لا تنفك تنطلق كل ممارسة إبداعية من خلفيات نظرية، إما ضمناً أو تصريحاً، وبالمثل فإن كل نظرية تأخذ مما أفرزت ووجهت من إبداع، والمفارقة في المسرح أنه يتراوح بين الكتابة والعرض، مختلفاً تماماً عن غيره من أشكال الإبداع الأخرى (شعر ورواية وقصة..) فكان لزاماً على نقاد المسرح أن يجمعوا بين نظريات تستهدف تارة النص المسرحي من حيث هو كتابة درامية، وتارة من حيث هو أداء وتمثيل يتم أمام جمهور. واللافت للانتباه هيمنة النظرية الأرسطية في صيغتها الأولى على كثير من الإنتاجات سواء الإبداعية أو النقدية، فلم يستطع النقد عموماً -والمسرحي على وجه الخصوص- أن ينفلت من ظلال هذه النظرية، ورغم التنويعات والتعديلات اللاحقة فإن ثنائية المراوحة بين خارج النص وداخله، بين مادة الإبداع الخام والنص تظل هي المهيمنة.
حاولنا في هذا العرض طرح الأسئلة: من أين يستمد المسرح حقيقته؟ وما الذي يميز الحقيقة المسرحية عن نظيرتها الأدبية؟ وما أساس نظرية المحاكاة الأرسطية؟ وأخيراً كيف يتم نقل الحقيقة أو محاكاتها إلى المسرح؟ أسئلة تبحث في الدافع الذي يجعل عينة من الناس تذهب إلى المسرح، لا لتعيد مشاهدة ما هو قائم في المجتمع، ولكن ليشاهدوا أنفسهم واحتمالات وجودهم. وقد كان السبب وراء التركيز على نظرية أرسطو، ما لهذه النظرية من تأثير قديماً وحديثاً على النقد الأدبي، والمسرح واحد من الأجناس الأدبية، كان يتم بالشعر، والشعر أساس نظرية المحاكاة.
1 - أرسطو مرة أخرى
- نظرة في الشعرية:
حاول منظرو القرن السابع عشر أن يحللوا ويفهموا شعرية أرسطو، وتسهيل تطبيقها على المسرح، حيث لم يستطيعوا الفكاك منها، فما تزال مرخية ظلالها على النقد المسرحي.
يصر أرسطو على الفعل، فالتراجيديا لا تمثل أشخاصاً، بقدر ما تمثل أفعالاً، لأن (القصة في ذاتها ليست درامية، والشعور العاطفي في ذاته ليس درامياً، مهمة الفن الدرامي ليس إبراز العاطفة في ذاتها، بل إبراز عاطفة تؤدي إلى عمل)، ويجب أن يكون شخوصها في حركة.
من جهة أخرى (فإن التمثيل لا يستهدف الواقع، فهو لا يتأسس على الحقيقي وحده، ولكنه يتجاوزه إلى المحتمل، فالعمل المسرحي على كل حال، ليس نسخة من الطبيعة)، غير أن هذا المحتمل والممكن ليس ممتداً إلى ما لا نهاية، فهو محدود بواقع ينطلق منه ويحاكيه، إنه محدود بهذه المحاكاة.
هذه المراوحة بين الواقع والمتخيل، لم يوضحها أرسطو كما ينبغي، لذلك يمكن البحث عن أجوبة أخرى في كتابات أخرى لأرسطو. ولتوضيح المسألة، فإننا نقول إن المحاكاة تأتي من التجربة الجماعية للناس، فما يراه الناس على خشبات المسرح، وما يقرؤونه منه، شديد الشبه بما يلاقونه في حياتهم المعتادة، (وفي عبارة موجزة، نقول إننا من خلال ما قد يقع في الحياة، نستبصر جوهر الحياة). إنها جوهر ما ينتجه الناس في حياتهم.
في المحاكاة هناك تركيب نفسي، يربط ليس فقط الواقعي بالمحتمل، لكنه يجب أن يكون أيضاً معقولاً plausible، أي ما تعتقده جماعة بشرية في فترة معينة، لهذا كان للرأي المشترك، أو ما تعتقده جماعة من الناس، وزناً كبيراً في التفكير المسرحي خلال القرن السابع عشر.
