانباً وطفق يراقب الشمس وهي تتسلل بهدوء خلف الجبال بعد يوم طويل كانت حنونة لآخر لحظة ‏وهي تلقي على الجميع ابتسامة ذهبية ناعسة، ابتسم لها بدوره واتجه ببصره لمراقبة سنجاب صغير، وهو ينتقل ‏بين العشب بحثاً عن حبات البندق، ماتت الابتسامة في شفتيه، وعيناه تراقبان حركته الخفيفة هنا وهناك.‏
‏- كم أنت محظوظ يا صغيري.‏
رددها في أعماقه وهو يضغط بقوة على مسند الكرسي، فإذا بقوة قبضته تخترق المعدن لتلتف حول قلبه وتعصره ‏بقسوة. أحس بنبضات قلبه تتسارع في محاولة منه للتخلص من تلك القبضة المؤلمة لكن دون جدوى.‏
تأوه بألم وهو يرمي برأسه للوراء محاولاً فك أزرار قميصه بيدين مرتعشتين. كانت عيناه تحدقان في السحب ‏الناعسة، وهي تسبح في السماء باسترخاء، بينما راح يدلك صدره وعنقه براحة كفيه، حتى استعاد قدرته أخيراً ‏على التنفس. مسح آثار الدموع من عينيه، وعاد لمراقبة السنجاب الذي كان قد ذهب.‏
تلفت حوله فلم يجد غير السكون يلف المكان فقد غادر الجميع ولم يبقَ سواه متكوراً على كرسيه يتجرع مرارة ‏العجز التي ألف مذاقها على مدى أعوام طويلة. تذكر أنه هو أيضاً لابد وأن يؤدي طقوس الوداع، ويغادر قبل أن ‏تخلد الشمس كلياً إلى النوم وتصبح دواليب كرسيه عاجزة عن تبصر طريق العودة.‏
التقط كتابه ووضعه في حقيبة صغيرة بجانب بقايا طعامه وشرابه، زاده اليومي الذي ينطلق به صباحاً إلى مملكته ‏الصغيرة حيث يطوي الساعات الطويلة عالقاً بين دهاليز الماضي تحت الشجرة التي شاركته الاستمتاع بحكايات ‏أبيه الرائعة عن الفترة التي قضاها في الجيش. ‏
‏- أنت بطل حقيقي يا أبي.‏
قالها وهو يداعب كرته الصغيرة بقدميه بعد أن أخبره والده كيف أنه أنقذ ثلاثة من أصدقائه من الأسر ورفض ‏التخلي عنهم ولو على حساب حياته.‏
‏- هل أصبت يومها؟!.‏
‏- لم تكن إصابة خطيرة ولم يتطلب الأمر إلا شهرين كي أستعيد عافيتي.‏
‏- أنت بطل حقيقي يا أبي.‏
‏- بل أنا إنسان يحب وطنه وأصدقاءه.‏
وضع الكرة جانباً وجلس إلى جانبه.‏
‏- عندما أكبر سأصبح مثلك جندياً شجاعاً.‏
حمله بين ذراعيه وأعطاه قبلة طويلة.‏
‏- بل ستكون أجمل شاب على وجه الأرض يا بطلي الصغير.‏
حرك دواليب الكرسي مبتعداً، وما أن مر من جانب الشجرة التي تسلقها السنجاب قبل لحظات حتى توقف -كما ‏يفعل دائماً- في حين راح يتلمس بأنامله الاسمين المنحوتين على جذعها. شعر برجفة تسري في أوصاله وصوتها ‏يداعب أذنيه:‏
‏- تعال معي سأريك شيئاً.‏
همست بها في أذنيه، وهي تجذبه من ذراعيه.‏
‏- حسناً.. حسناً.‏
قادته إلى شجرته المفضلة، أشارت إلى نحتها الصغير، وهي تقول:‏
‏- كنت مشغولاً جداً في مطالعة كتابك، فصنعت هذا التذكار الصغير لكلينا.‏
نظرت إليه، وقالت مداعبة: ‏
‏- حين نصبح جدين سنحضر أحفادنا، ونطلعهم على تذكارنا الجميل.‏
أومأ برأسه إيجاباً وهو يتحسسه برفق.‏
سحب يده بسرعة قبل أن تباغته الدموع مجدداً، وتقذف به في أتون الماضي الأليم، ألقى عليها بنظرات دامعة قبل ‏أن تعود الدواليب المتحركة لإصدار ذلك الصرير الخافت مبتعدة عن المكان.‏
‏- ألا يمكن أن ينتظر الأمر حتى الصباح؟‏
قالتها وهي تجهز نفسها بسرعة:‏
‏- لا يمكن فوالدي مريض جداً وعلي أن أكون بجانبه.‏
