بات دور مخرجي المسرح في الوقت الراهن أكثر سعة وتعقيداً، بالنظر لوجود المدارس الإخراجية المتعددة والنصوص المسرحية الكثيرة التي تتطلب معرفتها دراسة وافية، ودخول التكنولوجيات والتقنيات في بنية العرض المسرحي. ومع تطور علم المسرح، شأنه شأن باقي العلوم الأخرى؛ توجب على المخرج مضاعفة جهوده من أجل الوصول إلى عتبات ذاك التطور على أقل تقدير.
من أجل ذلك فرض تعدد وتنوع المهام الإبداعية للمخرج أن يقابلها ثراء في القدرات الإبداعية عنده، فهي المهنة الأكثر احتياجاً إلى تنوع في المواهب. وإذا أراد الإنسان أن يكرس نفسه لهذا العمل المعقد فينبغي عليه أن يتمتع بالمواهب المناسبة من الطبيعة ولو بشكلها البدائي، بعد ذلك يستطيع تطوير الملكات الطبيعية بواسطة تمارين معينة للوصول إلى الحد الأدنى من العملية الإبداعية. فإن لم يكن الإنسان موهوباً بداية فلن يكون بمقدور أي مدرسة أن تساعده في ولادة أية مقدرة إخراجية! فالقدرات الإبداعية العامة للمخرج، هي ذاتها المطلوبة في كل أنواع الفنون، أهمها شعوره بحاجة ملحة للتعبير عما يجول في صدره، وترتبط هذه الحاجة بقدرته على إنماء مداركه بالأفكار والمشاعر والمشاهدات الحياتية بشكل مستمر.
ولأن المسرح هو إنتاج الحياة، وفي الوقت نفسه نتاج الحياة؛ توجب على المخرج أن يقدم على خشبة المسرح حياة قائمة بذاتها، حاملاً بعرضه جوهر الإنسان في حركته وصراعه وتشابكه، ولا يكتفي بالصراعات وتوتر الوجود من دون أن يؤثر في ذلك. لذلك، لا يملك المخرج الحق في بدء العمل على مسرحية إلا إذا أحس بحاجة ملحة لأن يقول رأيه الشخصي بالواقع الذي تعكسه المسرحية، باعتبار أن صدق وعمق مضمون رأيه، إضافة إلى الموهبة والحرفية؛ تضمن إخراج عرض مسرحي له قيمته، وهذا لا يتحقق ما لم يتمتع المخرج بأفق فلسفي وفكري واجتماعي وأدبي واسع، وبمعرفة عميقة متعددة الجوانب الحياتية.
إن المخرج مثله مثل أي مبدع آخر، يجب أن يتمتع بحس مرهف بعصره، وأن يدرك ويشعر بالحاجات الروحية لمعاصريه من البشر، فالفنان المتربع في برجه العاجي يجب ألا يتمنن على الجمهور بثمار إبداعه، وفي بعض الأحيان يحدث العكس حيث يتجلى هذا الموقف المرائي تجاه الجمهور في السعي البائس لإرضائه وفي محاولة التكيف مع الأذواق المنحطة للفئة المتخلفة منه. هذا وذاك سيان، لأن الفنان عندما يبدع مع الجمهور فإنه بهذا يبدع له ومن أجله ولكن دون تكبر أو مراءاة.
ولأن الإنسان هو المادة الأساسية للفن، ومغزاه وهدفه؛ تحتم على أي مبدع كان وعلى المخرج بشكل خاص أن يتمتع بملكة الإدراك المرهف للنفس البشرية، وبالقدرة على التغلغل العميق في الزوايا الحميمية للروح البشرية. ومن المعروف أن الممثل، هو المادة الأساسية لإبداع المخرج، أما هدف إبداع الممثل فهو إضفاء الروح الإنسانية على الشخصية التي يلعبها، ومهمة المخرج أن يوجه الممثل إلى الطريق الصحيح وأن يطور عنده العملية الإبداعية بشكل مستمر حتى يصل به إلى الهدف النهائي لهذه العملية وهو تقمص الشخصية بشكل عضوي. بناء عليه فإن الفهم العميق للنفس البشرية من قبل المخرج ينقسم إلى شقين: الأول فهم نفسية الممثل كإنسان وكفنان، والثاني نفسية الشخصية التي أسندها إلى الممثل. لهذا السبب لا يمكن أن يكون عمل المخرج كاملاً ومثمراً دون القدرة على التغلغل العميق في الروح البشرية. لذلك، توجب على المخرج أن يحمل المستوى الرفيع من التطور الفكري، والثقافة العامة الواسعة، ومعرفة الحياة من جوانبها المتعددة، والقدرة على استيعاب نتاج جميع أصناف الفنون الأخرى، والذوق الفني المرهف والحس الواسع بالحداثة، والفهم العميق للنفس البشرية.
