أن تذهب للمسرح لتشاهد عرضاً مسرحياً، يعجبك وتتفاعل معه ويثير تساؤلات في ذهنك فهذا أمر طبيعي، أما أن تكون أنت كمشاهد جزءاً لا يتجزأ من العرض المسرحي، فهذه قصة أخرى.
بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين لرحيل الشاعر الكبير (صلاح عبدالصبور 1931 - 1981)، قدم مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية، عرضاً لمسرحية (مسافر ليل) للشاعر الكبير برؤية فنية إخراجية جديدة. مسرحية (مسافر ليل) عُرضت على المسرح أكثر من مرة، ولكن هذه المرة يُعاد تقديم هذا النص الدرامي برؤية مخرج شاب هو محمود فؤاد صدقي، الذي وضع المشاهد مع شخصيات المسرحية (عامل التذاكر والمسافر والراوي) داخل عربة قطار تم تصميمها في ساحة كبيرة أمام مسرح الهناجر، ليكون بذلك قد خلق مكاناً مسرحياً مغايراً للخشبة المسرحية التقليدية.
وقبل أن نبدأ الحديث عن سينوغرافيا العرض المسرحي، ينبغي أن نوضح أن (تعبير السينوغرافيا في المسرح يعني الخط البياني للمنظر المسرحي وهو حرفياً بالإنجليزية Scenography. أما تعبيراً، فهو فلسفة علم المنظرية الذي يبحث في ماهية كل ما على خشبة المسرح، وما يرافق فن التمثيل المسرحي من متطلبات ومساعدات تعمل في النهاية على إبراز العرض المسرحي جميلاً، كاملاً، ومبهراً أمام الجماهير)، وهو الفن الذي يُعنى بـ(تصميم مكان العرض المسرحي وصياغته وتنفيذه، ويعتمد التعامل معه على استثمار الصورة والأشكال والأحجام والمواد والألوان والضوء). وبهذا المعنى فإن الكلمة تعني حرفياً فن رسم المشهد.
المسرحية التي وصفها عبدالصبور على غلاف النص بأنها (كوميديا سوداء) تدور أحداثها في إطار عبثي، حول راكب بسيط يسافر في قطار الدرجة الثالثة ليلاً، وأثناء رحلته الليلية يتم استدعاء شخصيات تاريخية ديكتاتورية مثل الإسكندر، وهتلر، وهانيبال، وتيمور لنك، ويجسد هذه الشخصيات عامل التذاكر الذي هو رمز للطغاة في كل العصور. وتطرح المسرحية برؤية فلسفية علاقة المواطن البسيط بالسلطة المستبدة، ومدى قوتها في تزييف الحقائق وقلب التاريخ لصالحها. وتظهر في المسرحية شخصية الراوي الذي يقوم بالتعليق على الأحداث المسرحية.
في العرض المسرحي (مسافر ليل) انطلق المخرج محمود فؤاد صدقي من روح إبداعية في فهم النص الدرامي وتفسيره وإعادة خلقه من جديد برؤية عصرية، وهو ليس مخرج العرض فحسب، ولكنه مصمم الديكور أيضاً، من هنا فهو يقوم بدور السينوغرافي بكل دقة ويقدم رؤيته كاملة لتحويل النص المكتوب إلى صورة مرئية.
قرر المخرج أن يكون مكان العرض هو قطار خشبي تم تصميمه بشكل بسيط وموحٍ، كما اهتم المخرج بتفاصيل دقيقة مثل علامة (سكك حديد)، ومثل (رقم العربة) التي جعلت المشاهد يشعر باختلاف التجربة المسرحية. قبل العرض يبدأ الصوت في مناداة الجمهور بأن القطار سيتحرك في موعده في الساعة الثامنة وأن عليهم الالتزام بالموعد المحدد، ليبدأوا بركوب القطار، وبداخله مقاعد خشبية مائلة تتيح الرؤية الجيدة يجلس عليها المشاهدون وكأنهم ركاب القطار، وبهذا يكون الجمهور جزءاً من العرض المسرحي، وبذلك استطاع من خلال الفكرة الجديدة كسر الإيهام المسرحي، فالمشاهد يشعر أن ما يحدث للراكب البسيط يمكن أن يحدث له، وأنه ليس بمنأى عن الأحداث ولا بمعزل عنها، بل هو شريك في الأحداث ومطالب بالبحث عن حلول وإجراءات حاسمة وأن هذا الواقع لا بد وأن يتغير، وبهذا يحقق المسرح أحد أهدافه الرئيسة بأن يصبح أداة من أدوات التغيير الاجتماعي.
إذا طالعنا في البداية ملصق (بوستر) العرض المسرحي سنجد أنه يحمل الكثير من الدلالات:
في أقصى اليمين صورة الممثل (جهاد أبو العينين) الذي يقوم بدور الراوي في المسرحية، من الطبيعي أن تكون حرفته الكلام واللغة، ولكنه يأتي هنا مكمم الفم، وكأنه لا يجرؤ على الكلام من جراء سلطة أعلى منه تمنعه، وفي أقصى اليسار المسافر البسيط (مصطفى حمزة) الذي وصفه صلاح عبدالصبور في الإرشادات المسرحية بأنه (نموذج للإنسان بلا أبعاد، الإنسان الذي لا نستطيع أن نصف إلا ملامحه الخارجية). ونجد صورته على البوستر مهتزة وكأنه يتلاشى، لذلك فهو تجسيد للإنسان المهمش في كل زمان. ويتوسط الصورة عامل التذاكر الذي يقوم بدوره (علاء قوقة) الذي أدى دور الطاغية باقتدار، ونلاحظ في الصورة أن وجهه ما هو إلا قناع خارجي يُخبئ داخل جعبته العديد والعديد من الشخصيات التي لا تنتهي بل تتواصل عبر الزمن.
