مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

The Tudors.. لأجل هذا العمل تم ابتكار المسلسلات

يعد الملك (هنري الثامن) أحد أشهر ملوك إنجلترا قاطبة، ففي سنوات حكمه التي استمرت نحو 38 عاماً، شهدت حياته الخاصة والعامة وشهدت مملكته العريقة أحداثاً وتقلبات أثرت على القارة الأوروبية بأسرها، وأصبح مسار التاريخ الإنجليزي من بعده ليس كما كان من قبله، وهو ما جعله مادة درامية دسمة حاول الكثيرون تحويلها إلى عمل فني فذ، منذ وليام شكسبير الذي كتب مسرحية باسمه، مروراً بعدد هائل من المسرحيات والأفلام والمسلسلات التي تتجاوز الخمسين، حتى قال مسلسل (The Tudors) كلمته الأخيرة، لأنه العمل الوحيد الذي استطاع الإلمام بحياة هنري الثامن وعصره وشخصياته حتى استوفى حقه، الأعمال الأخرى تناولت علاقته بزوجاته الست فقط، أو زوجته (آن بولين)، أو علاقة بعض رجال بلاطه ببعضهم البعض، لكن مسلسل (أسرة تيودور) منحنا فرصة أن نعود بالزمن لنعايش حياة الملك المثير للجدل بحكم شخصيته المتخمة بالتناقضات، وكما يختتم المسلسل حلقاته الـ38 بعبارة مفادها أن أسرة تيودور قد منحت التاريخ الإنجليزي أشهر ملكين عبر تاريخها، الملك هنري الثامن، والملكة العذراء (إليزابيث الأولى) صاحبة العصر الذهبي، سنعود لنقطة البداية.. من هنري الذي غير وجه التاريخ الأوروبي.
النقطة المحورية التي تنطلق بسببها كل الأحداث التاريخية والدرامية هي رغبة هنري الثامن في الحصول على وريث ذكر للعرش، ولكي نفهم مدى إلحاح وخطورة المسألة، يكفي أن نعرف أنه لم يحدث على الإطلاق أن تولت امرأة قبل هنري الثامن عرش إنجلترا، والسابقة الوحيدة تمثلت في الملكة (ماتيلدا) ابنة الملك (هنري الأول) الذي توفي ابنه (وليام) في كارثة (السفينة البيضاء)، أصبحت ماتيلدا الوريثة الوحيدة الشرعية للعرش، ولكن لكونها أنثى فشلت في الحصول على التأييد الرسمي والشعبي من الناحية القانونية والسياسية ولم يتم تتويجها كملكة على الإطلاق، ودخلت البلاد خلال فترة حكمها القصيرة التي استمرت سبعة أشهر في حالة غير مسبوقة من الفوضى وحرب عرفت لاحقاً بـ(حرب لا سلطوية)، ولهذا لا يتم احتسابها كملكة حقيقية لإنجلترا لدى معظم المؤرخين، المفارقة أنه بعد وفاة هنري الثامن وابنه (إدوارد السادس) الذي خطفه الموت سريعاً، سيتعثر الحكم مرة أخرى بـ(ليدي جين غراي) ملكة الأيام التسعة، ثم (ماري الدموية) ابنة هنري الثامن، حتى يستقر الأمر بابنته الصغرى إليزابيث الأولى التي حكمت البلاد 45 عاماً، وتلتها العديد من الملكات حتى الملكة الحالية لبريطانيا إليزابيث الثانية.
قبل أن يتوج هنري الثامن ملكاً بعمر الـ18 فقط، كان والداه قد زوجاه أرملة أخيه (كاثرين من أراغون) التي أقسمت أن زواجها الأول لم يكتمل، مما سمح لبابا روما أن يمنح الزيجة موافقة استثنائية لإتمامها، ولكن ظل الأمر يسبب لهنري مأزقاً أخلاقياً وديني لما فيه من مخالفة صريحة للتعاليم الكاثوليكية، كما أنه شعر بالعقاب الإلهي نظراً لكونه لم يرزق بصبي، ومن ناحية أخرى كان الملك الشاب قد وقع في غرام (آن بولين) التي رفضت إلا أن تكون زوجته الجديدة بمباركة من والدها وعمها اللذين يعملان في البلاط الملكي، حيث سيحقق لهم هذا الأمر، حال حدوثه، نفوذاً ومكاسب مالية غير مسبوقة.
