الشيخ محمد صالح بن علي باعشن من كبار أعيان جدة وأهم تجارها، وجدّه عبدالله، هو الذي تنتسب إليه شجرة العائلة في جدة، وقد نزح جدنا علي رحمه الله من حضرموت تاركاً خلفه أراضٍ ومزارع من نخيل يمتلكها والده وأهله متوجهاً نحو الليث ومنها إلى جدة وهو في عمر العاشرة، وقد وهبه الله عقلاً راجحاً؛ فركز على التجارة وخاصة تجارة الحبوب والبهارات والمنسوجات القطنية، وكذلك برع في بيع وشراء البيوت وخصوصاً في محلة المظلوم والشام، وبعد ذلك توجه إلى مصر وتعرف على مجموعة من التجار الحضارم والمصريين، فتعاقد معهم وعاد إلى جدة لينشر تجارته من البضائع المستوردة المختلفة، وبعد ذلك توسعت تجارته وأصبح لديه بواخر خاصة به.
وفي عام 1250هـ بنى أول بيت له فوق قطعة ممنوحة من الدولة العثمانية التي كانت تمنح المواطنين أراضي، وعندما شاهد الوالي العثماني لمدينة جدة المبنى الذي أقامه أعجب بطريقة تصميمه وبنائه، فطلب من الشيخ علي باعشن السكن به.
وبعد ذلك بنى بيتاً آخر سنة 1260هـ المعروف حالياً ببيت الطويل، وبعد أن كبر في العمر أصبح أبناؤه محمد صالح وعبدالله وعبدالرحمن يساعدونه في إدارة تجارته.. وفي عام 1273هـ، أصبح شيخ التجار بجدة.
وبعد وفاته أصبح ابنه الشيخ محمد صالح مكملاً لتجارة والده، والذي ولد في سنة 1291هـ بمدينة جدة وتلقى تعليمه بها، وقد كتب عن تاريخ حياته الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري في موسوعة تاريخ جدة.
كان الشيخ محمد صالح كفيف البصر، حيث كف بصره في شبابه، لكن الله سبحانه وتعالى عوضه عن ذلك ببصيرة ثاقبة ودهاء بالغ وحكمة عالية ووجاهة وطول في العمر وصحة وسعة في الرزق فتوفي وعمره يناهز المئة عام تقريباً.
اهتم والده الشيخ علي بن عبدالله باعشن بتعليمه وحرص على ذلك وعلمه أصول التجارة التي كان يمتلكها بين الشام ومصر والعراق والحجاز وصولاً للهند، فقد كان يمتلك سفناً تجارية تجوب البحار طولاً وعرضاً.
وحرص على ذهابه إلى الكتّاب، وكان يشرف عليه ويعاونه على ذلك أخوه الأكبر سناً الشيخ عبدالله بن علي بن عبدالله باعشن الذي كان يقول عنه الشيخ محمد صالح بن علي باعشن في كتاب “موسوعة جدة”: (إن أخي عبدالله قد أحسن تربيتي، حيث أدخلني الكتاتيب). ويذكر آخر كُتّاب هو كتّاب الشيخ علي حبلص رحمه الله: (فقد حفظت فيه القرآن الكريم وجودته. وبعد ذلك بعثني إلى الشيخ عيسوي والد علي أفندي طه، معاون قائمقامية جدة سنة 1359هـ، ثم بعد ذلك اهتم بتعليمي أصول الفقه فكنت ملازماً للطلب عند الشيخ أحمد بن علي بن سليمان وكان من شدة اعتنائه بي وحفظه لي كان يبعث معي شخصاً يحمل لي المحفظة والكراسة والسجادة، وتارة أخرى يرسل معي شخصين ليطمئنا على رجوعي من الدرس، ولا يكتفي بمن معي من الأشخاص. وكنت إذا أصبحت أنزل إليه وإذا تأخرت برهة يسير فيرسل إلي رسولاً يطلبني. وكنت في بعض الأحيان يأخذني النوم فإذا انتهيت وعرفت أن الوقت حضر أغسل وجهي بالماء سريعاً خوفاً ورهبة منه لأنه زرع هذا في قلبي لمصلحتي، وإن كنت لم أبلغ الحلم في ذلك الوقت. وعندما أنزل إليه كان يراجع لي درساً من القرآن الكريم وأكرره عليه مراراً، فإذا رحت إلى الكتّاب أكون حافظاً لدرسي تماماً، وكان ساعة قراءة الدرس يقلب من المصحف عشر ورقات أو أكثر، ويقول لي: اقرأ هنا، ليعلم أني حافظ لما سبق، وبمثل هذا يعاملني في مدة حصة الكتابة والحساب، وكان يسألني في بعض المسائل الفقهية كالوضوء والنية، وما يشابه ذلك، فنحمد الله تعالى أنه رأى مني ماسره).
