نعالج في هذا المقال إشكالاً نفسانياً، إذ لا يخفى على أحد أن الحزن من الأمراض النفسانية التي تصيب الإنسان وتقوض مضجعه، وبما أنه كذلك أصبح لزاماً وضرورياً البحث عن كيفية التخلص منه ومعالجته.
ولعل هذا الأمر قد أرّق علماءنا ومفكرينا الأوائل، وأدركوا مدى خطورته وانعكاساته الوخيمة على حياة الإنسان، ما دفعهم إلى دراسة هذه المسألة وأفرغوا فيها جهودهم، وبذلوا طاقاتهم الفكرية والعلمية للإحاطة بجميع جوانبها.
فأثمر هذا الجهد العقلي والشعور الوجداني دراسات وأبحاثاً قيمة، تنمّ عن حرصهم الشديد على صحة الإنسان النفسانية، لأنهم كانوا يدركون، وهذا ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة، بأن الأمراض النفسانية لها انعكاسات سلبية وبيلة، وقد تكون سبباً في تدهور صحة الإنسان الجسدية ونخر قواه الجسمانية، كالقلق والاكتئاب، والعشق، والحزن.. وغيرها.
هذا ما حفزني إلى البحث في هذه المسألة من خلال أعمال تراثية إسلامية جلّى لعلماء ومفكرين، كانت لهم إسهامات رائدة في هذا المجال، أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا وابن حزم ومسكويه وابن القيم الجوزية.. وغيرهم. وسأقتصر في مقالي هذا على شخصية من القرن الثالث الهجري، أنموذجاً لمثل هذه الدراسات النفسانية، وأخص بالذكر هنا فيلسوف العرب الكندي، في انتظار مقالات أخرى إن شاء الله تتناول الموضوع نفسه عند العلماء السالف ذكرهم.
نبذة مختصرة عن الكندي
يعتبر الكندي (185 - 252 هـ/801 - 866 م) أول عربي مسلم اشتغل بالفلسفة وأتقن علومها، ولذلك سمي فيلسوف العرب. كما قال عنه ابن نباتة في شرحه لرسالة ابن زيدون إنه فيلسوف الإسلام.
وقد اعترف كثير من الفلاسفة الغربيين بفضل العرب على الحضارة الغربية، فهذا الفيلسوف الغربي كاردان يعتبر الكندي واحداً من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية، ويصنفه ضمن عباقرة العرب المرموقين. أما الفيلسوف الإيطالي جيرار الكريموني فيعد الكندي ذا قريحة خصبة، وأنه واحد عصره في معرفة العلوم بأسرها، وأن إحاطته بكل أنواع المعارف تدل على سعة مداركه وقوة عقله وعظم جهوده.
وكان الكندي شديد الذكاء، واسع الاطلاع، ومترجماً ومتبحراً في علوم الطب والفلسفة والمنطق والحساب والهندسة والكيمياء والموسيقى والفلك، ويعد أول من نقل فلسفة اليونان إلى الثقافة العربية. وألف في كثير من أنواع المعارف التي كانت سائدة في عصره. ويذكر ابن النديم أن له مئتين وثمانياً وثلاثين رسالة، ويذكر ابن أبي أصيبعة أكثر من ذلك.
رسالة الكندي في علاج الحزن
كان من بين ما ألفه الكندي رسالة (في الحيلة لدفع الأحزان)، نشرت في كتاب (رسائل فلسفية للكندي والفارابي وابن باجة وابن عربي). وفيها يطلب صديق للكندي أن يضع له كتاباً في دفع الأحزان. واستجابة لهذا الصديق أنجز هذه الرسالة. وهي مزيج بين الأدب والفلسفة. فمن خلال هذه الرسالة يعرف الكندي الحزن ويبرز أسبابه، ويذكر بعض الأساليب للتغلب عليه.
