مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

النزعة الشعوبية في تراث الحمقى والمتحامقين

 الحُمْق، كما جاء في لسان العرب: (ضد العقل ونقيضه وقلته)، يقال: (استحمق الرجل، إذا فعل فعل الحمقى، استحمقته: وجدته أحمق)، والحماقة: طبع أو مرض، لا يتكلفه المرء. وفي المعجم الوسيط (حَمِق فلان حَمَقاً، فهو أحمق، وهي حمقاء: قل عقله، والجمع حُمْق. وتحامق: تظاهر بالحماقة. وبعض الباحثين ينظرون إلى الحمقى والمتحامقين من فضاء دلالي أوسع من دلالتهما اللغوية، وعندهم أن الظريف والمضحك والمسلي والمتجانن والمخنث والماجن والخليع يتكلف في كثير من الأحيان الحماقة، فهو متحامق أيضاً، وانطلاقاً من هذا الفهم الواسع فهم يرون أن التحامق شكل ظاهرة اجتماعية بارزة في المجتمعات العربية على مر العصور، لاسيما في مجتمع العصر الإٍسلامي والعباسي، وهو ما يعنينا في هذا المقال.
وليس كل من تظاهر بالحماقة يستطيع أن يؤدي هذه المهنة، فالتحامق مهنة لها أصولها وشروطها، وهو فن مثل سائر الفنون الأخرى، يتطلب شخصية جذابة، ويكون المتحامق خفيف الظل حاضر البديهة، يستميل إليه القلوب، وقادراً على اقتناص لحظة الإضحاك لإسعاد الناس، وتتطلب هذه المهنة أيضاً إجادة الغناء، وحفظ القصص والأخبار والأشعار، وإحاطة المتحامق بثقافة عصره. ويحدثنا القدماء عن براعة المتحامقين في أداء فنهم، فأشعب كان يجيد ضرب المزهر، وله فيه أصوات مشهورة، وكان عليان الموسوس: «تستنطقه العلماء لتسمع جوابه وكلامه».. وكان أشعب يجيد الرقص، ويأتي بالحركات الغريبة، وكان يقود مواكب المغنين والمغنيات كما ورد على لسان عبد الله بن أبي البشر بن عثمان بن المغيرة؛ إذ قال: «سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط، وأسرعت فإذا جماعة مقبلة، وإذا امرأة قد فرعتهم طولاً، وإذا أشعب بين أيديهم بكفه دف، وهو يغني به، ويرقص، ويحرف إسته، ويحركها، ويقول:
ألا حي التي خرجت
قبيل الصبح فاختمرت
يقال بعينها رمدٌ
ولا والله ما رمدت
فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم حتى يخالطهم، ويستقبل المرأة، فيغني في وجهها، وهي تبتسم، وتقول: حسبك الآن». وكانت لأعلام الفكاهة والمندرين في العصر الإسلامي مثل أشعب والغاضري وبديح؛ فصول في الطرائف والمقالب والإضحاك، شهدها بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والقادة ومجالس نسائهم، حفظتها لنا كتب القدماء الذين تحدثوا عنها طويلاً، كما كان للحمقى والمتحامقين أدب صوّر حياتهم، وعكس نظرتهم إلى واقعهم، سُمي أدب المتحامقين، وكانت بلاطات الطبقة الأرستقراطية العربية الحاكمة في العصرين الإسلامي والعباسي مسرحاً لأنشطة المتحامقين، كما كان لهم نشاط في أوساط الطبقات الاجتماعية الأخرى، وقد أدى تراكم أنشطتهم في أثناء هذين العصرين إلى إنجاز تراث خاص بهم، تجلى في قصصهم، ونوادرهم، وأخبارهم، وطرائفهم، وأشعارهم، تحدث عنه القدماء والمحدثون، وبحثوا فيه، وألفوا عنه كتباً كثيرة.
لماذا التحامق؟
تناولت كتب قديمة كثيرة الحمقى والمتحامقين، ضاع أكثرها، ولم يصلنا منها إلا اثنان، يُعدان مرجعاً لا بد منه لكل من يبحث في هذه الظاهرة، هما: (عقلاء المجانين) للنيسابوري، (المتوفى 406هـ)، و(أخبارالحمقى والمغفلين) لابن الجوزي (المتوفى 597هـ)، كما تناولتها كتب حديثة. ويُعَد النيسابوري أقدم مؤلف ربط هذه الظاهرة بأطرها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى انتشارها، وتنبه إلى دوافع الناس إلى التحامق وحددها، فرأى أنَّ من الناس من تحامق ليوري شأنه، ويستره على الناس، ومنهم من تحامق لينال غنى، ومنهم من تحامق ليزجي وقتاً، ويطيب عيشاً... ومنهم من تحامق لينجو من بلاء وآفة. وبنى الدارسون المحدثون عليها عناوين واضحة في أبحاثهم، فرأى بعضهم أن دوافع الناس إلى التحامق هي التكسب والعيش، ودافع النقد، وكشف الأخطاء، والتخلص من المآزق والأزمات، والتحرر من رقابة المجتمع، والاسترخاء والهروب من الواقع.
