مما لا شك فيه، أن للفكر الإسلامي منطلقه الأصيل بطابع الفطرة المركوزة في أعماقه، إذ أنه قائم على التوحيد. ولا غرو، فالفكر الإسلامي يستوحي قواعده ويستمد خصائصه من منهج القرآن الكريم، فإذا أخضع لمنهج آخر فقد ذاتيته وأصالته، وقد كان ولا يزال يجالد الخطوب في مقاومته للتبعية ومواجهته للاحتواء.
وإذا كان الفكر الإسلامي قد حاز قصب السبق في تكامله قبل ترجمة الفلسفة اليونانية، فبدهي أن يكون ثمة تعارض بين فكرنا الإسلامي وفلسفة اليونان التي تصادم الأخلاق، فضلاً عن شركها المحاق. وإني لأعجب بعد هذه الحقيقة الناصعة كالشمس الساطعة أن يزعم الزاعمون أن الفلسفات البشرية (القائمة على الوثنية والباطنية..)؛ تستبطن سويداء الفيلسوف المسلم. ولنا أن نقول إن بعض الفلاسفة العرب كانوا من أتباع الفكر البشري المنحرف كالهيلينية اليونانية الوثنية، والغنوصية الشرقية الثنائية، ومنهم من كان ضحية لجائحة تلك التيارات الوافدة التي حملتها الرياح الصفراء إلى أفق العالم الإسلامي، ولكن هؤلاء وأولئك لا يمثلون المسلمين في فكرهم.
وقد رأينا في العصر الحديث من يحاول أن يلبس فكر المسلمين ثوب التبعية، مثيراً بذلك شبهات خطيرة، وقد أعلن بعضهم أنّ تقدم الثقافة الإسلامية رهين باتباع نهج أرسطو. ولا يساورنا أدنى ريب أن هذه دعوة مغرضة وصفها الدكتور أحمد محمد سالم بأنها (تفوق دعوات المستشرقين).
ونحن نعلم أن المنطق الأرسطي يقوم على القياس والاستدلال النظري، لكن الفكر الإسلامي له منطق يفصح عن خصائصه، ألا وهو: المنطق الحسي التجريبي.
وأريد أن أثبت هنا أن مدرسة الأصالة التي قامت مع مصطفى عبد الرازق، وسار فيها علي سامي النشار؛ أكدت رفض مفكري الإسلام لمنطق الفلاسفة، وبخاصة المنطق الأرسطي وانتقدوه.
وأنى للمسلمين أن يقبلوا الفكر الدخيل وهم أصحاب الفكر الأصيل، ذلك أن لهم ميتافيزيقاهم، أي أن لهم منهجهم في التفكير الذي قدمه لهم الإسلام.
ونعود فنقرر أن الفكر الإسلامي تشكل وتكامل قبل ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية، التي بدأت منذ خلافة أبي جعفر المنصور حتى وفاة هارون الرشيد، وكانت إذ ذاك مقتصرة على الكتب الطبيعية، ولكنها في عصر المأمون أخذت لوناً آخر ينبئ بالخطر وذلك بترجمة الإلهيات اليونانية والعقائد الفارسية، بل وصل الأمر إلى غاية الخطورة لما تبنى المأمون في آخر أيامه فتنة خلق القرآن، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية غير راضٍ عما أقدم عليه المأمون، تاركاً أمر هذا الأخير لله تعالى كي يأخذه بجريرة الذنب. وجدير بنا أن نثني على موقف الإمام أحمد بن حنبل الذي صمد في تلك الفتنة صموداً منقطع النظير، فلله دره.
إن الإسلام يضع الضوابط التي تحمي المسلمين من الوقوع في براثن الفكر البشري، ولذلك فقد انطلق منذ فجره يواجه تلك الفلسفات، ويكشف خطرها ويطهر صلفها، وكان له موقف حاسم منها.
ولا يفوتنا أن نشير إلى حقيقة جوهرية هي: أن ما قدمه الإسلام هو الحكمة وليس الفلسفة، وهي مناقضة للحكمة الإغريقية، إذ أن الحكمة الإسلامية مستوحاة من الحكمة القرآنية.
وصفوة القول أن الفكر الإسلامي لم يكن تابعاً لأي فكر، وإنما كانت له ذاتيته الخاصة، وقد استطاع أن يتخطى منطق أرسطو ويتجاوزه. وإن ما يفصح عن أصالة فكرنا الإسلامي هو المنهج الاستقرائي العلمي والتجريبي، ويحضرني هنا ما قام به شيخ الإسلام ابن تيمية الذي جعل من المحسوسات والجزئيات أساساً مهماً للمعرفة، ورفض القول بالكليات والمفاهيم العامة المجردة، كما أنه وقف كالطود الشامخ في دحض اتهامات التبعية.
وهكذا يبقى الفكر الإسلامي أصيلاً، ينشر أريجه عرضاً وطولاً، فأصالته تجعله صامداً، وسيظل شامخاً شموخ الجبال الرواسي، لأنه ينفع الناس: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ).