حتى الآن أمضى شهرين متواصلين دون الخروج من منزله. لا يعلم كيف سيتعامل معهم بعد ذلك اليوم المشؤوم.
بلمح البصر لم يعد منهم، فكأنه لا يشبه هؤلاء البشر، حتى خُيِلَ له أن عطلاً ما قد لحق بآلة الزمن، فلم تعد تعمل على تحقيق حلم المستقبل أو نبش أوراق الماضي. هناك خلل ما لا يقوى على فهمه وتفسير أسبابه. يتملكه شعور الاغتراب وإن ولد هنا وعاش سنواته يلعب في الأزقة ذاتها، ويترك أثره في حفر الشوارع ويدون ذكرياته على جدران الأبنية المهلهلة. تماماً كما فعل بقية أبناء جيله.
لوهلة تملكته رغبة في لوم نفسه بدلاً من لوم من هم في الخارج. أراد اعتبار نفسه مذنباً، كونه كان يغط في فراشه عندما حدث تحول قلب الحياة رأساً على عقب، فلم تعد هذه هي الدنيا التي يعرف، أو سبق له العيش فيها. ثلاث عشرة ساعة كانت كفيلة بأن يحدث كل هذا. فبينما هو غارق في أحلامه ويتقلب في سريره الدافئ بحثاً عن فرص سعيدة في أضغاث أحلامه المتكررة، يحدث كل ذلك ويتغير العالم من حوله إلا هو يظل على حاله.
ينظرُ في المرآة ويحدث نفسه بصوت عالٍ، ثم يوبخها بصوت خافت ويأمرها بألا تحدث أي جلبة من حولها، فمنذ ذلك اليوم لم يعد أحد هنا يتحدث، لم يفقدوا أصواتهم فقط ولكن أفواههم بأكملها طمست ولم تعد موجودة في رؤوسهم. لم يعد للبشر أفواه يتحدثون بها. أصوات الحروف والكلمات أعدمت ولم تعد موجودة.
بُهِتَ عندما فتح الباب صباحاً للذهاب لعمله، وشاهد جاره وأبناءه يقفون أمام باب شقتهم بلا أفواه، ويتواصلون بهز الرأس وإغماض العينين، ويفهم كل منهما مراد الآخر. أغلق الباب سريعاً، ثم أطال النظر إليهم في العين السحرية للتأكد مما رآه. كان المنظر بشعاً، فالأفواه تبدو كما لو صب عليها مادة مذيبة فتم تشويهها بالكامل فلم يعد لها أثر. رجح بأن ضرراً ما قد لحق بتلك الأسرة التي تقطن أمامه، إلا أن القلق تملكه بعد أن تتبع صوت حارس العمارة المزعج الذي اعتاد يومياً على الاستماع إليه يتشاجر مع عامل النظافة، فلم يسمعه. استرق النظر من النافذة فوجد الحارس يقف مع العامل أمام مبنى العمارة كما هي عادتهما، ولكن لا صوت لهما. لم يجد تفسيراً لما يحدث. ففتح التلفاز لعل هناك أمراً جللاً وقع وهو يغط في سباته، فوجد جميع القنوات مغلقة باستثناء القناة الرسمية، ولكن لا صوت لها. فقام برفع الصوت ولكن أيضاً لا شيء يُسمع، كل ما كان يملأ الشاشة لقطات لمبان فاخرة ومشروعات عملاقة. لحظات حتى جاء وقت نشرة الأخبار الصباحية وخرج المذيع بفم مشوه يشبه فم جاره وأبنائه، ويقوم مثلهم بهز رأسه وإغماض عينيه بثقة، وشريط أحمر يمر في أسفل الشاشة لأهم العناوين العاجلة.
خارت قواه وبالكاد تمالك نفسه وتمدد على الأريكة، وراح يسأل: (أين ذهبت أفواه الناس؟ من طمسها وجعلها مشوهة؟ لماذا لم يعد هناك من يتحدث؟ من منع الكلمات من أن تحلق في السماء؟). لم يجد أي إجابة على هذا كله.
نفاذ المؤونة وحده أجبره على الخروج من شقته ليلاً وهو متلثم قاصداً أقرب مركز للتسوق. على عجل، أخذ ما يلزمه وقبل أن يصل إلى المحاسب استوقفه رجل وأطال النظر بعينيه ثم هز له رأسه، فقام صاحب الفم الوحيد بالمدينة بالإيماء له برأسه مع مداراة اللثام على وجهه بيد مرتجفة وقرر المغادرة. على الفور تعارك معه الرجل وقام بكشف حقيقته، فتجمع كل من في المكان للنظر لهذه الأعجوبة المسجاة على الأرض، إذ كيف يكون للإنسان فم يتحدث فيه بما يريد؟ من أعطاه حق الاختلاف عنهم! صرخ فيهم (إلى ماذا تنظرون؟ ما بكم! ماذا جرى لكم أيها الناس؟ من طمس أفواهكم وحرم الكلام؟ كيف قبلتم بذلك؟ لا تنظروا إلي هكذا!). لم يستطع إكمال حديثه حتى انهالوا عليه بالضرب والركل، وعلى الفور اقتادوه ملطخاً بدمائه إلى مركز الشرطة، وتجاوزوا كافة العساكر والسجانين وحشروه بأيديهم في الزنزانة وكتبوا على صدره (أعدموا هذا الخائن)!