تنساب سنوات عمري من بين يدي، هنا حيث أكثر الأماكن ظلمة للنفس والروح.
أقضي غربتي في محبسي، في تلك الزنزانة السوداء التي تنبعث منها روائح كريهة لم أعتدها.
حتى نافذتها الحديدية ذات الأربعة قضبان والمغطاة بشبك حديدي صدئ، تنبعث رائحته كلما اقتربت منها لأستنشق الهواء.
بدون مزيد من الجهد ينجذب الإنسان لمصيره المجهول، كما تنجذب الفراشات إلى الضوء.
فنحن لا نعرف ما هي الأقدار المقدرة لنا، ولكننا نسير باتجاهها مهما حاولنا جاهدين اختيار طريقنا، في النهاية لا نختار إلا الطريق المؤدي إلى قدرنا.
هنا أقضي عقوبة سجن لمدة ثلاثة عشر عاماً، تهمتي فيها أني ضمنت رجلاً وثقت به ووقفت بجواره. فبعد أن اختلس من محل عمله، تم اكتشاف الواقعة التي على إثرها سقطت زوجته في براثن المرض، فأصيبت بشلل تام. ولما كان لزاماً عليه أن يعيدها إلى وطنه، وكان لابد من ضامن لكي يضمن صاحب العمل عودته، فكان ذلك هو ظهوري الأول فى المشهد الذي أصبحت بطله فيما بعد.
ورغم أنني ضمنت أكثر من رجل في مرات سابقة وفي مواقف أصعب من ذلك إلا أن أحداً لم يخذلني. حتى صلة القرابة التي بيننا لم تشفع لي.
ها أنا أبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً وسأخرج من هنا إن كتبت ليَ الحياة فى عُمر الثانية والأربعين، وذلك يعني أني سأقضي شبابي هنا، وما جئت من أجله ذهب أدراج الرياح العاتية التي لم ترحم غربتي وحتى صاحب العمل لم يرحم توسلاتي. وحتى من ضمنته نسيَ أني ضمنته بحريتي.
وقد مرت سنوات تغيرت فيها عن ذي قبل، أهمها أني اعتدت على تلك الروائح التي تنبعث منها، وبعد أن كنت سجيناً جديداً، أصبح هناك أناس يأتون من بعدي. وهناك من خرجوا وتركوا لي الزنزانة، وسنوات تلو الأخرى أصبحت الأقدم فيما بينهم.
وحقاً كنت أفتقد تلك الوجوه الراحلة عني فقد تعلقت بهم ولكن لا شيء على حاله يبقى.
وليس هناك أسوأ من أن تتخذ صداقات في محبسك، حيث الألم واحد لا يختلف. وقد مر بي الكثير، حتى الذين حكم عليهم بالإعدام، كنت أجلس معهم أواسيهم وأخلع عنهم متع الحياة. ألقي فيهم جرعات من الصبر. وأعطيها لنفسي أيضاً.
ارتضيت بحالي رغم تمسكي بالأمل الذى تلاشى تماماً عندما علمت أن ذلك الرجل الذي ضمنته قد ماتت زوجته، وتزوج من أخرى.
فلم يكن يربطني بالعالم الآخر سوى تلك الرسائل التي كانت تصل لي من إخوتي، ورغم أنها قليلة إلا أنها كانت تشعرني بالحياة ولو قليلاً، ولكم كنت أقرأ الرسالة الواحدة مئات المرات.
حتى أني كنت أحفظها عن ظهر قلب.
واستمرت السنوات ورغم لحظات اليأس والقنوط التي كنت أتمنى فيها الموت الذي لم يأت بعد وإحساسي بأني مرغم على الحياة. كنت أعيش وأنظر إلى صورة الرجل الأشيب الذي عشت معه ثلاث سنوات قبل أن يموت وهو جالس يضحك.
كان لأول مرة يضحك منذ أن رأيته، فقد كان الفقر عدوه الأوحد، عدوه اللدود. بسبب فقره استدان، وكتب على نفسه ما لا يستطيع الوفاء به. فكان جزاؤه السجن.
كان يقول لي يا بني لا تيأس ستخرج وسينقضي الألم، ولكن تعلم هنا قدر المستطاع ما لم تتعلمه في حياتك، ولا تجعل تلك المحنة تغير شخصك فابقَ كما أنت.
وكنت لا أطيق صبراً على أن ينصحني أحد، فليس من في مثل حالي هذا أن يقبل النصح بالصبر. فكيف ينصحني ذلك الرجل بتجرع مرارة السجن.
وقبل أن يموت بدقائق، نظر لي وقال، تبقى الجدران وتتغير الوجوه، ثم ضحك وكان يسعل من كثرة الضحك. ثم نظر إلى النافذة ومات، رحل وترك الجدران.
وصلتني رسالة من شقيقي الأكبر، ينبئني بوفاة قريبي هذا من شهر تقريباً، ذلك الرجل الذي قيد حريتي بين أربعة جدران مات الآن.
تركت الدنيا خلف ظهري ونسيت أن هناك شيئاً فى الخارج، واعتدت على محبسي حتى تعلقت بالجدران، فكتبت عليها الكلمة المأثورة لشيخي العجوز.
كنت أفكر عندما أنهي مدة سجني فماذا أفعل؟ وكيف أتعامل مع الناس؟
وهل فقدت الثقة فيهم حقاً كما يتراءى لي؟ أم أني من المفترض أن أكمل حياتي كما لو أن شيئاً لم يكن؟ لقد اعتدت السجن ونسيت ما كنت أشعر به فى بداية محبسي، نسيت الحرية ونسيت ما يجب علي أن أقوم به تجاه نفسي.
وهاهي انقضت سنوات محبسي، وأستعد لمغادرة دولة غربتي، أقصد زنزانة غربتي.
وعدت إلى وطني أحلم بالخير. وأن الله سيعوضني ما لبثت فيه من عذاب.
ووضعت أمام عيني النبي يوسف، لعل الخير يصيبني كما أصابه.
كان لوالدي شقة كبيرة، وقد تزوج كل إخوتي ولم يتبق غيري. وبعد وفاته اختلف أشقائي معي كي يبيعوا الشقة ويأخذ كل منهم نصيبه. لم أجادل كثيراً، فقد هانت علي الدنيا.
وهل هناك أغلى من سنوات عمري التي ضاعت مني.
كنا ثمانية أشقاء توزع الإرث بيننا، وأخذت نصيبي من إخوتي، وأخذت نصيبي من الدنيا.
واشتريت شقة صغيرة، وسيارة أجرة. وتزوجت. ودارت الحياة بي في مدارها، ولم أفقد الثقة في أحد كما كان يخيل لي بل ازددت إصراراً على أن أبقى على طبيعة خالقي.
ولم أنس يوماً ما عانيت، وما نسيت يوماً الأشيب الحزين ولم أنس كلمته الأخيرة قبل موته. فكتبت على زجاج سيارتي. تبقى الجدران وتتغير الوجوه.