كان يسيطر عليه هاجس أن والده يعيش لحظاته الأخيرة، وفكرة أن يسبقه الموت إليه تفقده السيطرة على نفسه ‏وتغيبه عن التفكير؛ فصوت أمه وهي تنقل له خبر مرض أبيه الشديد لا يبعث على الطمأنينة. وضعا الأطفال عند ‏جارتهم العجوز وانطلقا مسرعين.‏
أخذ شريط ذكرياته الجميلة مع والده يمر أمام عينيه بتسارع، وكلما تسارعت الأحداث زاد من سرعته، فما عاد ‏يفكر سوى بذلك الجسد الممدد أمامه دون حراك تلفه الشراشف البيضاء، وعيناه تحتضنان السقف معلنة الصمت ‏الأبدي. اجتاحته رغبة لإطلاق صرخة مشبعة بالدموع والألم، وقبل أن تغادر شفتاه اخترقت أعماقه صدى ‏صرخة زوجته المذعورة، ليخرجه من ذلك المشهد نور ساطع عجز عن تفاديه وسرعان ما غاص في ظلام ‏دامس وسكون مطبق.‏
حين فتح عينيه مجدداً عاد المشهد السابق يفرض نفسه بقوة، فالشراشف البيضاء تغطي جسداً ساكناً، وعينان ‏عانقتا السقف، وشبح الموت يلقي بردائه المقيت في أرجاء الغرفة، والأسى طاغٍ في وجوه الحاضرين، ووالده ‏يقف على بعد خطوات منه بعين دامعة ووجه شارد؛ لتسكن روحه هو ذلك الجسد الممدد دون حراك.‏
مر عليه وقت طويل قبل أن يستوعب عقله المنهك تدابير القدر، ففي حين كان هو يطوي الطريق بسرعة جنونية ‏أقفلت والدته سماعة الهاتف وقد تبدل صوتها الباكي بضحكات مكتومة. توقفت فجأة عن الضحك، وقالت لزوجها ‏بقلق: ‏
‏- أشعر أننا نقترف خطأً فادحاً بحق ابننا، فقد كان منهاراً تماماً، وأنا أخبره بوضعك الصحي.‏
‏- لا تقلقي يا عزيزتي عندما يفتح الباب ليرى المفاجأة التي حضرناها له بمناسبة عيد ميلاه، سينسى كل شيء كم ‏أتوق لمشاهدة نظرات الدهشة والسعادة في عينيه وهو يفتح هديتي له.‏
علت ملامح وجهه نظرات دهشة عابقة بالحزن والأسى، وهو يتلقى خبر وفاة زوجته التي سلمها بنفسه لحتفها ‏بتهوره، ليعيش ما تبقى من حياته حبيس كرسي بدواليب تصدر صريراً مزعجاً كلما تحركت، وحبيس ألم لا يفتأ ‏يدق معاوله الحادة في منعطفات ذاكرته.‏
‏- إنها مشيئة الله.‏
تحركت بها شفتاه ككل مرة تسيطر عليه هذه الأفكار، وأكملت الدواليب طريقها فعليه أن يذهب ليعود صباحاً، ‏ويستظل تحت رفيقته العجوز التي ارتسمت على تجاعيدها أجمل الذكريات.‏
‏- أبي تأخرت في العودة أقلقتني عليك.‏
قالتها وهي تقترب منه مسرعة وتتحسس بحنان وقلق وجهه ويديه: ‏
‏- أنا بخير يا حبيبتي لم أنتبه للوقت.‏
طبعت قبلة حانية على جبينه، وهي تهمس له:‏
‏- أرجوك لا تفعلها مجدداً تعلم أني شديدة القلق عليك.‏
ابتسم لها فهي تذكره بنفسه في حين راحت تدفع الكرسي، وهي تقول ضاحكة:‏
‏- أبنائي الأعزاء، ورثوا العناد من جدهم، لقد رفضوا تناول العشاء حتى عودتك.‏
لم تكمل كلامها حتى علت ضحكاتهما الجميلة المكان، وهما يتركان الباب حيث ظلا ينتظرانه طويلاً ليرتميا في ‏حضنه، وهما يلومانه على التأخر في العودة وككل مرة يطلبان منه اصطحابهما معه في المرة القادمة.‏
فتح ذراعيه لهما، وأخذ يقبلهما بسعادة، وككل مرة وعدهما أن يأخذهما معه في الغد، لكن هذه المرة قرر الوفاء ‏بالوعد، سيأخذهما للتعرف على مملكته الخاصة سيحكي لهما الحكايات الجميلة التي ورثها عن أبيه وسيريهما ‏تذكار جدتهما الغالية.‏
ذو صلة