في ذلك الوقت أيضاً ظهر (مارتن لوثر) الذي أطلق عصر الإصلاح في أوروبا، حدث ذلك برفضه مبدأ صكوك الغفران، وكثير من التعاليم الكاثوليكية، كما قام بترجمة الكتاب المقدس للغة الألمانية مشجعاً الناس على قراءته بعدما كان محصوراً باللغة اللاتينية وداخل الكنائس فقط، وساعد اختراع الطباعة في ذلك الوقت على انتشار النسخ المترجمة بسهولة للبسطاء، صحيح أن (جون ويكيليف) كان سباقاً وقد قام من قبل بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية وهاجم سلطة الكنيسة، إلا أن لوثر وأفكاره كُتب لها الانتشار، كما أن الأخير قد قام بكتابة الكثير من الترانيم التي ساهمت أكثر وأكثر في جعل صوته يصل لكافة أنحاء أوروبا. كان هنري الثامن في البداية يرى أن أفكار مارتن لوثر هرطقة وألف كتاباً خصيصاً للرد عليه، وهو الكتاب الذي بفضله منحه بابا روما لقب (المدافع عن الإيمان)، إلا أن هنري قد وجد من بين هذه الأفكار ما سيساعده على التخلص من سلطة البابا بعد رفض الأخير إعطائه رخصة ببطلان زواجه الأول ليتمكن من أن يتزوج من جديد، ورغم أن هنري لم يدخر جهداً في الوصول إلى هدفه واستخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة، إلا أن الأمر باء بالفشل.
وبناء على كل ما سبق بدأ هنري الثامن عصر الإصلاح الإنجليزي وذلك بانفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية واعتناق المذهب البروتستانتي، ونصب هنري نفسه رئيس كنيسة إنجلترا، ما سمح له الاستقلال ببلاده عن أية سلطة أجنبية، ولم يعد مضطراً لتلقى الإذن من روما كلما رغب في إصدار أمر سياسي أو ديني يخص مملكته، ولأن داخل هنري شخص يؤمن بالتعاليم الكاثوليكية، فإن مذهب الإنجليكية الذي صاغه بنفسه كرئيس للكنيسة يحمل مزيجاً من التعاليم الكاثوليكية والبروتستانتية في الوقت نفسه، وهو ما تسبب في بلبلة الشعب الإنجليزي وحتى داخل البلاط الملكي نفسه.
ومن هنا نشأت (حركة مهاجرو الرحمة) وهو التمرد الواسع في أنحاء البلاد الذي كاد أن يخلع هنري عن عرشه، فعموم الشعب الإنجليزي لا يزال حتى وقتها يدين بالكاثوليكية، ورجال البلاط بقيادة الوزير (توماس كرومويل) الذي أمر ليس فقط بإخلاء الكنائس والأديرة من الكنوز وتحويلها إلى خزينة الدولة، ولكنه ذهب إلى هدم العديد منها وتحويلها لمنشآت مدنية، وهو ما تسبب غضب الجميع وخرجوا بالآلاف دفاعاً عن إيمانهم الكاثوليكي، وهو التمرد الذي تمكن هنري الثامن من السيطرة عليه بالسياسة والدهاء في البداية، ثم بالرعب والتنكيل لاحقاً، ما جعل الأمر في ذاكرة من اشتركوا فيه كابوساً حياً.
وحياة هنري الثامن لم تتوقف عند هذا الحد، فقد شهد وباءً مروعاً احتار فيه العلماء حتى الآن ولم يجدوا له سبباً ولا تفسيراً، إنه مرض (التعرق الإنجليزي) الذي أقض مضجع هنري وجعله يعيش معزولاً عن الجميع، وظل يهرب من الوباء بالإقامة ليلة واحدة في مكان آمن ومن ثم ينتقل بعدد قليل فقط من حاشيته إلى مكان آخر، والمسلسل يصور جيداً التخلف الكبير الذي لحق بمهنة الطب في العصور الوسطى حتى جعل الأطباء لا يملكون في مواجهة كافة الأمراض سوى الأعشاب أو إحداث نزيف للمريض على أمل الشفاء، ما يعني أن الإصابة بهذا المرض قاتلة لا محالة، وهو يبدأ بأعراض آلام المعدة والتعرق الشديد ويقضي على الإنسان في 48 ساعة، كما أن الطاعون يظهر طوال المسلسل بين الفينة والأخرى، وهو ما يجعلنا، ونحن نعيش في ظل جائحة الكورونا، نفهم أن الأوبئة لم تختف تماماً من التاريخ البشري وأنها لا تلبث إلا وأن تعود بين الفينة والأخرى.
