مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

ظلمات

حتَّام تختفين داخل نفسك؟ ترسمين في ذهنكِ عالماً تشتهينه، تهربين من ظلك حين يقف بك على ناصية الحقيقة، وحين تُبدي لكِ الأيام أسرارها، وحين تدفع أمامكِ شُعل الأحاديث المنتصرة قولاً وفعلاً، يخفق قلبك غيضاً وتصرخين هذا كذب.. هذا كذب..
ضرب لكِ موعداً وحضر، كنتِ تنتظرين بهجة ظنونك، وتوقدين في قلبك شعلة غضب تترقب، وحين لاح لكِ وجهه الحميم، وحين دفع نظرك نحو أيام طفولتك معه وشغبكما معاً ولهو طفولتكما المشتركة، أشحت عنه بوجه نافر، كان وجه شقيقكِ يهزم فيك انتصارات ظنونك الشقيّة، وتُطفئ نظراته نيران شكوككِ، لكنك آثرتِ استجلاب شقائكِ، كان يتحدث معك بأدب جم لم تنتظريه، كنتِ تنتظرين ثورته وهياجه بعد أن طعنتِ يوماً نقاءه، وأسمعتِ به من به صمم، قال لك الحقيقة، ورفع أمام عينيكِ الأوراق التي تثبت نقاءه من شوائب ألصقتها بلحظاته.. بحياته.. بدمه، يناديكِ باسمك في بداية كل جملة، وتفرين من اسمه مكتفية بضمير المُخاطب، وحين تتحفزين لقذفه بتهمة جديدة، يضع يده فوق يدكِ محاولاً إسكات نفوركِ منه، أعادك إلى مراتع الطفولة حين لهوتما معاً بين أبوين رحيمين استلهما الموت منكما، فدارت رحى حربكِ على ميراثهما.
 انتصرتِ لنمطية الصورة، فأنتِ أنثى، وهو ذكر، والذكر يبغي (عادة) على الأنثى، وعيون من حولك ترمش بعاطفتكِ، فيزداد وهج ظنونك، وتتعاظم شكوككِ، يسفح أمامك عواطفه النقيّة، يُقسم لكِ..، تقذفين كل نقائه خلف ظهركِ، وتصنعين من ملامحه الساكنة ملامح شائنة يغذيها هواكِ، وحين تُملين على من حولك ظنونكِ بعدسة نفسكِ، يهزون رؤوسهم محوقلين، شاتمين الطمع والظلم، فتتهيج نفسك، ويطفرُ قلبك من مكانه متوجعة من ظلم الشقيق!
نزف..
 في المعرض وقفت طويلاً أمام إحدى اللوحات، تأمّلت الألوان، وتابعت نظراتها لوناً استغرق نفسها، سارت مشاعرها في مسارب اللوحة، رأت طفولتها الدامية في زاوية اللوحة اليمنى، (لابد أن الرسام دسّها هنا كي لا يراها أحد غيري) هكذا فسّرت لها مشاعرها، رأت جبلاً يتوسط بركة ماء، (لابد أن هذا أبي غارق في دموعه) هكذا وشوشت لها نفسها، أغمضت عينيها جيداً ثم فتحتهما وشرعت تقرأ اللوحة التي رسمها الرسام العبقري (غاص هذا الرسام في جوف نفسي وخرج بهذه العبقرية) هكذا حدّثت نفسها، رغم أن الرسام لا يعرفها، تأمّلت خطوطاً حمراء تعلو اللوحة وتختلط بندف السحب البيضاء، (هذه جروح قلب الطفل الدامية لم تذبل رغم مرور عشرات السنين فهي مازالت كاوية) تلفّتت باحثة عن الرسام الذي يكون عادة يوم افتتاح معرضه مرحباً بالزائرين (سأذهب أشكره وأشتري هذه اللوحة مهما كان ثمنها) قبل أن تهمّ بالذهاب لمحت في أقصى يسار اللوحة وجهاً شاحباً متأملاً، فتحت عينيها جيداً، قرّبت وجهها أكثر، تذكرت فجأة رائحته النتنة، خلعت حذاءها وبدأت تضرب اللوحة بعنف وحقد.

ذو صلة