ورأى المتحامق أن زمانه زمان الجهل والتخلف والفساد، فلا مكان فيه للعقل الذي لا ينتج عنه إلا الشقاء والهم والحظ العاثر، فأخذ يدعو الناس إلى إقصاء العقل جانباً، وانتهاج سلوك التحامق والتجانن والتغافل في علاقاتهم الاجتماعية، إذا أرادوا أن يذوقوا رغد العيش، قال شاعر متحامق مغمور:
إذا كان الزمان زمان حُمْق
    فإن العقل حرمانٌ وشومُ
فكن حَمِقاً مع الحمقى فإني
    أرى الدنيا بدولتهم تدومُ
ولم يكن كسب المال، أو الفقر المدقع هو الذي دفع أغلب الناس إلى امتهان التحامق؛ وإنما ثمة دوافع أخرى أشار إليها النيسابوري مثل دافع إخفاء حقيقة المتحامق والتستر بها على الناس، أو دافع النجاة من بلاء وآفة، وهذه كلها دفعت أناساً من خصوم العرب وخصوم بني العباس إلى التحامق، للمجاهرة بكشف الأخطاء، أو التشهير بالخليفة، وأركان حكمه، أو الغض من شأن الحضارة العربية الإسلامية، أو النيل من سمعة العرب ومكانتهم، وقد وجد هؤلاء الخصوم في التحامق منقذاً لهم من العقوبة أو المساءلة. ويتحدث القدماء عن أخبار كثيرة في هذا الصدد، منها أن رجلاً صوفياً عاش في زمن المهدي، وكان عالماً ورعاً فتحامق، وكان يركب قصبة كل يومين: الإثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين، فليس لمعلم على صبيانه حكم، ولا طاعة، ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلاً، ويأمر بإحضار الخلفاء الراشدين والأمويين والخليفة المهدي، ثم يحاكمهم، ويأمر بقذف أغلبهم في النار. ومهما تعددت الدوافع إلى التحامق فإن الحمقى والمتحامقين في العصر العباسي شعراء وغير شعراء رسموا في أشعارهم وسلوكهم وأقوالهم صورة قاتمة لعصرهم، فنصوصهم تدعو إلى نبذ العقل والعلم، وتدعو إلى التحامق والجهل، وهي لا ترى في واقع مجتمعاتهم إلا الفقر والظلم والجوع والبؤس، والجهل، حتى طغى هذا الوجه القاتم على ما عداه، فالجهل في قصائدهم طغى على العلم، والحمق على العقل، والأمية على الثقافة. وإذا كان لأدب الحمقى والمتحامقين من ميزة فإنه صوّر واقع بؤس الطبقات الدنيا في المجتمع العباسي التي قل ما التفت إليها الأدب الرسمي الذي انصرف إلى قصور الخلفاء والوزراء والقادة والأمراء. لكن ما يؤخذ على أدبهم رداءته ومبالغته الشديدة في تصوير واقع البؤس الاجتماعي، وتعميمه على مجتمعهم وعصرهم، بحيث لم نجد للجانب المشرق في مجتمعهم أو عصرهم أي أثر في نصوصهم أو أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم، وهذا ما يثير أسئلة عدة عن سبب تضخيمهم الجانب المظلم في حياة المجتمع، وإخفائهم جانبه المشرق، وما فيه من علم وثقافة وحضارة وإبداع، وما إذا كانت رؤيتهم لواقعهم تعبر عن مواقف تنطلق من خلفية فكرية أو ثقافية أو سياسية معينة؟
نظرة المجتمع إلى الحمقى والمتحامقين
لم تحظَ فئات الحمقى والمتحامقين باحترام المجتمع الإسلامي، ولا المجتمع العباسي، رغم أنشطتهم المختلفة في أوساطهما وتأثيرها فيهما، فاللاعقل هو الذي يتحكم في سلوك الأحمق أو المتحامق، ويدفعه إلى التهور، وارتكاب الأخطاء، واقتراف الموبقات. وأشير هنا إلى أن أغلب الحمقى والمتحامقين، وما يلحق بهم من مندرين ومضحكين ومخنثين  ومغفلين ومتغافلين ومتجانّين؛ ليسوا عرباً، وإنما هم من الموالي والمشردين والعبيد واللقطاء الذين لا يُعرف لهم أب ولا أم، مثل