مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

آكيرا كوروساوا.. معلم السينما اليابانية

ولد آكيرا كوروساوا في 23 مارس عام 1910، وبدأ حياته الفنية رساماً، وأثناء الحرب العالمية الثانية اتجه إلى السينما كاتباً لسيناريو العديد من الأفلام، قبل أن ينتقل إلى مهنة الإخراج السينمائي بوصفه مخرجاً عالمياً، حيث لمعت موهبته الإبداعية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ اُعتبر كوروساوا أحد أهم فناني السينما العالمية المعاصرة، ومعلماً من معلميها الكبار.
كتب كوروساوا سيناريو 22 فيلماً لم يخرجها، وستة سيناريوهات في الفترة بين العامين 1941 و 1964، وأخرج أكثر من 30 فيلماً في الفترة من عام 1943 إلى 1993، وهذه الأفلام هي: (قصة الجودو) الجزء الأول عام 1943 والجزء الثاني عام 1945، (الأجمل) عام 1944، (الذين أمسكوا بذيل النمر) عام 1945، (الذين يصنعون الغد) عام 1946، (لا عذر لشبابنا) عام 1946، (يوم أحد رائع) عام 1947، (الملاك السكران) عام 1948، (الصراع الهادئ) و(الكلب المجنون) عام 1949، (فضيحة) و(راشومون) عام 1950، (الأبله) عام 1951، (أن تحيا) عام 1952، (الساموراي السبعة) عام 1954، (أحيا في خوف) عام 1955، (عرش الدماء) و(الحضيض) عام 1957، (القلعة الحصينة) عام 1954، (الشرير ينام جيداً) عام 1960، (الحارس الخاص) عام 1965، (ودود يسكادن) عام 1970، (درسواوزالا) عام 1975، (ظل المحارب) عام 1980، (ران) 1985، (أحلام) عام 1990، (رايسوديا في أغسطس) عام 1991، وفيلمه الأخير (ليس بعد) 1993.
الرحيل إلى الذات البشرية
تعد مجموعة الأفلام هذه تحفاً فنية سينمائية عالمية، تحكي قصص أصالة كوروساوا وعصريته من خلال رؤيته الفكرية وأسلوبه الفني في التعبير عن قصص الأصالة والمعاصرة إلى الواقعية الإيطالية الجديدة. عبر تجربته الفنية الطويلة خاض كوروساوا من خلالها مجموعة من الرحلات، داخل الذات البشرية وخارجها، رحلة في اليابان، مواطن الإنسان والمجتمع والسياسة والثقافة، يابان ما بعد الحرب، هزيمة وانسحاق وكارثة الدمار الذري، هيروشيما وناكازاكي التي خلفت دماراً وألماً ممزوجاً بالحزن المرير، على الشبق الدموي، الذي طبع الروح البشرية المعاصرة. وبالموازاة مع هذا الجرح الأليم في الروح اليابانية أفرزت المأساة الذرية جيلاً واعياً مثقفاً متحملاً لمسؤولياته تجاه ذاته وتجاه البشرية جمعاء. جيل عرف العالم على الوجع الياباني وجرحه العميق، وملامح وجهه الإنساني الحكيم، ذي الملامح الثقافية والروحية النبيلة والحضارة التاريخية العريقة. هذه الملامح وغيرها شكلت أبرز مضامين أفلام معلم السينما اليابانية، كوروساوا.. تحدث فيها عن أهوال الحرب ومخلفاتها، وعن الصراع الاجتماعي الطبقي، وعن الاحترام العميق للتراث والتقاليد، وعن الوطنية الحقة، وعن الطبيعة، وعن حق العيش الحر الكريم للكائنات الحية، وهذه السمات الثقافية والحضارية هي بالذات التي جلبت مجداً عالمياً للسينما اليابانية وزينت المكتبة السينمائية العالمية بتحف فنية تحمل سمات فلسفية وفكرية أصيلة ومتفردة.