تعريف الكندي للحزن وتبيين أسبابه
قبل الخوض في معرفة دلالة ومعنى كلمة الحزن لدى الكندي، يجمل بنا أن نبحث عن دلالة هذه الكلمة في بعض المعاجم العربية، وكذا استعمالاتها في القرآن الكريم.
إن كلمة حزن لغة، من خلال أشهر معاجم اللغة تعني: انفعال مضاد للفرح والسرور، وهو يحدث نتيجة مكروه ما يصيب الإنسان. الحزن نقيض الفرح، وهو خلاف السرور. وقد ورد ذكر هذه اللفظة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم:
من ذلك ما أشار إلى حزن أم موسى عليهما السلام حينما ابتعد عنها ابنها، بعد أن ألقت به في صندوق في اليم: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)، (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ).
ووصف القرآن حزن يعقوب من فقد ابنه يوسف عليهما السلام: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)... (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
ووصف القرآن أيضاً شعور الحزن الذي ألم بأبي بكر رضي الله عنه حينما كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، وكان الكفار يطاردونهما للبطش بهما: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا).
ويذكر القرآن في كثير من الآيات الحزن مقروناً مع الخوف، ومن أمثلته هذه الآيات: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
أما الكندي فيعرف الحزن بأنه: (ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات، وفوت المطلوبات).
وفي هذا الصدد يقسم الكندي هذه المحبوبات والمطلوبات إلى حسية وعقلية: فالأولى مصيرها الزوال، وبالتالي يحزن الإنسان لفسادها وزوالها ويشعر بالآلام. أما الثانية فهي دائمة وثابتة لا تتعرض لفقد أو فوات. ولذلك فمن كان يريد أن يُرَى سعيداً ويطرح عن نفسه آلام الحزن، فيجب عليه أن يروم محبوباته ومطلوباته في العالم العقلي لا العالم الحسي، يقول الكندي: (فإن أحببنا ألا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا، فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، وتصير محبوبتنا وقنْياتنا (أي ممتلكاتنا) وإرادتنا منه. فإنا إذا فعلنا ذلك أمنا أن يغصبنا قنياتنا أحد، أو تملكها علينا يد، وأن نعدم ما أحببنا منها، إذ لا تنالها الآفات، ولا يلحقها الممات، ولا تفوتنا الطِلبة).
ويرى الكندي أن الإنسان معرض دائماً لفقد محبوب، وفوات مطلوب مرغوب فيه، فإن هو حزن لذلك فإنه سوف يكون دائم الحزن. لذلك فإنه ينبغي (ألا نحزن على الفائتات، ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضية بكل حال، لنكون مسرورين أبداً).
وفي نظره أن إصلاح النفس وإشفاءها من أسقامها أوجب الواجبات علينا من إصلاح الأجسام: (فإننا بأنفسنا نحن.. لا بأجسامنا.. وأجسامنا آلات لأنفسنا تطهر بها أفعالها. فإصلاح ذواتنا أولى بنا شديداً من إصلاح آلاتنا).
أساليب الكندي في علاج الحزن
انطلق الكندي في رسم الأدوية لعلاج الحزن من مسلمة أساسية هي: كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى علاجُه، ولهذا، حسب رأيه، ينبغي تبيين سبب الحزن ليمكن وصف علاجه.
فمن الأساليب التي يعتمدها الكندي لدفع الحزن أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى نوعين: النوع الأول يحدث بسبب فعل نقوم به، ويتوقف أمره على إرادتنا. والنوع الثاني ينشأ عن عمل يقوم به الغير ويتوقف أمره على إرادته. فبخصوص النوع الأول من الحزن فيرى الكندي أنه يمكن التخلص منه، لأننا نستطيع أن نجنب أنفسنا السبب في هذا الحزن ونزهد فيه. وأما ما يصدر بسبب غيرنا فيجب علينا ألا نحزن قبل وقوع هذا الفعل. وفي حالة حدوث هذا الفعل وكان سبباً في حزننا فينبغي علينا (أن نجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن. فإنا إن قصرنا في ذلك كنا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه)، وبالتالي فمن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن شقياً ظالماً.