لقد كان الشيخ محمد صالح معاوناً وباراً لوالده، في حين كان والده يفكر دائماً بعلاجه، كلما توجه إلى تجاره خارج الحجاز يأخذ معه ابنه محمد صالح ليكتسب الخبرة وبنفس الوقت يذهب للكشف عند أمهر أطباء العيون.
فذهب به إلى مصر وتركيا والشام وعدة بلدان، وعندما كبر تزوج محمد صالح من بلاد الشام -وقد كانت والدته أيضاً من بلاد الشام- فأنجب منها ابنته الأولى جواهر، ثم توفيت بعد ذلك رحمها الله، ثم تزوج بعدها من قريبة له تدعى محفوظة محمد صالح باعشن، والتي أنجبت له أحمد وعبدالقادر ثم توفيت بعد ذلك.
ظل سنوات طويلة بعيداً عن فكرة الزواج حتى يكبر ولداه وخصوصاً أن ابنه عبدالقادر كان يعاني من الربو الشديد في صغره، فكان يخاف عليه ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً.
ورغم قوة الشيخ محمد صالح وصلابة مواقفه إلا أن داخله قلب حنون، وعندما كبر ولداه أحمد وعبدالقادر فكر بالزواج من أخت زوجته المتوفاة، لأنها ستكون بمثابة الأم لأبناء أختها، فتزوج منها وكانت تدعى عائشة بنت محمد صالح باعشن، فأنجب منها رقية وفاطمة.. وهما على قيد الحياة بارك الله فيهما، وبعد وفاة والده الشيخ علي بن عبدالله باعشن كان يساعده في التجارة شخص مقرب منهم منذ الصغر تربى في منزلهم يدعى دادي أمان.. وكان مبدأ الشيخ محمد صالح في التجارة وسياسته البيعية هو البيع الكثير والقناعة بالربح اليسير وظل محله التجاري مركزاً لتجار جدة، حيث يجتمع البعض من التجار عنده في الصباح ويتداولون أمور التجارة في ذلك الوقت.
ويؤكد جميع من عاصر الشيخ محمد صالح من التجار وغيرهم في ذلك الوقت أنه يشهد له، بأنه تاجر محترف وناجح وصدوق، وكان يُحَكّم في كثير من الأمور التجارية.
وبقي منزله مُشرع الأبواب يومياً يأتيه الكثير من البسطاء والوجهاء والأعيان والعلماء ملتفين في خارج المنزل للسمر والمناقشات التجارية والفكرية وحتى الأدبية.
وقد عرف بأنه رجل حكيم ومصلح اجتماعي بين الأزواج وفي شؤون الأسرة.. بل يساعد الشباب المقبلين على الزواج بتسليفهم جميع ما يحتاجونه من فرش ومستلزمات الحفل ويسلف العريس ما يسمى بالمعاشر الفضية التي يضع بها مهر العروس والشبكة.. ولم ينس العروس أيضاً، فكان يسلفها الحلي الذهبية التي تتزين بها.. كل ذلك كان يرجو منه وجه الله تعالى.