هنالك ملكات خاصة يجب أن يمتلكها المخرج المسرحي على وجه التحديد، من أجل أن يكون حاضراً في المشهد المسرحي؛ فحدة الملاحظة تأتي على رأس القائمة، وإذا انعدمت، انعدمت معها معرفة الحياة، ودون معرفة الحياة لا وجود للإبداع أو الفن. الممثل فنه يقوم على استنساخ التصرف البشري وتقديمه على الخشبة، فالإنسان بجميع مظاهره يعتبر المادة الأساسية لملاحظة الممثل، وهو عندما يتتبع بملاحظته التصرف البشري فإنه يجند كل أعضاء حواسه الخمس مع إعطاء الأفضلية لحاستي البصر والسمع، فهو عندما يراقب تصرف إنسان ما فإنه لا بد وأن يحاول تقليد هذا التصرف ذهنياً على أقل تقدير وأن يلعبه، والإنسان الذي لا يملك القدرة على المراقبة لا يمكنه أن يكون ممثلاً. لهذا السبب فإن المخرج عندما يراقب الحياة فإنه مثله مثل الممثل، يركز اهتمامه على تصرفات البشر، كيف يسير الناس، كيف يجلسون، يأكلون، يتجادلون، يأمرون، يهددون، يراوغون ويموتون. يقول الدكتور جواد الأسدي في كتابه جماليات البروفة: (الممثل الممسوس هو صورة حية لكمية هائلة من مزج الأحلام بيقظة شيطانية مثمرة لصالح البروفات، بالنسبة لي ليس هناك أي شيء في العالم لم يخرج من البروفات، حتى عندما أمشي في الشارع فإني أتفرج على الناس بلذة ورغبة حقيقية بمراقبة حركة أيديهم، هذيانهم، إشاراتهم، كل ما يصدر منهم، كل هذا وغيره هو مفردات ما قبل وخلال وبعد البروفات).
لكن هنالك فرق جوهري بين الممثل والمخرج، فإذا كان الممثل يركز اهتمامه في الأغلب على تصرفات شخص معين؛ فإن المخرج طبقاً لمهمته الإبداعية يسعى لأن يطبع في ذاكرته مختلف أشكال هذه التصرفات. إن التعامل والصراع بين البشر هما المادة الأساسية لاهتمام المخرج الذي يراقب الحياة، إذ يتعين على المخرج إنشاء تيار متواصل من اللوحات الحية على خشبة المسرح عبر الانطباعات البصرية والسمعية التي خزنها في ذاكرته من خلال المراقبة، وكل عناصر هذه اللوحات ينبغي أن تتسق مع بعضها بعضاً، فمن أين يستمد المخرج المادة اللازمة لهذه اللوحات إن لم يكن من الحياة ذاتها؟
إن العرض المسرحي يتحول من بين أيدي مبدعيه ليصبح ملكاً لمشاهديه، فالجمهور يتلقى العمل المسرحي بحواسه فيكون من خلالها مشاركاً ومتأثراً، باعتبار أن المسرح فعل الممثل القادر على تجسيد صورة الإنسان الاجتماعي. من ذلك توجب على المخرج استخدام حواسه الخمس في عملية انغماسه في مراقبة العالم بكل تنوع أشكاله، فتراه يتحول من أجل هذا بالتناوب إلى رسام تارة وإلى نحات أو موسيقي تارة أخرى، وهذه الحواس يجب أن تكون في حالة جاهزية دائمة لتقبل الحياة بشكل نشيط. لهذا ينبغي على المخرج أن يتمتع بالقدرة على مراقبة الحياة بطريقة الممثل أيضاً، أي أن يكون قادراً على تمرير مادة المراقبة عبر ذاته وأن يعيد صياغتها إبداعياً بطريقة الممثل.