ومن الأساليب التي يقترحها الكندي للتخلص من الحزن، عملية الاستذكار للأسباب التي كانت من وراء حزننا وحزن غيرنا، فإنها وسيلة فعالة تمدنا بقوة عظيمة على السلوة عما يحزننا في الوقت الراهن. وبهذه المناسبة يستدل الكندي برسالة بعث بها الإسكندر المقدوني إلى أمه يعزيها وهو على فراش الموت. مفادها أنه طلب منها ألا تحزن، لأن كل شيء في الدنيا زائل، وأنه إذا مات فلتجمع الناس على طعام وشراب، ولكن ليُنادِ مناد ألا يحضر كل من أصابته مصيبة.. فلم يحضر أحد.
وكما ربط الكندي بين الحزن والذاكرة، يربط أيضاً بين الحزن والملكية، فهو يرى أنه علينا ألا نملك شيئاً حتى لا نفقده فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا ألا نملك شيئاً. وفي هذا السياق يذكر الكندي لصديقه حكاية نيرون إمبراطور روما، الذي أُهدِي قبة من البلور عجيبة الصنعة، فسُرّ بها نيرون كثيراً، ومدحها الحاضرون من خاصته، وكان بينهم فيلسوف، فسأله نيرون عن رأيه في قبة البلور، فأجاب الفيلسوف بأنها تنطوي على مصيبة ستحدث للإمبراطور، فقال نيرون: كيف؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وعندئذ ينالك الشقاء ويتلبسك الحزن.
ويرى الكندي أن كل الأمور الدنيوية هي في متناول الجميع للحصول عليها أو الوصول إليها، فالأحق بها من سبق إليها وكانت له الغلبة على غيره في الحصول عليها. فالأولوية والأحقية هنا رهان مشترك بين جميع الراغبين في الظفر بها. وأما الأشياء التي هي لنا لا لغيرنا ولا ينازعنا فيها أحد، فهو ما لدينا وما نختزنه من الخيرات النفسية. (فهذه هي التي لنا العذر في الحزن عليها إن فقدناها من أنفسنا. فأما ما ليس لنا إلا بالتغلب فليس يحسن بنا الحزن عليه، لأن من حزن على ألا يملك الناس ما لهم أن يملكوه بالطبع فهو حسود. فينبغي لنا ألا نقرف أنفسنا بالحسد، إذ هو أكمل الشرارات).
ويُذكّر الكندي الإنسان بأن كل ما يمتلكه وما في حوزته إنما هو لله عز وجل، ويمكن له في أي لحظة شاء أن يسترد عاريته منه، وبالتالي فلا يليق بنا أن نحزن ولا نأسى لهذا الاسترداد، بل يجب أن نفرح لكون أنه تعالى استرجع منا الأخس والأقل قسمة وشأناً المتمثل في ركام الدنيا وحطامها الزائل الخارج عنا، ولم يسترد منا ما ننعم به من خيرات نفسانية وهو ما يوجب الفرح لا الحزن. وقد قيل لسقراط: ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه.
ويشير الكندي في مقام آخر من رسالته أن الإنسان كائن فريد من نوعه، يودّ اقتناء أشياء كثيرة زائدة وغير لازمة لإصلاح عيشه وإقامة حاله، فتكون هذه المقتنيات في حالة عدم توافرها أو فقدها مصدراً لحزنه وسبباً لألمه لفواتها. (فإن مع كل مفقود من المرادات مصيبة، ومع كل فائت حسرة وأسف، ومع ترقب كل معدوم حزن وقلق).
وفي هذا المقام يشبه الكندي الحياة في الدنيا برحلة داخل سفينة اقتادها ملاح ماهر إلى بر الأمان، يشعر بالحزن فيها الناس الذين كرسوا وقتهم لقضاء الحاجات، وينجو فيها من نأى بنفسه عن الملذات، وانشغل ببلوغ العالم المعقول. لذا، ينبغي ألا نخدع بحب الدنيا وجمالاتها لأن البعد الغريزي المنفلت من كل رقابة وتقدير يلقي بالمرء في التهلكة والأنانية واتباع الهوى والرذائل والخساسة.
