تشينوا أتشيبي الروائي النيجيري الألمع، صاحب روايتي: الأشياء تتداعى، وسهم الرب. قال عنه الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلاً: (هناك كاتب يدعى تشينوا أتشيبي، قراءة كتبه تجعل جدران السجن تزول)، هذه شهادة كبيرة حظي بها الكاتب تشينوا أتشيبي، تدل دلالة واضحة على عمق التأثير الذي أحدثته رواياته خاصة وكتاباته عامة في الوعي الأفريقي، زمان ما بعد الاستقلال والتحرر من الكولونيالية الغربية، وهو توجه عبر عنه الأديب وول سونيكا ابن موطنه، والحائز على جائزة نوبل في الأدب بقوله: (إن أعمال أتشيبي تتكلم من داخل الشخصية الأفريقية، بدلاً من أن تصور الأفريقي على أنه شيء غريب وعجيب كما يراه الأجنبي).
وقد ولد أتشيبي في أوجيدي جنوب شرق نيجيريا عام 1930م، ودرس الأدب الإنجليزي والتاريخ والنيولوجي في الجامعة، بعد أن ترك دراسة الطب، وفي الجامعة تبلورت رؤيته النقدية للأدب الأوروبي عن أفريقيا، بعد أن أدرك نفوره من البطل الأفريقي في رواية (مستر جونسون) للأديب الأيرلندي جويس كاري، بسبب جهل المؤلف بالثقافة الأفريقية، فقد أسهم أتشيبي في بروز الأدب الأفريقي وانتشاره عالمياً، حيث تولى تحرير سلسلة الكتاب الأفريقيين هانيمان، وهي السلسلة التي نشرت الأدب الأفريقي، لأدباء داخل القارة وخارجها، كما له مقالات نقدية ساعدت العالم على الإصغاء لصوت أفريقيا الفني شديد الخصوصية، كما كان لتشينوا أتشيبي إسهامات مهمة في نقد الأدب الأوروبي، الذي تناول الواقع الأفريقي، ففي محاضرته التي ألقاها في أمهرست عام 1975م بعنوان صورة أفريقيا العنصرية في رواية كونراد (قلب الظلام)؛ هاجم أتشيبي بقوة انتزاع الرواية للصفات الإنسانية في الأفارقة، وتجسيد أفريقيا على أنها مجرد ساحة حرب مجردة من كل ما هو إنساني، علاوة على هذا فإن الرواية كما رأى أتشيبي (تعكس صورة أفريقيا باعتبارها العالم الآخر المضاد لأوروبا، وبالتالي للحضارة)، وقد استشهد بصفحة كاملة من رواية كونراد دليلاً على ما قاله، وقد أنهى أتشيبي محاضرته مشيراً إلى رغبته في أن يرى الغرب أفريقيا، على أنها قارة من الناس، على أن اليوم الذي يرى فيه معالجة لهذه الصورة لا زال بعيداً، هذه المحاضرة التي تسببت في هجوم حاد على أتشيبي الذي جرؤ على مناقشة وانتقاد أهم الروائيين في الغرب، لكنها في المقابل أصبحت واحدة من أهم الدراسات النقدية لهذه الرواية، واستطاع أتشيبي برؤيته النقدية لها أن يغير وجهة نظر العالم قليلاً عن أفريقيا، ليس فقط في أوروبا، ولكن في أمريكا أيضاً، حيث وجد خلال جولاته وتدريسه في الولايات المتحدة أن وجهة النظر السائدة عن أفريقيا خاطئة، حيث يراها الكثيرون خالية من الفن والثقافة والأدب، بل من الإنسان.
إنتاجه الأدبي
لقد أبدع تشينوا أتشيبي في مجالات أدبية وفكرية متنوعة، بين الرواية والقصة والشعر والمقالات النقدية، إلا أن موهبته الحقيقية قد بدت واضحة في أعماله الأدبية، التي قام من خلالها باكتشاف التراث الأفريقي القديم، وإلقاء الضوء على ما تزخر به الثقافة الأفريقية من قيم إنسانية، وما يتميز به التراث الأفريقي من جمال وثراء وتنوع، ففي الرواية كتب: الأشياء تتداعى عام 1958، ومضى عهد الراحة 1960، وسهم الله عام 1964، وابن الشعب عام 1966، وكثبان السافانا عام 1987. وفي القصة القصيرة كتب: الزواج مسألة شخصية عام 1952، ومسيرة الرجال الموتى 1953، والسلم الأهلي 1971، والبنات في الحرب وقصص أخرى 1973. وفي الشعر: انتبه يا أخا الروح وقصائد أخرى 1971، وأفريقيا أخرى 1998، وقصائد مختاره 2005. وفى النقد والدراسة كتب: مشكلة أفريقيا 1984، وآمال وعوائق 1998، والوطن والمنفى عام 2000م، ثم بيافرا، والذي يعد آخر أعماله، وقد أنجزه قبل عام من وفاته في عام 2013، إضافة إلى عدد من الكتب الموجهة للأطفال.