كما يعد الخيال وكذلك المخيلة، أمرين لا غنى للمخرج عنهما، وهما مرتبطان فيما بينهما ارتباطاً وثيقاً، إذ عندما يتطرق الحديث إليهما يتضح أن هاتين الكلمتين تعنيان في الواقع ظاهرة واحدة. والخيال هو تمثيل مجازي للواقع، أو تأويل له أو منح الواقع سعة عالية كفضاء مغلق يفتح آفاقه ومدياته الخيال، وربما يشكل الخيال ضرباً لقانونه وقيوده التي تحدد الإبداع وتسيجه، وقد يكون الخيال أساساً لكل إبداع بكونه يستظهر الجمال الذي قد لا نجده في الواقع، وقد قسم الإنجليزي كوليردج الخيال إلى قسمين: أولي يمتلكه عوام الناس، ومتطور يختص بالمبدعين والفنانين والشعراء وما على ذلك. إذ لا يمكن أن نتصور مخرجاً دون خيال غني يفرض بالتالي مخيلة قوية. لكن ما هو الخيال الإبداعي؟ إنه القدرة على توليف معطيات الخبرة طبقاً للمهمة الإبداعية. وهذا الاستنتاج يصلح لجميع أصناف الفنون ولجميع فروع العلم والتكنيك، فالتوليفات التي يخترعها الخيال، بدءاً من الواقعية كالتي يخترعها العالم، ووصولاً إلى أبعاده في الخيال كالتي يبدعها الفنان؛ تتألف دائماً من عناصر ومعطيات الخبرة والتجربة، إذ لا يمكن بتاتاً إنشاء توليفة خارج نطاق الخبرة، حتى ولو كان هذا يقتصر على بعض العناصر. فعروس البحر مثلاً لا وجود لها في الواقع، إنها كائن يتألف من جسد امرأة وذيل سمكة، وهما موجودان في الحياة الواقعية، لكن جمعهما بهذا الشكل العشوائي هو أمر غير خيالي. فالخيال يقوم بتوليف معطيات الخبرة والتجربة، لكن نشاطه لا يكون مثمراً إلا إذا اجتمع مع عمل المخيلة التي تجعل نتاج عمل الخيال مادة للتجربة الحسية، وإذا كان الخيال هو لعبة العقل فإن المخيلة هي لعبة المشاعر، وهما عمليتان لا تجريان كل على حدة، بل تجريان معاً في الوقت نفسه، تدعمان بعضهما بعضاً. محصلات الخيال تجرب في المخيلة تياراً متواصلاً كشريط سينمائي، والصور التي ينتجها العقل وأعضاء الحواس تتضافر مع بعضها بعضا وتتفاعل فيما بينها وتتداخل وتتمازج لدرجة يصبح معها من غير الممكن فصلها.
هكذا تجري عملية التفكير الإبداعي بشكل عام، لكن ما هي خاصية هذه العملية في فن الإخراج؟ أعضاء الحواس الخمس تشارك في عملية المراقبة الإخراجية وعملية التخيل الإخراجي على حد سواء، والصور التي يبتكرها خيال المخرج يراها الأخير في مخيلته، يسمعها، يلمسها، يشم رائحتها، بل ويتذوق طعمها أحياناً. لكن هذا لا يكفي، لأن المخرج يلجأ أيضاً إلى الفعل في مخيلته طبقاً لتلك الظروف التي يخلقها خياله، إنه يدفع جهازه العضلي في ذهنه إلى حالة النشاط ويمثل جميع شخصيات المسرحية التي يخرجها. بعد قيامه بهذا العمل فقط يتمكن من اجتذاب الممثلين بثمار خياله وقيادتهم بكل ثقة. يقول بروك: (من واجبات المخرج خلق فضاء للممثل تكون فيه العوائق غائبة، إنه يقوم بعمل البستاني الذي يقطع الأعشاب الميتة من الأرض).
