اثنا عشر عاماً على غياب محمود درويش، ولم يغب؛ لأن الرجل لم يحضر كرائحة كولونيا لا تلبث أن تغيب، بقي صوته كصوت طفل، صوت طازج، يملأ الرؤوس بفكرة تعلم المشي في الحياة، لا أمام المرآة. ترك يده بالعالم، بعد أن غاب حيث لا عسر ولا يسر، حيث يقع الاثنان في المعنى الكامل، لمَّا يلتقيان. لم يقدم الرجل النحيل الأنيق جملة ضريرة، إذ ترك جملاً مشاءة، ضمنت نفسها براكين من الأحاسيس. هذا رجل ساحر بالشعر، لا رجل مسحور بالشعر.
رجل لم يغالب حضور المسرح في شعره؛ لأن في شعره مسرح الشعر، وفي مسرح شعره شعر لا يستيقظ على الكلاسيكية ولا ينام على الحداثة. شعر التفعيلة في شعر محمود درويش، لا يشتم المارة في الشعرين، يحييهما قبل أن يجلسهما على دكة شعره، شعره ميزان بين الشعرين، شعر خاص كموسيقى الزنوج. هذا رجل لا إخوة له؛ لأنه لا يمهل الحرائق لتشتعل بالشعر. لا ديوان مجرد أوراق: مديح الظل العالي، لماذا تركت الحصان وحيداً؟ حبيبتي تنهض من نومها، الجدارية، سرير رقم 7.. والدواوين الأخرى. كل ديوان واجهة شعرية، كل قصيدة خرافة أو رأس خرافة، لا تعرف بقيتها إلا بعد نهاية الحريق باليد الكاتبة.
لم يقع محمود درويش في وصف الأفعال، كالعفة والعادة والزواج والإجهاض والجلوس في صالات السينما. ثم إن شعره، لا يلائم شعر الملاحم؛ لأن الملحمة اعتقادٌ عنده. وإذا أراد الاستفادة من تقاليد الإلقاء، وجد يتلو الحاجة إلى الكتابة لا الكتابة، ليترك خلفه دخاناً كثيفاً من دخان الشعر. ذلك أن محمود درويش منشدٌ، طالما أملى على الضجر الحيوية. لا ضرورة لسؤال بشر الأجيال ولا رجال الإسعاف في سياراتهم الطائرة فوق سواري الطرقات الخفية. إنشاد مسرحي، غناء مسرحي؛ هذه ليست من مزايا محمود درويش، هذه روحه الأولى، لا روحه الأخرى، روح ذات رفعة لا تتكرر، روحُ سلطانٍ على فرس مطهمة تخب في صالون قصر أو في مكاتب صحيفة. درويش ذو الوعي المفروض منه، فوق الحضور والكلام، فوق الكتابة الهادئة، بلغة لا تقف بين سيدتين. لأن اللغة سيدة قصيدة درويش. لغة أنيقة، حرة، حية، حيوية، تعلق الثلج على النار، حين تلمس بدون أن ترى. شعر يضمر ولا يضمر الشعر. لا يرسم الأمر فجوة بين الشاعر وبين الناس، بين الجلد وبين الأرض، بين الروح وبين التراب.
بقي محمود درويش بأقدام شعر تمشي وبجسد في نبات، شعر لا علاقة له بالعكاز. شعر بلا أعطاب وأعطال، شعر يسقط الأمر الواقع من الأمر الواقع حين يُقرأ: (أنا لا شيء يعجبني، أحاصر دائماً شبحاً يحاصرني). شعر يأكل العظام، شعر تسوقه الوعول، شعر حريف، شعر حريق لا يهمه الحذر ولا الرصاص. رجلٌ بذهن هائج وحضور هادئ، ومزاج هَرم. ولأنه لم يترك خلفه قصاصات شعر، نط خلفه الآلاف، جاؤوه على أجنحة الخيال، محاطين بالنوم وأحلام أن يستريحوا في ظله. هكذا، اختار الأرستقراطي المساحات الشاغرة للهرب من أسباب الانطفاء. شعر بأثر الفراشة لا يعتذر عما فعل في حضرة الغياب.
فر محمود درويش من حرف الميم إلى الألف، أول الحروف في أول الكلام، بالبدء الكلام، الشعر أول الكلام عند العرب. هذا ليس من مواضيع الفن المقدس وحده، ولا من مواضيع المشايخ أو القسس، ولو أن درويش شيخ طريقة في الشعر، طريقة لا تخونها القطارات ولا أصوات القطارات. لم يقع شعر درويش في ظلام التشابه ولا في اللطف، شعر شقي، غير شعر شقاوة، شعره شقي، شعره شعر شقاوة (خوف الغزاة من الذكريات على هذه الأرض ما يستحق الحياة / هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين). متمرد على الفرق والبرامج والرحلات المدفوعة التكاليف. مدونات بكلمات الرب على طاولات الخصام.
لم يحظ أحدٌ باستعراض أثيري لتجربة محمود درويش سوى شعره المحشود بلمحات عالم الجن، ذوبان في كاسات الشاعر الدقيق، من كروم الشعر المخطوطة من العناقيد المنداة، عناقيد ثقيلة بماء العناقيد، مدلاة على الواقع والواقعية، على الفصاحة بدون تفاصح. فصاحة من طبيعة الكلام، بعيداً من كتابة البريد وكتابة الرسائل (بواقعيتها البسيطة وفصاحتها الطبيعية). عناقيد ضد القحط، ضد الحاجة: (بحر لأيلول الجديد/ خريفنا يدنو من الأبواب/بحر للنشيد المر/ هيأنا لبيروت القصيدة كلها / بحر لمنتصف النهار/ بحر لرايات الحمام/ لظلنا) .