وقد نجح المخرج إلى حد كبير في اختيار الممثلين المناسبين لأدوار الشخصيات المسرحية، فاختار ممثلاً هزيلاً في تكوينه الجسماني ليقوم بدور المسافر (مصطفى حمزة)، على العكس من شخصية عامل القطار (علاء قوقة) الذي كان ضخم الجثة، ورغم ضخامته فإنه كان خفيف الحركة يستطيع أن ينقض على المسافر بكل خفة، فكان اختياراً موفقاً أدى دوره في إيصال مدى ضآلة المواطن العادي، أمام ضخامة وقوة السلطة المستبدة العليا. كما أن الراوي (جهاد أبو العينين) كان يبدو عليه شخصية المثقف المتحذلق بشعره اللامع، وملابسه الفخمة وتنظيره الدائم خلال المسرحية، في حين أنه عند قتل المسافر لم يستطع اتخاذ أي موقف معارض للسلطة، بل وقف أعزل يسأل الجمهور عمّا يجب عليه فعله:
الراوي:
متجهاً إلى الجمهور:
ماذا أفعل
ماذا أفعل
في يده خنجر
وأنا مثلكم أعزل
لا أملك إلا تعليقاتي
ماذا أفعل!
ماذا أفعل؟
وهذا الحوار المتواصل طوال العرض المسرحي بين الراوي والجمهور، ساعد على كسر حالة الإيهام المسرحي بشكل كبير، فالمشاهد يجلس على مقعد القطار، ويجد الراوي يجلس بجواره ويتنقل من مقعد لمقعد محدثاً إياه، يحثه على التفكير وإيجاد الحلول.
وجاءت موسيقى (زاكو) لتكون عنصراً فعالاً في العرض وألقت بظلال شجن حزين على أجواء العرض المسرحي، كما أنها ساعدت في إبراز حركة القطار من خلال الصوت بصورة كبيرة.
أما الإضاءة فقد لعبت دوراً محورياً في العرض المسرحي من خلال زوايا تركيز الضوء على الشخصيات المسرحية، فالإضاءة تُعد عنصراً مؤثراً في السينوغرافيا، فمن خلال الألوان والظل يستطيع المخرج إيصال دلالات مختلفة للمتلقي. نجد أن الإضاءة باللونين الأزرق والبنفسجي المائل للزرقة، وهما لونان باردان، ساعدا في تعميق الشعور بالظلام، نظراً لكون المسرحية تدور ليلاً، كما عكسا شعوراً بالخوف والرهبة ما ترك أثره في نفس المشاهد. كما استعان المخرج باللون الأحمر، ورغم أنه يندرج ضمن الألوان الدافئة، إلا أنه يحمل دلالات نفسية كثيرة تتعلق بالموت والعنف والاستفزاز والإثارة، وساعد تداخله مع اللون الأزرق في تكثيف الشعور بالقهر والانسحاق في العرض المسرحي.
كما استغل المخرج عنصر الظل استغلالاً جيداً، ففي العرض يصعد عامل التذاكر ليجلس في مقعد علوي وهو يتحدث مع المسافر الذي يجلس في مقعد سفلي، فيبدو الظل من خارج القطار عبارة عن قدم العامل تعلو رأس المسافر، وكأنه يدهسه بقدمه، وكان تجسيداً رائعاً لنص صلاح عبدالصبور:
(العامل يقفز كي يجلس في أعلى العربة
فوق الرف الشبكي
ويدلي ساقيه، ويؤرجح قدميه على رأس الراكب
لا تندهشوا، هذا أيضاً حق
فقديماً قالوا:
إن القانون
فوق رؤوس الأفراد)
فجاء الظل رمزياً يحمل الكثير من دلالات التسلط والقهر، واغتراب الإنسان في وطنه.
ثم ينتهي العرض المسرحي بقتل المسافر على يد عامل التذاكر، في إشارة إلى موت العدل، وصمت الراوي نفسه والاشتراك الضمني للركاب (الجمهور) معه في جريمة الصمت.
قام المخرج بإخراج النهاية بشكل مبهر، حيث قام بإظلام القطار من الداخل، مع الإيحاء بحركته من خلال الصوت والإضاءة الصفراء التي تمثل كشافات الإنارة من خارج القطار، ثم قام بتثبيت حركة الممثلين وكأن الزمن قد توقف داخل القطار رغم استمراره خارجه، فالقطار مازال يتحرك رغم كل شيء، في إشارة إلى أن الصراع أبدي حتى لو انتهى داخل القطار، فإنه سيعود ليتجسد من جديد إلى أن يخرج أحد عن صمته محاولاً التغيير.