يختلف الفن المسرحي عن الفن القصصي والملحمي في كونه لا يعتمد السرد أو الوصف بل يعتمد الحوار، ولعل هذا ما قصده أرسطو، منبهاً إلى أن محاكاة الطبيعة في المسرح (تتم عن طريق أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية). إن جوهر هذا النوع الأدبي هو الدراما (كلمة دراما في أصلها اليوناني مرادفة للمسرحية، وتعني (الحدث) أو (الفعل))، بل إن (كلمة دراما كانت تعني عند الإغريق الشيء الذي يصنع).
- بالمحاكاة الأرسطية بعد أفلاطون:
يبسط أفلاطون نظريته في المحاكاة على كل الموجودات، التي يعدها ظلالاً لنسخها الأصل الموجودة في عالم الحقيقة، عالم المثل. لذلك فالإنسان في سعي للتحلل من عالم المادة، فإن لم يستطع فعلى الأقل يتشبه بعالم الحقيقة، عالم المثل. فهذه الفنون من نحت وأشعار ورسوم أقل مرتبة، لأن أقصى مبلغها أن تنقل مظاهر الأشياء وخيالاتها.
إذا كان هذا هو التصور الأفلاطوني، فإن أرسطو يحصر أنواع المحاكاة في الفنون، نفعية كانت كالنجارة أم جميلة كالشعر والمسرح والموسيقى. إن الفن يحاكي ما هو موجود في الطبيعة. وبهذا المعنى يجب أن نفهم أن المحاكاة ليست (قصراً على إنتاج ما في الطبيعة، أو نقل صورة لها، وليست كذلك وقوفاً من الفنان عند حدود التشابه الخارجي للأشياء، ولكنها محاكاة لجوهر ما في الطبيعة، لإكمالها وإجلاء أغراضها).
إن ما يشد أرسطو إلى فن الرقص أو الموسيقى ليس إيقاع الأصوات أو الأجساد، وإنما ما يحاكى بها من أخلاق ووجدانات وأفعال.
وتختلف الفنون من حيث الوسائل التي تتوسل بها، والموضوعات التي تحاكيها، وكذا من حيث أنواع هذه الموضوعات، فالرسم يحاكي بالألوان، والموسيقى تحاكي بالأصوات، وفنون القول تحاكي باللغة.
فالرسام لمّا يرسم والموسيقي لمّا يعزف، ليس غرضهما الظاهر أن يقلدا ما هو موجود في الطبيعة من مناظر وأصوات ولكن المحاكاة تظهر في أعمالهما، من (حيث دلالتها على العواطف والأخلاق).
يخص أرسطو الشعر بأهمية خاصة من بين الفنون الأخرى، كالملحمة والشعر الغنائي والمسرح (في بداياته الأولى)، ويحصره كله في المحاكاة، أي تصوير أفعال الناس، وهم يسلكون في الحياة بين الخير والشر. وهذه المحاكاة هي الأساس الذي يميز فيه أرسطو بين ما هو شعر وما ليس كذلك، لهذا يعد (هوميروس) شاعراً، لأنه برع ونجح في جعل (محاكياته في شعره ذات طابع درامي). تعني الدراما بهذا المعنى تقديم الأفعال تقديماً مسرحياً حياً أمام جمهور، يتعرف على حقيقة الأشخاص والأحداث.
يعتد أرسطو بالشعر الموضوعي الذي يعالج واقعاً ما، والفعل هو روح الشعر عند أرسطو، والإرادة الحقة هي التي تدفع إلى العمل. ولعل ذلك ما يفسر إصراره على خاصية الحركة فيقول: (إن التراجيديا لا تمثل أشخاصاً ولكن أفعالاً).
المحاكاة في نظر أرسطو غريزية في الإنسان، وهي وسيلته إلى التعلم، فجوهر الشعر تعرف ومحاكاة الأفعال، وحينما كانت الأفعال المحاكاة دونية ارتقت فأنتجت الملهاة، ولما قلدت الملاحم نشأت عنها المأساة. وهذه الأنواع الثلاثة: الملحمة والملهاة والمأساة هي الأشكال التي يقرها أرسطو، وحولها يدور حديثه عن المحاكاة، يقول أرسطو: (الملحمة والمأساة بل والملهاة والديثرمبوس (أناشيد يُتغنى بها) وجل صناعة بالناي والقيثارة، هي كلها أنواع من المحاكاة في مجموعها، لكنها في ما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة، لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة أو موضوعات متباينة أو بأسلوب متمايز).