وامتاز أيضاً بأمانته وأن لديه الكثير من الوثائق المهمة التي يأتمنها عليه الغير.. وأصبح ينزل بداره كثير من الأعيان والوجهاء والتجار من خارج جدة وهم محملون بالأموال والذهب، فكانوا يضعونها أمانة لديه، وقد ذُكر عن الشيخ محمد صالح بن علي باعشن في كتاب حياة الأمير علي بن عبدالله الوزير لمؤلفه أحمد بن محمد بن عبدالله الوزير.بأنه تاجر سعودي مشهور حضرمي الأصل معروف بحسنه، نزل الأمير ومن معه وأسرته في بيته عند عودة الأمير من المدينة المنورة.. وذكر أيضاً أمانته التي عرف بها. فقال في كتابه: (وفي الميناء كان قائم مقام جدة ابن معمر في استقبال الأمير وبعد أن تمت حفلة الاستقبال التقليدية ركب مع الأمير في سيارته وركب الأخ عبدالله بن علي والأخ محمد بن محمد وكاتب هذه السطور والوالد حسن بن قاسم عثمان وآخرون على سيارة أخرى من سيارات التشريفات الملكية وركب الوالد محمد بن محمد زبارة وعائلته على سيارة ثالثة واتجه الركب إلى بيت عبدالله بن سليمان وزير المالية. ولما وصل المرافقون مع العفش أمر الأمير الحاج هزاع الذي هو المعتمد على الأشياء هو والحاج صالح بن حسن القسامي بأن يسلموا هدية الملك عبدالعزيز المكونة من مجموعة من البن وخمس من الخيول الأصيلة إلى من يأمر قائم مقام جدة التسليم إليه. أما أمواله الخاصة وكانت مودعة في صناديق خاصة صغيرة وهي من الريالات الفضية ماري تريزا فقد استدعى الأمير الحاج محمد صالح باعشن ليرسل من يستلمها فوصل أحد أولاده فتسلم المبالغ وأودعها لديه لتكون بنظره..) “صفحة 347” ثم أكمل المؤلف حتى وصل إلى .. (وقد وجدنا في كرم الملك المغفور له عبدالعزيز آل سعود رحمه الله طيلة مقامنا بالأراضي العربية السعودية ما ترك في قلوبنا الأثر الطيب والذكرى الحسنة، وقد تفضل الملك في اليوم الثاني من وصولنا بتحديد موعد للمقابلة مع الأمير ورفاقه في الساعة الثالثة صباحاً بالتوقيت الغروبي فجاءت ثلاث سيارات من التشريفات الملكية فأقلتنا إلى قصره العامر بمكة وكانت المقابلة ودية أخوية تعرف الملك على كل منا ثم سأل أين وصلنا بجدة؟
وهل قام قائم مقامهما بما يلزم؟ وأين نزلنا هنا بمكة المكرمة؟ وكيف وجدنا الدار التي نزل بها؟ مخاطباً بالحديث الأمير الذي شكر الملك وأثنى عليه وعلى رجال حكومته. وكنت أنا معجباً بحديث الملك عبدالعزيز الذي ليس فيه تكلفة ولا استعلاء، وإنما لهجة عادية بدوية عربية صريحة ممزوجة بالطابع الإسلامي) “صفحة 348-349”. (وفي اليوم التاسع من دخولنا المدينة عاد الأمير ورفاقه إلى جدة وقد نزل الأمير وأفراد أسرته الثلاثة عبدالله بن علي، ومحمد بن محمد، والمؤلف بدار الشيخ محمد صالح بن علي باعشن، صديق آل الوزير، حيث بقينا بداره أكثر من أربعة أيام، أما الآخرون الوالد حسن بن قاسم، ومحمد محمود الزبيري، وعبدالمغني بن علي حميدالدين، ابن أخت الأمير، والقاضي محمد بن أحمد السياغي، وبقية الإخوة الآخرين، فقد نزلوا في مبنى آخر بالأجرة على حساب الأمير، وكان الملك قد نزل من مكة إلى جدة ودعا الأمير ورفاقه ومن يحب الأمير من اليمنيين الموجودين بجدة إلى حفل عشاء بقصر خزام الذي كان يبعد عن جدة بكيلومترات قليلة...) “صفحة 354”.
