مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

التطوير الذاتي بين الوهم والإبداع

بدا لي والله أعلم أن موجة الوقت المتمثلة في دورات (تغيير الذات وتنميتها) تركز في أدائها على البعد الفردي، بما ينتج إن صلحت عقاقيرها أفراداً ربما يتمتعون ببعض الصفات والمميزات الذاتية العالية. 
لكن الجانب السلبي في الإغراق في هذا الأسلوب هو فصل الفرد عن الجماعة، تنمو طموحاته الفردية، وقدراته الذاتية، وتزداد فيه وتيرة حب الذات وإرضاء متطلباتها ورغباتها الذاتية، وما يتبع كل هذا من تحفيز الأنانية، والدوران نحو الفرد وذاته. فنصبح أمام مجموع من الذوات كل ذات تستقل بعالمها من الطموحات في أحسن الأحوال والرغبات تحت غواية تنمية الذات. والنتيجة المتوقعة حينئذ تقلص حضور الجماعة في الواقع المعيش، فالكل صار مشغولاً بتنمية (الذات والفرد)، والجماعة تحضر إن حضرت على هامش الشعور أو حتى اللاشعور.
والسبب وراء هذا فيما يبدو أن نشأة هذه الممارسات والتدريبات وقواعدها ذات المنبت الغربي، وبالضبط الغربي الحر الرأسمالي، الذي يمثل فيه الفرد والفردية مركز التفكير، وروح فلسفته على تعدد مدارسها واتجاهاتها. لذا يبدو من المنطق الطبيعي الداخلي أن يكون هذا من المسلمات والبديهيات التي يقوم عليها أي تطوير وتنمية ذاتية.
ومن الناحية التطبيقية العملية، فمن شروط أي مشروع نشأ في البيئة الحضارية الغربية ألا يُعتمد ويُصار إلى تطبيقه وممارسته في الواقع حتى يمر بالتجارب العلمية اللازمة، ومن المعلوم أن مناهج العلوم الاجتماعية في الغرب صيغت وفق مقولات ومسلمات مادية الإنسان، وعليه فالأساليب والإجراءات، وتصميمات البرامج، والتدريبات كلها تكون موجهة بتلك المسلمات، وأوامرها.
وإذ نحن أقبلنا على هذه الموجة، فأنشأنا مراكز، ومدربين، ومتخصصين، فنكون قد أخذنا تلك البرامج، والتدريبات كما هي، غاية ما تفعله الجهات المسوقة لهذه البرامج، إن أضفت عليها مبادئ وسلوكيات إسلامية، وربطتها بأحوال، وممارسات المسلم في حياته، دون فحص خلفيتها الفلسفية والمنهجية. والنتيجة ستكون - إن صح هذا التحليل- على مستوى البرامج، والتدريبات، نماذج تطبيقية عملية قد تنتج أفرداً عاليي النزعة الفردية في مسوح إسلامية، وحينذ تكون العولمة (الرأسمالية في طبعتها المعولمة) قد أفلحت أيما فلاح في صياغة المجتمع الحر في جوهره الرأسمالي الغربي، وعواطفه وعقليته وتطلعاتها المفعمة بالفردية.
والبعد الأهم الغائب هو تنمية الفرد ضمن تنمية الجماعة، وهو المنهج الإسلامي النموذجي في التربية القرآنية والنبوية، فالفرد فيها نموذج للجماعة، والجماعة مظهر لأفرادها. وكل تنكب لهذه الخاصية الجوهرية في أي تنمية أو تغيير، تضيع أصالة المنهج، إن لم تكن إسلاميته أصلاً. 
قد يكون من المناسب ملاحظة أن بعض البيئات العربية -خصوصاً التي أزهرت وشاعت فيها هذه الموجة (تنمية الذات وتطويرها)-، هي البيئات التي تعيش حالات عالية من الرفاهية المادية، واجتمعت فيها المبادئ الإسلامية في صورتها الظاهرية النصية، مع سريان منظم منهجي، وخفي للبرامج التربوية والأسرية والاقتصادية والاجتماعية بأسسها الفكرية والفلسفية الغربية العتيدة. فكانت بهذا البيئات المهيئة لإثمار النموذج (العولمي الرأسمالي) ذي المسوح الإسلامية، فتندغم الحقيقة الإسلامية في عتو العولمة الطاغية.
والبديل الناجع هو الإبداع والابتكار الخيار الأصعب، والأليق بالإنسان في حالة شعوره الواعي بإنسانيته، فضلاً عن المؤمن العزيز بعزة الله ورسوله ودينه. فالمبادئ والقيم الخام حاضرة، والنموذج المثالي الأليق بالحقيقة الإنسانية محفوظة في (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب 21. فهل من مستجيب للتحدي الإبداعي المؤمن الذي يبرهن فيه عملياً عن عبقرية الخروج من القابلية للاستعمار؟
ذو صلة