وأقدر الشعراء على المحاكاة هم الذين يستطيعون مشاركة أشخاصهم في مشاعرهم، والتكيف مع أحوالهم، لهذا ينبغي أن يكون الشاعر صادقاً في تصوير مواقف الإنسان، فيرتب الأحداث ويصورها، وألا يبالغ في التأنق في اللغة، فذلك من شأنه أن يعمي على الأحداث، ويخفيها وراء اللغة، وإنما يبلغ ذلك مثلاً في المأساة (بأقل عبارة وفكرة، ولكنها ذات خرافة (حكاية)، وتركيب أفعال).
ليست المحاكاة بناء لمثال، ورواية أمور كما هي، بل رواية ما يمكن أن يقع، فالشاعر صانع حكايات، أكثر منه صانع أشعار.
بناء على الأسلوب أو الطريقة التي تتم بها المحاكاة، تتميز الأنواع الشعرية بين الشعر القصصي والمسرحي، فسوفكليس (مؤلف مسرحية أوديب ملكاً) مُحاكٍ في نظر أرسطو، وهو الشيء نفسه الذي كان يفعله (أرسطو فان)، (لأن كليهما يحاكي أشخاصاً يفعلون ويعملون مباشرة أمامنا، ولهذا قال البعض إن مؤلفاتهما (درامات) لأنها تحاكي أشخاصاً يعملون ويفعلون).
يحصر أرسطو المحاكاة في الشعر الموضوعي، شعر المسرحيات والملاحم، وعلى الشاعر (أن يمثل الأشياء كما كانت في الواقع، أو كما يتحدث عنها الناس وتبدو عليه، أو كما يجب أن تكون).
2 - الحقيقة المسرحية
من البديهي القول إن العلوم والمعارف باختلاف أنواعها، تنزع كلها نحو الحقيقة، أو ما تراه حقيقة. هذا البناء المعرفي الذي يأبى أن يكتمل، بل هو تراكم تاريخي لا يتوقف، والحقيقة المسرحية واحدة من الحقائق التي ينشدها الأدب باعتبارها واحدة من تجلياته وفروعه وتنشدها العلوم كما شيدها وبناها الإنسان.
يقول فيكتور هيغو Victor Hugo في افتتاحية مسرحية كرومويل (Cromwelle 1828): (يُخيل إلي أنه قيل (إن الدراما مرآة تنعكس عليها الطبيعة) ولكن إذا كانت هذه المرآة مرآة عادية ذات وجه مسطح وصقيل، فإنها لم تنقل إلا صورة هزيلة للأشياء، لا معالم لها، إنها صادقة ولكنها باهتة، ومن المعروف جيداً أن اللون والضوء يضيعان في الانعكاس البسيط، ومن ثمَّ فإن الدراما يجب أن تكون مرآة عدسية، فبدلاً من أن تعكس الصورة أضعف مما هي عليه، إذا هي تُجمع وتكثف الأشعة الملونة، حتى تجعل من الشعاع نوراً، ومن النور لهيباً، وعندئذ فقط، يمكن أن تعد الدراما فناً بحق).
إن العمل المسرحي بهذا المعنى حسب هيغو ليس نسخة من الواقع أو الطبيعة، ليس محاكاة لها، حينما تعني المحاكاة في معناها اللغوي مجرد النقل والتصوير، من غير عنصر التكثيف، ومن غير البحث في الحياة عما لا يعيشه الناس في حياتهم، يكون المسرح مجرد مشاهد مكرّرة ألفها الناس واعتادوها، وهذا معناه (أن الحياة على ما هي عليه، لا تصلح لأن تكون عملاً مسرحياً، ترى أيعني هذا أن ما يقدم على المسرح لا يمثل الحياة؟) يتساءل عز الدين إسماعيل.
لقد عرّف هوراس الدراما قائلاً: (انعكاس للحقيقة)، واستمر هذا التعريف ملاذاً يلجأ إليه كتاب المسرح حتى العصور الحديثة، بل حتى القرن التاسع عشر، ثم لم يعد يركن إليه أحد، (فقد صار من غير المستطاع القول بأن ما يقدم على المسرح (يمثل الحياة). لو كان ما يقدم على المسرح مطابقاً لما يعيشه الناس في حياتهم، لما كلفوا أنفسهم عناء قراءة النصوص المسرحية أو الذهاب لمشاهدة العروض في المسارح. إن ما يقدم على المسرح هو من الحياة وليس الحياة كما هي، إنه (يوهم بحضورها، لأن هذا الذي يقدم على المسرح لا يتعارض في جوهره مع ما يجري كل يوم في الحياة، على مرأى من الناس ومسمع).