خاض كوروساوا رحلات متعددة روحية يابانية في عيون الثروات الأدبية العالمية، يقول معلم السينما اليابانية: (لقد بدأت ثقافتي من الأدب الروسي الكلاسيكي، ونشأت عليه، وانعكس هذا في حياتي الفنية، وقد انعكس هذا التأثير في بعض أفلامي، (الأبله) عن رواية ديستو فيسكي و(الحضيض) عن مسرحية كوركي وفيلم (اللحية الحمراء)). ويتميز توجه كوروساوا لكلاسيكيات الأدب العالمي بخاصية الابتكار العصرية، لفنان واعٍ بطبيعة التحولات المعاصرة في مسار البشرية. ففي هذه الأفلام (الأبله والحضيض والعرش الدموي واللحية الحمراء ووان) الفيلم المقتبس من مسرحية (ماكبث) للكاتب الكلاسيكي البريطاني وليم شكسبير، جعل المخرج كوروساوا الأعمال الأدبية العالمية، تتنفس في المناخ الثقافي الياباني العريق، وأعطى الجنسية الكونية للمعاناة البشرية، بالإضافة إلى أن هذه الاقتباسات السينمائية من الأدب العالمي أضافت مفهوماً جديداً لطبيعة العلاقة بين الأدب والسينما، فيما أطلق عليه حينها مصطلح (الأقلمة)، بمعنى أقلمة الأدب العالمي مع الخصوصية المحلية للسينما. وتماشياً مع موجة انفتاح السينما على الأدب طرح هنا كوروساوا معالجة جديدة للأدب العالمي، بعملية خلق سينمائية ناضجة فكرياً وفنياً، في رؤية فنية جمالية وتشكيلية خاصة تميزت بها السينما اليابانية.
الرحيل إلى هوليود
كما رحل كوروساوا خارج اليابان إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1966 فأخرج في أستوديوهات هوليود فيلم القطار العاصف، في إشارة دلالية على سرعة انتشار الرأسمالية المادية الشرسة. يقول كوروساوا: (إن القوى التي انفلتت عن عقلها، جعلت الحياة غير ممكنة على الإطلاق... يجري الآن وبوتيرة سريعة للغاية تسميم وتلوت الوسط الطبيعي للأرض، المياه، والمحيط الجوي. الناس يرتدون واقيات للغاز، تتكاتف أعمدة الدخان الملوث، وتجري الأنهار بالمياه السوداء المميتة، ويحجب السماء، الضباب السام، ذو الألوان المختلفة، ويغطي المناطق الصناعية المكتظة بالسكان).
وفي عام 1968 صور كوروساوا فيلمه الثاني في هوليود فيلم (النمر، النمر)، وحاول في هذا الفيلم أن يعرض حقيقة تاريخية مفادها، بأن اليابانيين كانوا ضد الحرب، وأنهم أرغموا عليها: (لقد أردت في هذا الفيلم أن أثير الرعب والهول والكراهية إزاء الحرب، لكن هوليود أرادت مني أن أقدم الحرب كبرنامج في سيرك كفقرات جذابة، تنتزع التصفيق)، وهكذا انتهت رحلة المعلم الياباني بالخيبة والاحتجاج المطلق على الهيمنة الرأسمالية لمصانع هوليود.