زرنجون والدلال ونومة الضحى وابن نغاش وسعد القرقرة ومزبد وفند. وذكر القدماء أن أعلام المندرين والمضحكين في العصر الإسلامي كان سلوكهم سيئاً وأخلاقهم وضيعة. فأشعب ابن مولى، واتهم القدماء أمه بالزنا، والغاضري كان لقيطاً، وهؤلاء جميعاً نشؤوا على الفوضى، وانحرفوا عن تعاليم الدين الإسلامي. والعربي يأنف بطبعه الانتماء إلى هذه الفئات، ليس لأنها انحرفت عن الدين، أو نبذت العقل فحسب؛ بل لأنها تنتمي أيضاً إلى أسفل القاع الاجتماعي، وهو شديد الاعتداد بحسبه ونسبه والفخر بقبيلته. لكن قليلاً من العرب أغوته هذه الفئات بالانضمام إليها، فتحامقوا، كأبي العِبَر الهاشمي الذي أساء تحامقه إلى الهاشميين عامة، وإلى خلفاء بني العباس خاصة، وقد نهاه المأمون عن هذا التحامق، وعاقبه عليه حبساً ثم نفياً، قائلاً: (هذا عار على بني هاشم). ولما تبين للحمقى والمتحامقين في العصرالعباسي أنهم أفراد ينتمون إلى مهنة واحدة، وأنهم محتاجون إلى وحدة صفوفهم، كما وحد أصحاب المهن المختلفة صفوفهم؛ اجتمعوا في تنظيم واحد، عزز آصرة العلاقة فيما بينهم، ولمّ شتاتهم، ورسم طريقهم، ونظر في أمورهم، ثم نصبوا أميراً عليهم، يقود تنظيمهم، يقول الشاعر المتحامق أبو العجل حين آلت إليه إمارة تنظيم الحمقى:
وأصبحت في الحمقى أميراً مؤمراً
    وما أحد في الناس يمكنه عزلي
وصير لي حُمْقي بغالاً وغِلمة
    وكنت زمان العقل مُمْتطياً رجلي
مناهضة الحمقى والمتحامقين لقيم العرب وحضارتهم
وقفت هذه الفئات بوجه نشر العلم والمعرفة والثقافة، ودعت إلى إحلال الجهل وإشاعة التخلف، وروجت لقيم الفساد في أوساط الناس من خلال دعوتها إلى نبذ العقل، وامتهان التحامق، ورسمت في تراثها صورة مشوهة ومضللة لمجتمعاتها وعصرها، لم ترَ فيه إلا الجانب المظلم البائس، واخترقت هذه الفئات، ولا سيما المخنثون، القيم العربية الإسلامية التي تدعو إلى العلم والتعقل والحكمة والفضيلة، فانحرفت عنها، وأفسد المخنثون أخلاق الناس، فكانوا يجمعون بين النساء والرجال مما اضطر ولاة الأمور إلى معاقبتهم، ويذكر القدماء أن الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك أمر عامله على المدينة أبا بكر بن محمد الأنصاري بمعاقبة المخنثين في المدينة جلداً ونفياً وخصياً، وطالت هذه المعاقبة طوَيْس والدلال وطريف ونومة الضحى وزرجون وهنب وابن نغاش. ولم تنطلق نظرة فئات الحمقى والمتحامقين إلى مجتمعاتها وقيمها العربية والإسلامية من فراغ، وإنما كانت تغذيها مؤثرات خارجية وأخرى ذاتية نابعة من تكويناتها التي تنتمي إلى أصول غير عربية ترتكز على قاعدة فكرية أو ثقافية أو سياسية. ولا يخفى على أحد أنَّ العرب حين نشروا الإسلام، وأزالوا أمبراطورية الفرس من الوجود، وقوضوا مرتكزاتهم العقيدية؛ نهض غلاة الفرس من داخل الدين الجديد يسعون للانقضاض على سلطان العرب السياسي، وتشويه صورتهم، ويعملون على تفكيك مجتمعاتهم وتجهيلها، وتقويض قيمها الأخلاقية الرفيعة من الداخل؛ انتقاماً منهم وثأراً لهزائمهم، وتجلت معاداتهم للعرب في عدة مظاهر وأشكال، كان من بينها الحركة الشعوبية. فكان تنظيم الحمقى والمتحامقين إما شكلاً من أشكالها، أو أن الشعوبية استخدمته مطية لها ليعبر الحمقى والمتحامقون بأدبهم وسلوكهم وتصرفاتهم عن أفكارها ومواقفها المعادية للعرب.

ذو صلة