إن التمثيل أو ما يقع خلال العرض لا يستهدف الحقيقة كما هي، إنه لا يتأسس على الواقعي الذي يجري في الحياة المشاهدة، ولكنه يتأسس على المحتمل، ومادام هذا المحتمل غير محدود، فإنه محدد بالشبيه Le vraisemblable والضروري le nécessaire، إن هذا الشبيه نتيجة الحياة الاجتماعية، إنه ما ينتجه الناس. ولعل هذا ما يفسر الاشمئزاز الذي أبداه بوالو Boilau معترضاً على هذا (الحقيقي الذي قد يبدو أحياناً مفارقاً لأصله).
3 - كيف تتم المحاكاة في المسرح؟
في هذه النقطة تُطرح قضية العلاقة بين الأدب المسرحي والمسرح، (أيدخل الأداء على المسرح عنصراً أساساً ولازماً لقيام العمل الدرامي، أم أن هذا العنصر يمكن الاستغناء عنه، ويظل العمل الدرامي قائماً في الكلمة المكتوبة أو المسموعة). في البدايات الأولى للتنظير المسرحي، كان شغل الكتاب أن يُنشئوا نصوصاً مسرحية لا تفارق النص، فالدراما تقع وراء الأحداث والمشاعر، لذلك فالكاتب المسرحي لا يريد أن ينقل إلينا قصة وقعت في الحياة، كما أنه لا يريد أن ينقل إلى نفوسنا المشاعر التي يشعر بها الناس عادة، (إذ الدراما تقع وراء الأحداث والمشاعر، الدراما تقع وراء التجارب الإنسانية ولا تتمثل فيها). فالتساؤل المُلح والأساس هو: هل يمكن للحقيقة الأدبية كما يَنشدها الفن المسرحي أن تتم دون عرض؟
تعني كلمة mimesis في الإغريقية القديمة (قلّد) و(مُقلِّد) و(ممثل)، ثم أصبحت مفهوماً أدخله أفلاطون إلى الفلسفة، ثم طوره أرسطو وتوسع فيه من بعده.
تحيل المحاكاة في ميدان الفن على خلق عالم (مُؤمثل) idéalisé للواقع الطبيعي، والعمل الإبداعي المنجز وفق هذا التصور يجب ألا يكون حقيقياً، ولكن يُفترض أن يكون فيه ما يوهم بالحقيقة le vraisemblable، ولتحقيق هذا الهدف يجب على الفنان أن يلتزم بالمبادئ الإجرائية، وبعبارة أخرى فإن المتفرج الذي يجلس متابعاً أو قارئاً للعمل المسرحي أو المنجز الإبداعي عموماً، فإنه (يقشر) décortique ما يراه، ويلتمس لذلك صلات بالعالم الخارجي الذي يعيش فيه هذا المتفرج، إن الفنان بهذا المعنى نتساءل هل هو مجبر على إنجاز عرض يوازي ما تتم محاكاته (الطبيعة الأم la belle nature)؟ أم أنه يعقد لما يعرضه صلات وطيدة بالتخييل؟ أم إن المحاكاة الحقيقية تنحو نحو التشابه المطلق؟
يجيب جان لاكوست Lacosteمحيلاً على بيلوري Bellori (يُطلب من الفنانين أن يبحثوا عن جمال مصدره دون شك الطبيعة، لكن بشكل أكثر مرونة وصفاء وإثارة، جمال بفضل سحر بريقه يُنسينا الأصل). فالفنان مطالب (بثمثيل أفعال الناس ومُتعهم كما ينبغي أن تكون، بفضل عمل واع فيه الاختيار La sélection والتنئية l’élimination).
يقوم الاختيار إذن على العمل الخاص بالمؤلف في تحويل الواقع إلى تمثيل، فقد اتضح منذ أرسطو أن الفن يتميز عن الطبيعة بقابليته (للتأمثل) Idéalisation، لأن يكون مثالاً، ولن يتم ذلك إلا بواسطة المحاكاة، إن ما هو ممثل في الفنون التشكيلية مثلاً ليس هو الواقع الخام، ولكنه حقيقة مثالية، يقول لوران جافرو Laurent Jaffro : (ليست المحاكاة الجميلة تقليداً Imitation، لكنها تحويل غير متوقع Transformation Inattendue، ودون هذا لن تثير دهشتنا، وستكون مجرد نسخة مسطحة.. جمال المحاكاة دائماً في إدهاشنا، بواسطة تمثيل محكم في منتهى الاختلاف).