سمات أدبه
لقد حمل إبداع تشينو أتشيبي الأدبي الروح الأفريقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، هذه الروح التي امتزجت بنفسه، وتغلغلت في كيانه، فجعلته يطلق على نفسه اسم عابد الأسلاف، ثم صرح بعد ذلك بقوله يرضيني غاية الرضا أن تقتصر رواياتي لاسيما التي عن الماضي على تعليم قرائها أن ماضيهم بكل ما فيه من جوانب نقص لم يكن ليلة من الوحشية، فقد استلهم تشينوا التراث الأفريقي بما حمل من حكي وأدب شفوي، وما اتسم به من جمال وفن، فقد أظهر كل هذه العناصر وسبكها في لغة أدبية غنية وثرية بالمفردات المميزة التي جعلت لأدبه طابعاً خاصاً وفريداً ميزه بين أقرانه من الكتاب الأفريقيين، وجعله أكثر كتاب القارة الأفريقية انتشاراً ومقروئية، وقد ظهر ذلك جلياً في رواياته وقصصه وأشعاره التي عبرت عن الهوية الأفريقية، فكان بذلك واحداً ممن مهدوا بعمق لنشوء ما يسمى في النظرية الأدبية (نقد ما بعد الاستعمار أو خطاب ما بعد الكولونيالية)، كما كان أيضاً من أبرز سمات أدبه أنه أدب مكتوب باللغة الإنجليزية لغة المستعمر، التي أتقنها خلال المرحلة الثانوية والجامعية، حيث وظف أتشيبي وأقرانه هذه اللغة من أجل التواصل وإضفاء طابع عالمي على مشاعرهم وأشواقهم وإحباطاتهم الأفريقية.
أهم أعماله الأدبية
لقد ترك أتشيبي العديد من الأعمال الأدبية، التي مثلت بصمة واضحة في مسيرة الرواية الأفريقية ووصولها إلى طور العالمية، ونستعرض هنا بعضاً من هذه الأعمال:
- (الأشياء تتداعى):
تعد هذه الرواية درة الأدب الأفريقي، والتي بيع منها أكثر من عشرة ملايين نسخة باللغة الإنجليزية التي كتبت بها، واللغات الخمسين التي ترجمت إليها، ويدل هذا الانتشار الواسع لكتاباته، على مدى ملامسة عمله الإبداعي وكتاباته النقدية وتعليقاته السياسية والثقافية أعماق القراء الذين ينتمون إلى لغات وثقافات مختلفة. كما ينظر مؤرخو الأدب الأفريقي إلى هذه الرواية بوصفها من أهم الروايات الأفريقية التي كتبت خلال القرن العشرين، ويؤكد بعضهم أنها وضعت الأدب الأفريقي في قلب الإبداع الروائي العالمي، بسبب قدرتها على تطويع الشكل السردي الأوروبي للتقاليد السردية الشفهية التي طورتها القبائل والشعوب الأفريقية، إذ استخدم أتشيبي مخزون الحكايات في قبائل الإغبو النيجيرية ليكتب نصاً سردياً فريداً يحتشد بالحكايات والأمثال والأشعار، التي تحضر بلغتها الأصلية في سياق السرد المكتوب بلغة إنجليزية ساحرة تراوحت بين سرد الحكايات والحوارات الذكية اللامعة التي تدور بين الشخصيات، وبين استخدام الأمثال والتعاويذ السحرية التي تطرد الأرواح الشريرة، أو تستدعي أرواح الأجداد لتحفظ أبناء القبيلة وتحميهم من أرواح القبائل الأخرى، وكذلك من خروجهم على التقاليد المرعية في القبيلة، فقد استطاع الكاتب من خلال استخدام هذا التوليف الناجح تدوين الشكل الروائي والإرث السردي الشفهي للقبائل النيجيرية، وأن يجسد على صعيد المتخيل العلامات الأولى للصدام بين الاستعمار الكولونيالي الغربي والشعوب الأفريقية في نهاية القرن التاسع عشر، حيث تقدم الرواية حكاية (أوكونكوو) فارس قرية (أومووفيا) المعتز بتاريخ قبيلة تقدس العادات والتقاليد، ليكرس حياته حتى يصبح الابن النموذجي للقبيلة، وينجح في تحقيق ذلك، إلا أنه يرتكب جرماً فيقضى عليه بالسجن سبع سنوات حسب قانون القبيلة، ليعود بعد ذلك إلى قبيلته، ليرى كل شيء قد تغير من حوله، فقد جاء المستعمر إلى المكان فأزال كل ما له علاقة بروح أسلافه، واحتقر كل ما نشأ عليه الأفريقي من موروثات ووضعه في خانة البدائية والهمجية، ومن هنا يتفرع سؤال لا يزال يشغل بال معظم أدباء أفريقيا حتى الآن، سؤال الهوية الأفريقية في مواجهة المستعمر، وسعي حركات التحرر الوطني لاستعادة روح الأسلاف التي خيم عليها المستعمر بثقافته، وعندما يعجز أوكونكوو عن التكيف مع الواقع الاستعماري الجديد، ينتهى به الأمر إلى الانتحار بشنق نفسه، الأمر الذي جعل الرواية تمثل نوعاً من السرد الموجع للتراث الشعبي الأفريقي وقصص البطولات التي كان يسمعها أتشيبي في طفولته، وها هو يوظفها في شكل روائي اشتمل على كل ألوان الحياة الاجتماعية والعادات والمعتقدات، التي أخذت شكل القوانين المتوارثة الراسخة، إلى أن جاء المستعمر فقضى عليها بدافع الجشع والاستغلال، فتتمزق الثقافات الشعبية أمام ثقافة المستعمر، الذي لم يأبه قط لتلك الجمالية والبراءة والعفوية الكامنة في ثناياها، فقد دون أتشيبي تلك الأبعاد الجمالية لثقافة تبلورت عبر القرون في أحضان الطبيعة، ثقافية نقية صافية لا تعرف معنى الانتهازية التي حفزت المستعمر للانقضاض عليها، يقول أتشيبي عن أسباب كتابة هذه الرواية: (إن ذلك الافتتان بنتف المعلومات التي استطعت أن أجمعها عن أسلافي، تطور إلى رغبة في نهاية هذه الرواية، فالتربية الاستعمارية كانت تقول إن مجتمعي ليس فيه ما يستحق الذكر، ورحت أشك في ذلك لأكتشف أن ثمة أشياء جميلة حتى لدى من دعاه المستعمرون بالوثني والهمجي).