لا أروي، إلا لأنني أعرف الرجل. رجل لا يبادل العتاب مع أحد، وهو يخرج من لمة الفضوليين، ممن يدّعون الانتماء إلى حرارة العولمة والحداثة وما بعد الحداثة. لم يقس درويش شعره على أسرار المقولات (الجديدة)؛ لأنه كاتب مزاج بدرجة وكاتب إستراتيجيا شعرية بدرجة. واقعي يفرغ الشعر في قميص الشعر الواسع، شعر على خطوط تماس الشعر على الدوام. شاعر جدل لا مجادلة، وهو يمضي إلى سماوات الشعر، سموات لا تحصى. لا بأس في أن يجيء ثانية، حين لن يترك يديه للخوف. هكذا مضى إلى موته أو إلى مجيئه الثاني بعد أن قرر أن من الخطأ عدم إجراء عملية بالقلب، قلب محروث بالأوجاع وفؤوس بشر لا تفهم معنى الأوجاع، لأنها لا تفهم معنى الشعر. قرر أنه من الخطأ عدم إجراء عملية بالقلب، لمَّا وجد معظم الأطباء أن ثمة خطأ كبيراً في الذهاب إلى البنج والنوم وظلام المناطق الحرة بالحياة. لم يخشَ الموت، إذ واجهه طويلاً في فلسطين وبيروت. أقام بالأخيرة طويلاً، أقام في حصارها، لكي لا يتحول إلى سلف بائد بلا قتال. حين وجدته في شارع الحمراء، عند المركز الثقافي العراقي، وجدته أبعد من قصائده وهو يذوق ضحك الموتى على الخسارة القريبة بدون ندم. لم ينسَ أقدامه بالهواء وهو يقف خفيفاً كالهواء. وحين تكلم بان صدقه بالنوايا، بان صدقه مع النوايا. نظيف، خفيف، واضح كثيراً، بضحكة رسمها بالأناقة على عينين زرعتا بالنضج في زمن الحصار الثقيل. حين مضى جسوراً، ترك ضحكته بين يدي. أدركت إذ ذاك أن قراره بأن يشيخ، بأن يموت في بيروت جزء من ملحمة قصيدته، جزء من رواق الحال لديه. رجل كشعره، رجل لا علاقة له بالهشاشة، يكتب شعراً لا علاقة له بالهشاشة، رجل يصوب عميقاً بشعر عميق، رجل لا يحب أن يلعب دور الطريدة ولا دور المسطول بالصور بالأسود والأبيض وبالصور الملونة. بقاؤه في بيروت جزء من ملحمته الشعرية، موته الموضب جزء من ملحمته الشعرية، ساعات اختباره الدائمة جزء من ملحمته الشعرية. وهو الملحمي، قصد صحيفة (السفير) بقصائده اليدوية وكأنه أي شاعر إلا محمود درويش. قصائد بلا ثقوب، قصائد بالكثير من الأملاح وبدون ضجيج. المرأة في شعري ليست راية، قال أمامي ذات يوم. الأرض في شعري ليست امرأة دوماً، قال أمامي ذات اليوم. شاعر مناهض لآلهة الإغريق، حيث الآلهة تتنافس بأحمالها الزاهية/ القاتلة من الومضات، لن يرضى إله بالآخر، لن يرضى بآلهة الإغريق، حيث ما وجد في مداها إلا الفوضى والسياسات ذات الأفكار التقليدية. محمود درويش رفيع الحضور لا متشاوف، لم يرضَ بأحد، عرَج ودار، بعدها وسَّع حضوره بيديه، كآلهة المزروعات المدروزة الحضور بكتب الرب. لم يعش الرجل إلا على المنافسة الحرة بينه وبين نفسه. لم يرضع حليب ذئبة، لأن في شعره قطعان من الذئاب الإناث والذكور. لا تفسير، لأن أفعال محمود درويش لا تفسر، كوكب من التناقض. لا يصطنع الطيبة ولا التجاوب. بربريٌ ، بطبعة واحدة، عاش على شيء في القوة والقوة بالإرادة، عاش ذلك وهو يعتبر أن الحق والباطل فيه، ماء مطوفة على أرض صلبة. لم يَخْشَ الوحل أو فقدان الاسم أو العنوان الواحد الأكيد: فلسطين. راح يردد منذ البداية بصوت الملك لير: أن لا شيء سوى النهاية. الطيران فوق سواحل الموت، نذير بالموت/البشارة عند من أراد، دائماً، أن تُمهد الأرض، حتى يستريح. هذا الرجل: اثنا عشر كوكباً، كل كوكب يصب السم بالأذن. بيروت خيمتنا قال، بيروت نجمتنا قال، بعد أن عاد إلى بيروت، لأنه لم يشفَ من أمراض بيروت الخبيثة، من حب بيروت، حب لا شفاء منه، حب لا أمل فيه، جراد العمر في بيروت، الحياة والموت، الحب والشعر، الرصاص والصور واختيار واختبار اللقطات. كل شيء في بيروت، لأن بيروت كل شيء. بيروت ديدمونته بعيداً عن جاذبية أياغو . شاعر العلقم، علقم الرحلات الصعبة والإقامات المستحيلة. كلما مت، انتبهت، ولدت ثانية وعدت، من الغياب إلى الغياب. شاعر قال ما قال، لا يموت. شاعر يعيد الألق إلى أول السطر، بيد الموناليزا.
اثنا عشر عاماً على الغياب، اثنا عشر عاماً على الموت (9آب2008). لأنه لم يكسر الصحون، لأنه انتصر على الموت بالفنون.