العودة إلى الذات اليابانية
شكلت رحلة كوروساوا إلى أمريكا خيبة أمل شديدة الأثر النفسي، نتيجة للصراع بين الجشع الهوليودي وروحانية كوروساوا الشامخة، خيبة بلغت حد فقدان الأمل في الحياة ومحاولة الانتحار، نتيجة لمعاناة طويلة من الاكتئاب. بعدها صور فيلم (اللحية الحمراء) الفيلم الذي وصل فيه إلى قمة إبداعه الفني، إلى مرحلة يصعب على الفنان أن يقول شيئاً آخر. إن اللحية الحمراء خلاصة تجربته في الفن والحياة، وهو عمل جدير بأن يموت المرء بعد إنجازه بدون ألم. كما رحل المعلم الياباني إلى روسيا لإخراج فيلم (ديرسواو زالا) الذي يعد من أهم أفلامه، والمقتبس عن الرحلة السحرية للرحلة والكاتب الروسي (فلاديمير أرسينييف) إلى الشرق الأقصى عام 1903. الفيلم اتخذ منحى تأملي، قائم على حركة الأحاسيس والخواطر والأفكار الإنسانية، زكى الفيلم الإيمان المطلق بحكمة الطبيعة، بوصفها عالمنا الأم، ومنبع السعادة والطمأنينة الروحية.
الرحيل الأخير
ومن خضم هذا الترحال والألم والمعاناة والإبداع اتخذ المشهد السينمائي الياباني من كوروساوا قمته الوطنية الثقافية والفنية ووجهه السينمائي العالمي، وغدت أفلامه بحمولتها الفكرية، وقدرتها على تشخيص الواقع، والدفاع عن حق الإنسان في العيش الكريم، وحقه في الدفاع عن قيمه الإنسانية أحد المظاهر البليغة لفن وثقافة الأمة والوجه الأكثر إنسانية لروح الشعب الياباني وخصوصياته المتميزة، لأدبه وموسيقاه، لمسارحه وفنونه التشكيلية، لفلسفته وحكمته، وعاداته العريقة. في مهرجان موسكو التاسع للفيلم تموز 1975 سأل كوروساوا عن الأفلام التي يتوقع أن تظهر في المستقبل، فأجاب بلغة جدية (ما أعرفه جيداً هو أنه علينا اليوم أن نصنع أفلاماً إنسانية، تتغنى بالحب والاحترام إزاء الإنسان والطبيعة المحيطة بِنا).
لقد كان المعلم كوروساوا خلال رحلاته الفنية، صوتاً شجاعاً في كل أفلامه، وحول هذا الصوت الشجاع إلى تراجيديا للبؤس البشري المعاصر، وكشف في أفلامه عن جماليات قسوة صراع الفقراء الجائعين إلى الخبز والماء والحلم والعدالة. والشجاع أيضاً في غضبه الإنساني في يأسه وحزنه حتى الانتحار. أبطاله على الدوام يعانون، ويتمردون ويقاتلون وينتصرون على طغيان الشر، وليد الرأسمالية الشرسة. الشر في أفلامه يكمن في أزقة مدينة أخطبوطية تقتل الفقراء. الشرّ في مشهد تسمم طفل متشرد، يقتات من فضلات الأثرياء، الشرّ في أفلامه غياب الحلم، حتى مجرد الحلم في كسرة خبز، أو ابتسامة. يقول كوروساوا: (أنا لم أعرض القسوة في أفلامي من أجل القسوة، وإنما أعرض القسوة، من أجل فضح الشر، وكل أنواع الكذب وانعدام الحقيقة واللاعدالة. وإزهاق الأرواح البشرية البريئة).
رحلة طويلة تلك التي قطعها السينمائي الكبير آكيرا كوروساوا، رحلة اقترنت بسمات الحزن اللامتناهي، لمصرع الأبطال، ثمناً لقتال مملكة الشر، فالصراع لديه صراع حد الموت، ذلك لأن كل شيء جدي وحتمي كما في الحياة، الصراع تراجيدي صارم ومستمر، والحلم البعيد فيه مستمر.
رحل المعلم بعد أن أخرج فيلمه الأخير، (ليس بعد) وكأنه يحاول تأجيل موعد محتوم مع رحلته الأخيرة، إلى العالم الآخر، سنة 1998. منهياً رحلاته الشيقة والأليمة ومخلداً المعاناة اليابانية والبشرية في ذاكرة السينما العالمية.

ذو صلة