ومن القدرات الإبداعية المهمة أيضاً للمخرج المسرحي: الإحساس بالزمان والإحساس بالمكان في اجتماعهما الديناميكي ووحدتهما، هاتان القدرتان مرتبطتان بخصوصية خيال ومخيلة المخرج لإعادة تصوير الحياة في حركتها المستمرة وسيل الأشكال المتبدلة فيها. ويرتبط بهذا أيضاً الإحساس بالإيقاع الذي يتمتع بأهمية كبرى في فن المخرج، لأن أي عمل يقوم به الإنسان أو مجموعة من البشر له إيقاع محدد، فهو يجري بسرعة معينة وبوتيرة محددة، وهو مرتبط بتوتر عضلي وطاقة عصبية معينة، وله شكل محدد نابع من متغيرات السرعة وقوة الحركات التي يتألف منها. والإيقاع حس فطري يمكن تنميته وتطويره بالمعرفة والتجربة، وهو واحد من مقومات التجربة الإبداعية واشتراطاتها في الفن عامة والمسرح على وجه الخصوص، لما يمتاز به هذا الفن من تداخل العناصر السمعية والبصرية في منظومة العرض وصعوبة السيطرة عليهما وعلى تحديد وضبط مدياتهما بغرض خلق توازن جمالي بينهما، وكذلك إلى الآنية والمباشرة التي تحكم عملية التلقي، وهذا ما يفسر ندرة المخرجين المبدعين وتميزهم. فالإيقاع لا يقتصر على الحركات الفيزيولوجية للإنسان، بل ينسحب أيضاً على حياته النفسية عبر تتابع الأفكار في إيقاع محدد، تظهر الأحاسيس ثم تنمو وبعد ذلك تتلاشى. وهنا لكل إنسان إيقاعه الخاص به الذي تجري فيه حياته البدنية والروحية، ولكل أمة من الأمم إيقاعها الخاص، لكل بلد، لكل مدينة، لكل مكان من أماكن العمل، لكل حادث، لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، باختصار: كل ما هو مرتبط بالحركة الخارجية أو الداخلية له إيقاعه الخاص به، وبالتالي، كل ما يحدث على المسرح يجب أن يكون له إيقاع خاص به، يجب أن يكون هناك إيقاع لكل حوار، لكل حدث، لكل جزء من الحياة على خشبة المسرح، لكل بطل، لكل حركة من حركات هذا البطل، كل هذه الإيقاعات المنفردة تتضافر وتتفاعل وتتجمع مشكلة إيقاع العرض المسرحي، ومهمة المخرج تتركز في إيجاد تلك الإيقاعات والإحساس بها، معايشتها وجمعها في تيار واحد متواصل للحياة المسرحية، ومن ثم تحقيقها من خلال الممثلين بصورة نحصل معها على الشكل الإيقاعي الدقيق للعرض المسرحي المرتبط بمضمونه وجمهوره. يقول بيتر بروك: (يبدأ العرض بإيقاع معين، في حين أن الجمهور يكون في إيقاع لا يشبه بالضرورة إيقاع العرض، وحينما نحضر عرضاً فاشلاً، نرى أن الممثلين في إيقاع والجمهور ما يزال في إيقاعه المختلف).
ختاماً: تعكس العملية الإبداعية التجربة الإنسانية في صورة شديدة التركيز، تحمل عناصر الغرابة والمفاجأة والاختلاف والتمايز في أسلوب التفكير وتداعي الأفكار وارتباطها ببعضها، وهو ما يتحدى ذهن المتلقي ليذهب إلى التعرف على معناها. ولأن العملية الإبداعية تنزع إلى تجاوز المألوف وتتصف بقدرة تخطي الذات والتحرر من النظرة الجامدة، وتسعى إلى التفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والأشكال؛ فإن تكوين الظروف المثالية والمواتية للنشاط الإبداعي الناجح، هو الهدف الأسمى من تربية القدرات المهنية لدى المخرج، عبر تربية القدرات الأساسية الشاملة.