مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

جرائم الأطباء

كان الطب في أولى مراحله جهلاً، أساسه الخرافة والسحر، تغشاه هالات من الكهانة والدجل. فكان الكاهن هو الطبيب الذي يعالج أمراض النفس والجسد، وهو الوسيط الروحي بين الأرض والسماء. حتى كتابة هذه الكلمات لاتزال بعض القبائل في أواسط غابات وأدغال أفريقيا تمارس هذا النوع من الطب، ومازال الكاهن هو الطبيب.
فالطب مهنة لم يكن إلا ضرباً من الكهانة، ولم يكن مجالاً يرى فيه بصيص من العلم، بل كان بدائياً كحال الإنسان نفسه. إن أغلب العلوم بدأت هكذا مزيجاً من الشعوذة والخرافة، فمكانة الكاهن أو الطبيب قديماً كانت رفيعة الشأن، لا يعلوها رفعة ومرتبة إلا الآلهة التي كانت تعبد، وكان الطبيب هو المخلص من جميع الشرور. 
إن تاريخ الطب ليس كله انتصارات ونجاحات ضد المرض، فهو لا يروي قصة النضال والكفاح وقصة الشفاء والقضاء على المرض والسيطرة عليه، بل يروي أيضاً قصصاً من الخيانة للطب وللبشر. وهناك جرائم خطيرة قام بها أطباء ضد العلم والطب والبشرية. لقد استخدم الطب في أحيان كثيرة أداة للقتل في أيدي الأنفس الشريرة، فكان أداة في أيدي ملائكمة الرحمة للتشنيع بالجسد الإنساني. 
وهناك أطباء قاموا بأفضع من ذلك، وأجروا أبحاثاً طبية بلا أخلاق إنسانية، أو حتى حيوانية، حتى الحيوان يوجد لديه من العدالة في بعض الأحيان أكثر من بني البشر. ومن أشهر الفضائح والجرائم الطبية في تاريخ الطب في القرن العشرين دراسة توسكيجي لمرض الزهري (tuskege syphilis study)، فهذه الدراسة أجريت على مدى 40 عاماً، ولم تتحرك ضمائرهم، ولم يرف لهم جفن، أقصد الأطباء، بل زادوا إصراراً على إكمال التجربة التي تعد من أبشع الجرائم ضد الإنسانية. 

وقعت أحداث هذه الجريمة الطبية في مدينة صغيرة تسمى تسكج في ولاية ألاباما. أعدت هذه الدراسة على عدد من المواطنين الأمريكيين من ذوي البشرة السمراء الفقراء، وعددهم 600 فرد أغلبهم كانوا مصابين بالمرض قبل بدء الدراسة. ولكي يغرونهم بالمشاركة في الدراسة قاموا بإعطائهم وجبات وخدمات طبية مجانية، ولم يقم الأطباء بإخبارهم بأنهم مصابون بالمرض، ولم يعطوهم علاجاً للمرض، حتى بعد أن تم اكتشاف البنسلين المضاد الحيوي الذي يستخدم إلى الآن لعلاج المرض، بل استكملت الدراسة. وكان القائمون على الدراسة ينظرون إلى المرضى وهم يتساقطون أمامهم، ويرون تطور المرض ينخر أجسادهم ويمزقهم إلى قطع تجمع أشتاتهم القبور. لقد تجاهل هؤلاء الأطباء والعلماء أول قاعدة في الطب وهي ألا تؤذي المريض أبداً حتى لو بالكلام، وهذه القاعدة أرساها الحكيم أبوقراط أبو الطب الحديث، قبل أكثر من 2000 عام.
إن ما ذكرته عن الطب وصور من تاريخه ليس إمعاناً في السلبية، بقدر ما هو إيضاح للصورة بمنظار غليظ، وإن الطبيب يستطيع أن يبني صروحاً من العلم والمجد والمنفعة البشرية، وأيضاً بيده أن يهدم كل ما هو إنساني.
إن الطب قيمة سامية جداً، ورسالة خالدة على مر الأزمان، لهذا احتفى آباؤنا الأوائل من الأطباء المسلمين بهذه المهنة، ونظموا صنعتها، واخترعوا مجالات جديدة في الطب باكتشافاتهم، وضربوا أحسن الأمثال من خلق وعلم وأدب وفن، فأسسوا أخلاقيات الطبيب المسلم، من أمانة وعدل وعلم، فكان الطبيب مثالاً للإنسان الكامل العالم بأمور الطب وأمور الدين، لهذا نظرتنا نحن المسلمين والعرب للطب أنه من أشرف وأفضل المهن بلا منازع.
إن تطور الطب من الكهانة إلى أن أصبح علماً قائماً بذاته يحكي قصة تحول الإنسان من الهمجية في فجر التاريخ إلى الإنسانية في عصورنا المتأخرة، ويحكي قصة ولادة علم بالرغم من التحديات التي واجهته في كل عصر، فالنجاحات والإخفاقات من سمات العلوم الإنسانية، فالعلم يتقدم بالحذف والإضافة، والأخلاق تتقدم بالنقد الذاتي للنفس، والطبيب أحوج إلى تلك الأخلاق لكي يحقق الرسالة ويصون الأمانة.
pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة