في الحياة الحقيقية، تجد أن كل شيء يتأثر ويؤثر في كل شيء، في العلوم الإنسانية مثلاً لا يمكن فهم الاقتصاد فهماً كاملاً من دون علم النفس، ولذلك تجد أن الفيلسوف (آدم سميث) أسس كتابه (ثروة الأمم) على كتابه الأسبق (نظرية المشاعر الأخلاقية)، وهذا يعني أنه بنى نظريته الاقتصادية على مشاعر وسلوكيات وعادات الإنسان، ومن ثم أمكن تأسيس عمل سياسي يستند على الاقتصاد الرأسمالي، ولاحقاً رصد التاريخ تلك الأحداث وانتهت عند علم الاجتماع ليدرسها ويقيمها، مما يؤدي إلى تطوير النظرية الاقتصادية بعدة أطوار لاحقة، هذه هي الحياة الإنسانية بطبيعتها الحقة، ولذلك يمكن اعتبار مسلسل (بيكي بلايندرز) أحد أكثر الأعمال الفنية صلة بالطبيعة المعقدة للحياة، لا يُقصد من ذلك أنه واقعي أو يستند على أحداث حقيقية، ولكنه يقدم ما يستحق بالفعل أن تراه كمشاهد في مسلسل تليفزيوني تمتد حلقته الواحدة لقرابة الساعة، يستحق كل دقيقة من وقت كل من قرر مشاهدته، لأنه ليس عملاً للتسلية -رغم تحقيقه ذلك باقتدار- ولكن لأنه سيجعلك ترى كل شيء حولك بنظرة جديدة كلياً.
قصة وأحداث المسلسل خيالية بالكامل، ولكنه يستند على وقائع وشخصيات حقيقية، تاريخياً كان هناك بالفعل عصابة تُدعى بيكي بلايندرز في بريطانيا أوائل القرن العشرين، ولكنها لا تمت بصلة إلى عصابة المسلسل سوى في الاسم وبعض الملامح الخارجية كالأزياء وبعض الأنشطة الإجرامية، ستجد ظهور لـ(ونستون تشرشل) وزعماء عصابات حقيقيين، وأحداث مفصلية كالحرب والكساد الكبير، ومن بين تلك الوقائع تُغزل أحداث المسلسل بتروٍ وذكاء جاعلة كل ذلك في صميم الدراما تؤثر وتتأثر بها وليست مجرد خلفية ديكورية جميلة لتزيين الصورة.
تبدأ أحداث المسلسل عام 1919 بعد عام واحد على نهاية الحرب العالمية الأولى، الإخوة (شيلبي) عادوا بعد الحرب وعليهم الآن مواجهة الحياة، هم عائلة من الغجر البريطانيين الذين يعيشون على الهامش ولا تلق الحكومة لهم بالاً، زعيم العائلة (توماس شيلبي) ترك المدرسة وتطوع بالجيش مع أخيه الأكبر (آرثر) وخاضوا الحرب في فرنسا، ليجدوا أنهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن يعملوا في المهن ذات العائد المتواضع دون أي أمل في مستقبل أفضل، أو أن يعملوا في مجالات مربحة تحقق لهم معيشة كريمة، ولأن تلك الأعمال في ذلك التوقيت كانت حكراً على العائلات/ العصابات ذات مناطق نفوذ واضحة، كان لابد أن تنخرط في قواعد اللعبة التي يختلط فيها الإجرام بالمال، البداية كانت كأي عصابة تقدم خدمة حماية الأعمال مقابل أجر، وبدأ الأمر في التوسع بالاستيلاء على أعمال العصابات الأخرى في مجال مثل رهانات الخيول، ومن ثم تطور الأمر سعياً وراء الحصول على رخصة قانونية للعمل، وبذلك يتحول نشاط العائلة بالتدريج من الربح الإجرامي إلى الربح القانوني، ولأن العائلة وحدها لا تستطيع هزيمة كل العائلات الأخرى كان من الطبيعي أن يكون هناك تحالفات بينهم لتوسيع رقعة الأعمال والدخول في مجالات أخرى، وكي يكون هذا التحالف متيناً لابد أن يكون بالدم، والزواج في هذه الحالة هو طريقة كلاسيكية مضمونة ومجربة على مدار التاريخ، وهكذا تزيد التحالفات لتكمن السيطرة على المدينة لغزو المدينة المجاورة، ولأن عملاً بهذه الضخامة لا يمكن أن يتحقق دون مساعدة الشرطة، والشرطة لا تعمل مقابل المال فقط، لذلك تجد أن التسويات السياسية قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المعادلة، الجريمة والأعمال والسياسة، ولذلك تجد أن أحد المآزق التي يقع فيها شيلبي في حروب العصابات يستطيع أن ينتصر فيها بسبب زاوية المال والأعمال كما حدث مع (لوكا تشانغريتا)، وقد تضطره مشكلة سياسية بحتة للعمل بأسلوب العصابات لحلها كما حدث مع (أوزوالد موزلي).
تلك المقدمات التي بنى عليها الموسم الأول أحداثه، دفعت البعض للاعتقاد أننا أمام مسلسل عصابات فقط مثل ثلاثية فرانسيس فورد كوبولا (The Godfather)، وهو ما جعلهم لا يستسيغون جرعة السياسة في الموسم الخامس، ولكن بيكي بلايندرز ليس عرّاباً جديداً، رغم الكثير من التشابهات التي لا تخطئها العين، فتوماس شيلبي هو شبيه مايكل كورليوني القوي الحكيم زعيم العائلة رغم أنه ليس الأخ الأكبر، وآرثر شيلبي هو مزيج من تهور وجنون سوني كورليوني وغباء وحماقة فريدو كورليوني، وآيدا شيلبي هي كوني كوريلوني نفس الشقيقة الصغرى التي تقع في حب أحد أعداء العائلة، ومن الممكن اعتبار أن العمة بولي شيلبي التي تتمتع بالهدوء وسداد الرأي هي المقابل لصديق ومحامي العائلة توم هيجن، تلك المقارنات عقدها جميع من شاهد العملين وانتظر من بيكي بلايندرز أن يسير على خطى العرّاب، ولكن الأخير بعدد ساعاته التسع في مجملها وموضوعه المحدد جداً كان مصمماً خصيصاً لذلك الغرض، ولكن بيكي بلايندرز بمواسمه السبعة وعدد ساعاته التي تقترب من الـ42 ساعة، صممت بحسب مبتكر العمل لتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فأحداثه تغطي كل المرحلة التي بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
للمسلسل ستة محاور رئيسة، وهي ما منحت العمل الثراء والدسامة الفنية والدرامية والفكرية في آن، ويمكن ذكر عدد منها على سبيل إيضاح عبقرية السيناريو الذي استطاع تقديم كل ذلك بتوازن ودقة شديدين ودون أن يفلت أي خيط درامي هنا أو هناك، وهي معايير مرتفعة وغير مسبوقة على هذا القدر من الزخم، المحور الأول الصراعات العائلية الداخلية حول التنافس على زعامة العائلة وعدالة اقتسام الحصص ومشكلات الزواج من الأشخاص غير المناسبين، وغيرها من الدراما العائلية التي يمكن أن تجدها في أي مسلسل درامي تقليدي، غير أن مستويات الخلاف وطرق الحل هنا تتطور بحسب معطيات الزمن. المحور الثاني هو أثر الحرب على نفسية الرجال الذين خاضوها، سنجد أكثر من حالة لرجال فقدوا عقولهم ولم يعودوا قادرين على الاستمرار في الحياة بطريقة طبيعية، وكذلك كيف أن الحرب قد بنت ثقة بين هؤلاء المحاربين بحيث أصبحوا يثقون ببعضهم البعض أكثر من ثقتهم في عائلاتهم شخصياً، فرفيق السلاح الذي كان يمكن أن يتلقى رصاصة بدلاً منك لا يمكن أن يخونك، إضافة إلى الاعتلال الاجتماعي وإدمان الكحول والمخدرات والرغبة المستعرة في ممارسة العنف، والنظر إلى كل من لم يحارب نظرة فوقية استعلائية.
المحور الثالث الثورة النسوية التي قامت بها النساء للمساواة مع الرجال في الحقوق والواجبات، وأصبح للمرأة حق التصويت السياسي، نجد أصداء ذلك درامياً في قوة ومركزية العمة بولي في الأحداث، ومن ثم تحررها من ذلك الدور الأمومي للعائلة لامرأة تبحث عن ذاتها ومتعتها في الحياة، ينطبق ذلك على زوجة آرثر التي أصبحت بالنسبة له كالبوصلة التي لا يتحرك إلا بتوجيهاتها، أو غريس التي سحرت توماس شيلبي وحولته من عقل بارد لا يرحم إلى عاشق أعمى لا يرى أبسط الحقائق وضوحاً، وغيرها الكثير من الشخصيات وصعودها درامياً إلى مركز القوة والتأثير. المحور الرابع حروب العصابات وهو أحد أكثر عناصر الجذب في المسلسل، نظراً لتنوع العصابات وهو ما ينتج عنه تنوع على كل المستويات –الأزياء، الديكور، العادات، اللكنات، طرق القتل- مع كل اكتشاف لعالم عصابة جديدة تكمن المتعة، فهناك الغجر والبريطانيون والصينيون والإيطاليون واليهود والروس، لكل منهم طبيعة مختلفة تماماً عن الأخرى.
المحور الخامس هو محور المعارك التجارية سواء كانت قانونية أو غير قانونية، فالأخيرة تشمل رهانات الخيول وتجارة الأسلحة والمخدرات والسطو على الملاهي الليلية وسرقة المجوهرات، وحتى في الشق القانوني هناك تحديات كالإضرابات العمالية والفساد الإداري وانهيار سوق الأسهم والثورة المسلحة للعمال الشيوعيين. وفي المحور السادس والأخير يبدأ فيها توماس شيلبي من بداية السلم والعمل لصالح الملك ورئيس الوزراء في الجاسوسية والتصفيات السياسية وعقد الصفقات السرية بالنيابة عنهم مع الصعود إلى العمل الرسمي كعضوية البرلمان ورئاسة حزب سياسي جديد في زمن الكساد الكبير وصعود الفاشية.
والسؤال هنا كيف تمكن السيناريو من دمج كل تلك المحاور المتباينة من مستويات الصراع وضم كل تلك الأعراق المختلفة وتقديمها في حقب زمنية متعاقبة بما يستلزم تغييرات دقيقة على كافة الأصعدة، كيف تمكن السيناريو وسط كل ذلك أن يخلق شخصية توماس شيلبي التي أصبحت واحدة من أكثر الشخصيات أيقونية حول العالم، تستطيع أن تتحقق من ذلك بالبحث على موقع مثل (يوتيوب) لتجد عشرات الفيديوهات بعناوين مثل (تعلم الكاريزما، النجاح، القوة، الغموض، حسن التصرف، من توماس شيلبي) ناهيك عن عشرات الفيديوهات الأخرى تضع مشاهد أيقونية من المسلسل للاحتفاء بها، وهو ما يمكن قياسه على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
توماس شيلبي الذي يؤمن بأنه قد مات فعلاً في الحرب، وأن كل وقت يحياه منذ ذلك التاريخ هو وقت إضافي منحته له الحياة، ولذلك نجده لا يضيع لحظة واحدة في الخوف أو الغضب أو الندم، لا يوجد سقف لطموحه ولا يعرف معنى الاستسلام، عقل جبار لا يتوقف عن العمل، قاتل بدم بارد، وعاشق مفطور الفؤاد، سياسي محنك من الطراز الرفيع، ومفاوض مالي لا يشق له غبار، جندي وطني حائز على وسامين للشجاعة، وجاسوس لا تأمن مكره، براجماتي ذو مبادئ لا يحيد عنها، خليط من التناقضات التي تنتج شخصية درامية مثالية ومكتملة البناء، توماس شيلبي يستحق دراسة مستقلة ومستفيضة للوقوف على كل ملامح بنائها الدرامي العبقري، خليط من دهاء فرانك أندروود، وسوداوية دكتور هاوس، وعبقرية شيرلوك هولمز، وبراجماتية تشيزري بورجيا، من نفس عائلة الأبطال هذه التي تدعي بالـ(Dark Hero)، صراعاته الداخلية لا تقل عنفاً وصعوبة عن تلك الصراعات التي يخوضها مع العالم.
وعلى نفس المستوى من براعة البناء الدرامي للبطل توماس شيلبي، فالسيناريو قدم مجموعة كبيرة من الأعداء الذين لا يمكن نسيانهم، وكل منهم ليس مجرد شرير أو عدو على توماس شيلبي أن يهزمه ليحقق انتصاراً جديداً، ولكن كل واحد منهم حكاية طويلة مع توماس تتضمن معارك كثيرة صغيرة وانتصارات وهزائم متبادلة، ومع كل عدو جديد نجد أن الأمر قد ازداد صعوبة بشكل ملحوظ وأصبح يشكل خطورة على دائرة أوسع وأكثر تدميراً من ذي قبل، فالخطورة تبدأ على أعمال توماس التجارية ثم على حياته وحياة من حوله وتصل في النهاية إلى قمة الخطر على سلامة بريطانيا نفسها، وهو ما يجعل توماس شيلبي في نهاية الموسم الخامس يقول يبدو أنني وجدت أخيراً رجلاً لن أتمكن من هزيمته، وهي المرة الأولى التي يقر فيها بشيء كهذا مهما بلغ خصمه من قوة ونفوذ.
وبراعة بناء الشخصيات تمتد أيضاً إلى حبيبات توماس شيلبي، فلكل شخصية منهن عالم كامل فريد من نوعه، حبيبته الأولى التي قتلها المرض مما جعله يهرب من تلك الفاجعة ويتطوع في الجيش أملاً في الموت هناك، والجاسوسة التي أحبها وتزوجها والتي أصبحت سبب عذابه الأكبر بعد مقتلها بين يديه، ومدربة الخيول الذكية التي له معها العديد من المصالح التجارية المثمرة، والمرأة الروسية الساحرة التي جعلتنا نشاهد توماس شيلبي للمرة الأولى والأخيرة وهو يبكي بين ذراعيها، ثم السكرتيرة التي أصبحت زوجته الثانية، جميعهن لا يتشابهن في شيء إلا الوقوع في حب نفس الشخص الفريد من نوعه.
السيناريو ليس وحده هو سبب فرادة وأيقونية المسلسل -رغم أن ذلك كاف جداً- فتصميم الديكور والأزياء والتصوير، جعلت من العمل كائناً حياً ينبض، تستطيع أن تشم رائحة الشوارع من دقة التفاصيل المرئية، كما أن التمثيل جعل من الشخصيات المكتوبة ببراعة أشخاصاً حقيقيين تنتظر مقابلتهم، ولذلك فإن مسلسل بيكي بلايندرز واحد من الأعمال القليلة التي تجعلك تعيش حياة كاملة وأنت تشاهده.