كذلك استضاف منزل الشيخ محمد صالح باعشن رحمه الله خطاط مصحف مكة المكرمة الشيخ محمد طاهر كردي وكذلك السيد علوي المالكي رحمهما الله تعالى. وغيرهم كثيرون. وكان يقوم بمساعدة من يحتاج له من التجار بتسليفه جنيهات من الذهب ليحل أزمته أو ببعض المال.
أيضاً عرف عنه أنه كان محباً للعلم ونهماً له، فكوَّن مكتبة علمية وثقافية وأدبية ودينية واجتماعية وتاريخية ومأثورات تاريخية قديمة تضم أهم الكتب النادرة والقديمة، وقد أهديت بعد وفاته بفترة طويلة إلى مركز دارة الملك عبدالعزيز.. رحمه الله وطيب ثراه.
وكانت له الكثير من المطبوعات والمقتنيات والطوابع الأثرية.. وكان يستعين في القراءة والكتابة بوالدي -حفظه الله- عبود أبوبكر بن عبدالله باعشن الوصي الشرعي للمنزل حالياً والذي تربى على يديه وحقق حلمه في إكمال دراسته الجامعية في جامعة عين شمس بالقاهرة. وعندما سافر والدي للدراسة، ناب عنه عمي عمر حفظه الله.
ظل منزل الشيخ محمد صالح عامراً للجميع، وقد تربى به الكثير من الأيتام، ليخرجوا بعد ذلك للحياة متقلدين أفضل المناصب والوظائف.. ولم يهمل الشيخ محمد صالح تهذيب وتربيه أبنائه منذ صغرهم “أحمد وعبدالقادر” فاهتم بهم من جميع النواحي حتى اشتد عودهم وأصبحوا معاونين له في تجارته.. لكنهم لم يتوقفوا عند ذلك.
أصبح ابنه الأكبر الشيخ أحمد نائباً لرئيس الغرفة التجارية الصناعية بجدة الشيخ محمد علي رضا وبقي العضو الوحيد الذي استمرت عضويته 40 عاماً في المجلس البلدي، ورئيساً للمحكمة التجارية لفترة طويلة، وكذلك رئيساً للجان الاستيراد في عهد المغفور له بإذن الله تعالى الملك سعود، إضافة إلى أنه ناظر لمدرستي الفلاح بجدة ومكة لمدة 25 عاماً، وقد أنشأ مبانٍ لمدرسة الفلاح من الأموال التي تجمعت من مشروع قرش الفلاح الذي اقترحه الإمام المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله وطيب ثراه. وقد كانت بداياتها في العهد العثماني، ثم طورها الملك عبدالعزيز وأولاها عنايه خاصة فأصبحت لها الريادة في التعليم وتخرج منها الكثير من القياديين الذين خدموا دينهم ووطنهم. أما ابنه الأصغر الشيخ عبدالقادر فكان له ذوق رفيع فبرع في الهندسة المعمارية الداخلية والخارجية إلى جانب أنه من أبرز المثمنين العقارين وأهمهم.. لما يملكه من خبرة تجارية واسعة.
وبعد وفاة الشيخ محمد صالح بن علي بن عبدالله باعشن تسلم التجارة ولداه أحمد وعبدالقادر وتخصصا في تجارة الشاهي والسكر وبعض المواد الغذائية.
وبعد وفاة الشيخ عبدالقادر وهو في سن مبكر تسلم التجارة أخوه الشيخ أحمد
وقد رزق رحمه الله بابنة وهي السيدة سعاد رحمها الله. ورزق أخوه عبدالقادر رحمه الله، بسبع بنات وابنين هما محمد وأحمد عبدالقادر بن محمد صالح بن علي بن عبدالله باعشن.