ينجح كل من السيناريو والممثل (جوناثان ريس مايرز) في عرض حياة هنري الثامن منذ أن كان ابن الـ18 عاماً وحتى عندما يصل إلى عمر الـ55 عاماً بعد حياة حافلة وغير عادية، يبدأ المسلسل بالشاب هنري الفتى الرياضي الأهوج المتهور، ففي حين يهندس الكاردينال (وولسي) معاهدة لندن الشهيرة لعام 1518، وهي معاهدة دولية مرموقة وتعد الأولى من نوعها بين الدول الأوروبية العظمى للسلام وعدم الاعتداء، وهي المعاهدة التي على الرغم من فشلها سريعاً بعد عدة أشهر، إلا أن المؤرخين يرون أنها كانت حجر الأساس لبداية التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، كان كل ما يشغل هنري وقتها هو العكس تماماً، أن يخوض حرباً كبيرة ضد فرنسا حتى يخلده التاريخ كما خلد (هنري الخامس) الذي انتصر في (معركة أجينكور) بسبعة آلاف محارب على ما يرنو الثلاثين ألف محارب فرنسي في عبقرية عسكرية غير مسبوقة، ومن حسن الحظ أن فيلم (The King) الذي عرض على شبكة نتفليكس في 2019 قد خلدها بصورة سينمائية بديعة، وهكذا يغير السيناريو مكان انعقاد المعاهدة في فرنسا بدلاً من لندن لكي نتابع كيف يتصرف هنري الثامن بسطحية واندفاع تتلاءم تماماً مع سنه في ذلك الوقت وهو ما يدفعه لدخول مباراة مصارعة مع ملك فرنسا بعدما أثار الأخير غيظه.
أكثر ما يثير الدهشة في سيناريو (مايكل هيرست) الذي كتب جميع حلقاته بنفسه من دون الاستعانة بفريق من الكُتاب كما هو متوقع إزاء عمل بهذه الضخامة، هو أن السيناريو لا يكتفي بسرد الأحداث، ولكنه قائم على المعايشة الدقيقة لكل قرار تتخذه جميع شخصيات المسلسل مهما كانت مساحة ظهورها على الشاشة، ودون أن تطغى واحدة على الأخرى، هناك منطق درامي واضح ودقيق لكل شخصية، حتى لو اضطر هيرست إلى عدم الالتزام بالدقة التاريخية في بعض التفاصيل الصغيرة، ولكن ذلك كان في المقام الأول ليتمكن المشاهد من المتابعة دون تشتت، وهو إنجاز ضخم وغير هين، خصوصاً عندما تعلم أن هناك أكثر من عشرة رجال حول الملك هنري الثامن اسمهم الأول (توماس)، ومع ذلك تستطيع كمشاهد متابعتهم جميعاً دون أي تخبط نظراً للمجهود الجبار من هيرست في جعل كل رجل متفرد وغير قابل للنسيان.
علاقة هنري الثامن بكل شخصية من الشخصيات مكتوب بعناية فائقة، علاقته مثلاً مع الكاتب (توماس مور) تذكرنا بالفيلم الرائع (Becket) المعروض عام 1964 والذي يحكي علاقة الملك (هنري الثاني) مع الراهب (توماس بيكيت)، كلا الملكين اعتبر الرجل الآخر صديقه وشقيقه الذي لم تلده أمه، وانتهى به الأمر إلى إعدامه في نهاية المطاف، وهي العلاقة التي ربما يشير إليها هيرست عندما يجعل الملك هنري الثامن يزور قبر توماس بيكيت قبل أن يتعرف على زوجته الخامسة (كاثرين هوارد)، وربما فقط للإشارة أنه سيقوم بإعدامها هي الأخرى كما أعدم زوجته الثانية آن بولين، وهو ما يقودنا للحديث عن علاقة هنري بزوجاته الست، فلكل واحدة منهن حالة مختلفة كل الاختلاف من قبل هنري، من الهوس والعشق الشديد إلى التحفظ والروتينية وحتى النفور التام والتي وصلت مرتين إلى الإعدام.
في خلفية الأحداث يعرض السيناريو أيضاً المناوشات العسكرية والسياسية بين ملك فرنسا (فرنسوا الأول) وإمبراطور إسبانيا (كارلوس الخامس)، والتي ستظل دائماً في الخلفية حتى تصبح في مقدمة الأحداث خلال الموسم الأخير عندما يقرر الكهل هنري الثامن تحقيق حلمه القديم بتقليد هنري الخامس في معركة أجينكور ويقود جيشه وبلاده إلى حصار مدينة بولون الفرنسية التي سينجح بالفعل في هدم أسوارها بالاستعانة بمهندس معارك إيطالي، وهو انتصار نعم ولكنه لم يكن كمعجزة أجينكور العسكرية، ومن قبل أن يعود إلى لندن للاحتفال بانتصاره حتى تفشل القيادة التي اختارها لحكم المدينة، والتي لن تلبث حتى تعود تحت سيادة العلم الفرنسي بسرعة، ربما لم يكن يعلم هنري الثامن أن ما فعله قبل ذلك كفيل وحده أن يجعله ليس فقط أشهر من الملك هنري الخامس، ولكن أشهر ملك حكم إنجلترا

ذو صلة