إذا كانت المحاكاة في الفن تأخذ بعين الاعتبار الخطوط الكبرى للواقع، فإنها بذلك لن تكون إلا مرآة عاكسة لهذا الواقع، مجرد نسخة ثانية، يقول ماثيو كسلر Mathieu Kessler : (تشير النسخة المسماة من طرف أفلاطون (أيقونة) Icone مباشرة إلى اختلافها sa disparité في الشكل عن النموذج Le model التي تلتقي وإياه في الأساس المشترك).
تجمع المحاكاة بين مظهرين داخل العمل الفني: المظهر الواقعي المادي Sensible والمظهر المفهوم Intelligible (فتنتج المحاكاة إبداعاً قريباً من العالم المادي بتمثيلها لما يوهم بالحقيقة، وفي الوقت نفسه تقوم بدور الإبعاد والتمثيل لكل هذه العناصر المادية)، من هنا ينبع تناقضها المركب، كما يقول فيليب جينود Philippe Junod (أول استنتاج يفرض نفسه هو الحضور الدائم لنظرية المحاكاة، إنها بقدر مفارقتها تميل إلى أن تكون متناقضة، بما أنها تحدد الإبداع بنقضيه، والتي لن تسلم من الدخول في صراع مع مفاهيم الإبداع والعبقرية والتخييل والتعبير والتناغم والجمال).
تنتج المحاكاة ما يمكن تسميته بالإطار القانوني الذي يسمح لوجهي العملية الإبداعية بالاندماج والوحدة، فليست القطع الفنية وحيدة الجانب، فهي مزيج بين المادي المحسوس والمفهوم (المؤمثل) idéalisé، لذلك فليس من المستغرب أن يكون لها هذا التأثير المطلق في الفن الغربي (وفي غيره) منذ عصر النهضة. واليوم تُفرض نظرية المحاكاة كقاعدة جمالية للنقد المعاصر، يمكن الانطلاق منها لتحديد الإنجاز الفني الذي يراوح بين قطبين: الجسد أم الذهن، الفكرة أم المادة. فالقطعة الفنية لم تعد تستجيب لمتطلبات نظرية المحاكاة.
خلاصة
يختلف المسرح كجنس أدبي عن باقي الأجناس الأخرى من حيث تلقيه، وتجنيسه داخل الأدب، فالمتلقي قد يكون قارئاً أو متفرجاً ضمن آخرين، وذلك راجع إلى طبيعة المسرح التي تتراوح بين الكتابة والعرض، على عكس باقي الممارسات الإبداعية، وإن كانت كلها تخضع لهيمنة نظرية المحاكاة الأرسطية في صيغتها الأولى. تلك النظرية التي حاول منظرو القرن السابع عشر فهمها والوصول إلى حقيقتها.
على أن نظرية المحاكاة كانت مع أفلاطون مبسوطة على كل الموجودات، فجاء أرسطو وحصرها في الفنون، محدداً وظيفتها في تجاوز ما في الطبيعة إلى محاكاة جوهر ما في الطبيعة، لإكمالها وإجلاء أغراضها. بيد أن أرسطو- وإن كان يحصر المحاكاة في الفنون كلها، إلا أنه يخص الشعر -والموضوعي منه بالخصوص- بأهمية خاصة، وذلك أنه تصوير لأفعال الناس وهم يسلكون في الحياة بين الخير والشر، وذلك أساس التمييز بين ما هو شعر وما ليس بشعر. من أجل ذلك جعل أرسطو أقدر الشعراء على المحاكاة هم الذين يستطيعون مشاركة أشخاصهم في مشاعرهم.
وبالعودة إلى المسرح وحقيقته التي تعد من الحقائق التي يَنشدها الأدب ويسعى إلى تعرفها، خلصنا إلى أن المسرح كان يُنظر إليه على أنه (انعكاس للحقيقة)، إلا أن هذه النظرة تغيرت منذ القرن التاسع عشر وصارت حقيقته أن ما يقدم على المسرح لا يمثل الحياة ولا يشكل انعكاساً لها. ونظراً للطبيعة المزدوجة للمسرح، فإن من المسائل التي تطرح حين السعي إلى تعرف حقيقته، مسألة الأداء ومدى لزومها في قيام العمل الدرامي في الكلمة المكتوبة أو المسموعة. ومهما يكن من أمر فإن الثابت أن (الفنان مطالب بتمثيل أفعال الناس ومتعهم كما ينبغي أن تكون، بفضل عمل واع فيه الاختيار والتنئية).