- مضى عهد الراحة:
تمثل رواية مضى عهد الراحة الجزء الثاني من هذه الملحمة الأفريقية، حث سعى أتشيبي في هذا العمل إلى تصوير تداعيات الاستعمار البريطاني على المجتمع النيجيري، وما أحدثه هذا الاستعمار من تحولات في تقاليد المجتمع وبنيته الأخلاقية وتصوراته الذهنية. وهي لكونها جزءاً ثانياً ومكملاً لرواية الأشياء تتداعى، تركز على حياة حفيد أوكونكو الذي ذهب إلى بريطانيا ليكمل دراسته، وعاد ليعمل في إدارة البعثات النيجيرية في العاصمة لاغوس في الفترة التي سبقت رحيل المستعمر، حيث صور أتشيبي في هذا العمل صراع هذا الحفيد الذي تفوق في دراسته وذهب لتحصيل العلم، وبين عاداته وتقاليده المتوارثة، والتي عندما عاد خالف تعاليم الأسلاف وتكيف سريعاً مع الحياة الجديدة، التي عمل المستعمر على زرعها من أجل محو الهوية وطمس كل ما له صلة بماضيه وتراثه، وبعد ضغوطات مادية وافق أن يحصل على رشوه فانتهى به الأمر في السجن، وفي هذا العمل أيضاً يحلق أتشيبي في فضاء الهوية الأفريقية والعادات والتقاليد، وعقائد الأسلاف، وكيف سعى المستعمر إلى إزالتها وطمسها.
- ابن الشعب:
إذا كان أتشيبي صور في روايته الأولى (الأشياء تتداعى) حقبة الانتقال من زمان القبيلة إلى زمان الاستعمار، كما صور في روايته الثانية (مضى عهد الراحة) اللحظات الأخيرة في زمن الاستعمار؛ فإنه سعى في العمل الثالث (ابن الشعب) إلى تجسيد الفساد بعد رحيل المستعمر، من خلال الصراع المتوتر بين شخصيتين أفريقيتين، لم يحدد أتشيبي جنسيتهما، وهي شخصية المعلم المثقف أوريلي، وأستاذه القديم الوزير ناتغا، الذي يطلق عليه الناس ابن الشعب، وهو نوع من التصوير الدرامي للعلاقة المتوترة التي نشأت بين الشباب الجديد الذي تلقى تعليماً أوروبياً ينادي بتحديث الأوطان الأفريقية وتطهيرها من الفساد والاستبداد، والجيل الذي نشأ في أحضان الاستعمار وأفسد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلدان الأفريقية، فنجد أتشيبي البارع في بناء الأحداث والشخصيات وسرد الحكايات وتصميم الحوارات بين الشخصيات؛ يجعل من هذه الرواية معرضاً للوقائع الحارة المعبرة عن البيئة السياسية والاجتماعية التي تتحرك فيها الشخصيات في زمن ما بعد الاستعمار، ولهذا نجد أنفسنا خلال هذا العمل إزاء شخصيات وأحداث حية نابضة، وهو ما يتبين للقارئ من خلال الطاقات السردية المتفجرة والقدرات الحيوية اللافتة، وإمكانات التصوير الدرامي التي ينطوي عليها عمل أتشيبي، الذي يمثل دون شك علامة فارقة في تاريخ الأدب الأفريقي، وكذلك في تاريخ الأدب العالمي، حيث نجح أتشيبي في توصيلها للعالم عن أفريقيا الحقيقية، وقد أتت ثمارها في حصول بعض أدبائها على جائزة نوبل.