ولا يفوت الكندي، هنا، أن يذكر الإنسان أيضاً بأن الحماية من حدوث الأشياء المحزنة تتم عن طريق العيش وفق تمام طبيعته، وطلب الحسن من القبح، والإيمان بوجود الخير عند حصول الشر، وطرد الخوف والتسلح بالرجاء، والاعتقاد بإمكانية ظهور الحياة من تجربة الموت. فمثلاً نحن نعتقد أنه لا شيء أسوأ من الموت، لكن الموت ليس شراً، وإنما الشر هو الخوف من الموت، لأن الموت تمام لطبيعتنا، وبدون الموت لن يوجد إنسان أبداً، لأنه إن لم يمت لم يكن إنساناً، ولخرج عن طبيعته الإنسانية.
وصايا الكندي والأساليب الحديثة
تشكل رسالة الكندي إرهاصات قيمة لأساليب العلاج النفسي والسلوكي المعاصرة، فهو يوظف فيها، من خلال علاج الحزن الناجم عن الفشل في الحصول على المرغوبات، مجموعة من المبادئ لا تتباين عما هو متداول حديثاً في الدراسات النفسية والسلوكية. من أبرز هذه المبادئ:
- مبدأ التعلم الشرطي:
يتفق الكندي مع نظرة سيكنر في التعلم الشرطي الأدائي operant التي تعتبر أن الفعل السلوكي يكتسب في حالة ما تكررت نتائجه الإيجابية، ويخبو إن نتج عنه عقاب أو مكروه. ويستشف هذا المبدأ من خلال إشارة الكندي إلى أن الحزن والسعادة شيئان مكتسبان، إذ يقول: (إن المكروه والمحبوب الحسي ليس شيئاً في الطبع لازماً، بل بالعادات وكثرة الاستعمال).
- مبدأ التدرج في العلاج:
ينصح الكندي أن يتم إصلاح النفس وعلاجها من آلام الحزن على التدريج، بأن نلزم أنفسنا بالقيام بالعادة المحمودة في المسائل البسيطة والسهلة أولاً، ثم نرقى بها إلى المسائل المعقدة والصعبة. ويستمر هذا التدرج حتى نصل إلى الأمور التي هي غاية في الصعوبة والتعقيد. يقول الكندي في هذا المقام: (فينبغي أن نتحمل في إصلاح أنفسنا من بشاعة العلاج وصعوبته واحتمال المؤن فيه أضعاف ما نحتمل من ذلك في إصلاح أجسامنا، مع أن إصلاح أنفسنا أقلّ بشاعة وأخفّ مؤونة كثيراً مما يلحق في ذلك من إصلاح الأجسام، لأن إصلاح أنفسنا إنما هو بقوة العزم على المصلح لنا، لا بدواء مشروب، ولا بألم حديد ولا نار، ولا بإنفاق مال، بل بالتزام النفس العادة المحمودة في الأمر الأصغر الذي لزومه سهل علينا، ثم نرتفع من ذلك إلى لزوم ما هو أكبر منه. فإذا اعتادت ذلك نرقى بها إلى ما هو أكبر من ذلك في درجات متصلة حتى نلزمها العادة في لزوم الأمر العظيم كلزوم العادة لها في لزوم الأمر الأصغر، فإن العادة تسهل بما وصفنا، ويسهل بذلك الصبر على الفانيات والسلوة على المفقودات).
وقد استخدم هذا المبدأ بعض المعالجين النفسانيين السلوكيين المحدثين في التخلص من العادات السيئة، وفي علاج القلق. وبذلك يكون الكندي من السباقين في الأخذ بمبدأ التدرج واعتباره من المبادئ المهمة في التعلم. وقد استوحى هذا المبدأ، وغيره من العلماء المسلمين، من القرآن الكريم، ووظفه توظيفاً فعالاً في التخلص من بعض العادات السيئة التي كانت سائدة بين العرب، مثل شرب الخمر، والربا..إلخ.
- مبدأ الفهم النوعي والدقيق لأسباب المرض:
ينطلق الكندي في علاجه للحزن بتحديد أسبابه، وذلك من خلال قوله: (فينبغي أن نبين ما الحزن وأسبابه، لتكون أشفيته ظاهرة الوجود، سهلة الاستعمال)، ومن (أدويته السهلة: أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى أقسامه)، وفي هذا إشارة واضحة إلى وجه الاتفاق مع المبدأ الأول والرئيس للعلاج النفسي الحديث القائل: فهم دقيق ونوعي لأسباب السلوك المرضي.
- مبدأ التخيل وسيلة للتغلب على الحزن:
يقول الكندي في سياق حديثه عن بعض الوسائل الناجعة للتغلب على الحزن المتولد عن بعد تحقيقه والحصول عليه: (بل تكون إذا شاهدنا الأشياء التي يتمتع بها الناس من المحبوبات في العقل أعني قدر ما بالنفس إليه تثبيت صورتها أيام مدتها المقسومة لها وإثمار فعلها..).
ويستمتع بهذا التخيل أكثر من الاستمتاع بالشيء الأصلي، لأن الشيء الأصلي معدوم بطبعه، أما الصورة الذهنية فهي في العقل دائماً لا تنتزع. فهو يعتبر أن تخيل ما لا نناله ولا نحصل عليه من أهم الوسائل العلاجية لدفع الحزن والتخلص منه. وقد استعمل التخيل في أساليب كثيرة للعلاج النفسي والسلوكي منها مثلاً: التسكين المنظم أو التحصين التدريجي.
- مبدأ العلاج المعرفي السلوكي:
إن ما تناوله الكندي في رسالته من خلال وصاياه العشر لعلاج الحزن يماثل الأسلوب الذي استخدمه في العلاج النفسي ألبرت أليس، (وهو عالم نفسي إكلينيكي اهتم بالتوجيه والإرشاد المدرسي والزواج الأسري)، معتبراً أن كثيراً من التوترات والاضطرابات ناجمة عن معتقدات فكرية خاطئة، وبالتالي راح يعلم مرضاه طرقاً جديدة للتفكير وإدراك المواقف. ولعل هذه الطريقة تتفق إلى حد بعيد مع الأسلوب الذي نهجه الكندي.
خاتمة
نخلص إلى أن الحزن لدى الكندي مرتبط بالجانب النفساني، ويتبن أنه لا تخلو أي نفس منه، إلا أن هذا، في نظره، لا يعني أنه جوهري بل هو عارض.
وإن عدم خلو عالم الإنسان من الحزن لم يمنع الكندي من عرض أسبابه أملاً في التخلص منه، إذ لا مجال لأن يشفى ويعالج أحد من الناس من مرض ما من غير تحديد ماهيته وحقيقته وإبراز أسبابه ودوافعه وصولاً إلى الأرب المنشود وهو التخلص منه نهائياً أو نسبياً.
كان الكندي يركز في دفع الحزن على مبدأ توعية الناس بتحديد ماهية الحزن والنظر في أسبابه، ثم تمكينهم بالمعرفة السليمة والناجعة التي تعينهم على تجنبه والتخلص منه نهائياً، أو التقليص، على الأقل، من حجم حدته وتأثيره.
صفوة القول، إن الكندي، من أجل التغلب على الحزن، كان أكثر دقة في تحليله، وأشد فطنة في معرفة دواعيه وأسبابه، وأبلغ حكمة في انتقاء الأساليب الفعالة في التخلص منه، أو في تخفيف حدته. ولذلك فيمكن اعتبار الكندي بحق رائداً للعلاج النفساني السلوكي المعرفي الحديث.