مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الـ ق.ق.ج: (وفيَّ انطوى العالم الأكبر)!

أُصِبْتُ قبل سنواتٍ بفيروس خطيرٍ في عيني اليمنى، ووصف لي أحد الأطباء بمدينتي بالطائف علاجاً مضاداً لهذا الفيروس بجرعاتٍ عاليّةٍ كادت تصيبني بفشلٍ كلويٍّ لولا أن تداركتني رحمة الله، وحُوِلْتُ إلى مستشفى الملك خالد للعيون بالرياض، وهناك وُضِعْتُ تحت الملاحظة التَّامة، وتولى طبيب باطنيّة لبناني الأصل -فيما بدا لي من لهجته- متابعة وضع الكلى لديَّ، وخفف لي جرعة المضاد الفيروسي من أربع حبّات في اليوم إلى حبّةٍ واحدةٍ فقط، ونجح الأمر، ووقف انتشار الفيروس، من دون إضرارٍ بالكلى.
وقال لي حينها هذا الطبيب مازحاً: (من قال إن حبّة البطيخ لابد أن تكون كبيرةً لتكون حمراء وحاليّة الطعم؟)، وأضاف ضاحكاً: (يمكن أن تكون البطيخة الصغيرة أيضاً حمراء وحلوة)! ولكن ما علاقة هذه الحكاية الاستهلاليَّة بموضوعنا هذا؟
القصَّة القصيرة جداً المعروفة اختصاراً بـ(ق.ق.ج) هي أشبه بحبَّة البطيخ الصغيرة الحمراء الحالية التي تحتوي معظم -إن لم يكن كلَّ- السمات والمميزات الموجودة في حبّات البطيخ الكبيرة وأعني بها هنا: (الرواية) و(القصَّة القصيرة)، وغيرهما. وقد تفوق حبّة البطيخ الصغيرة شقيقاتها الكبيرات برخص ثمنها، وسهولة حملها، وتوفر مكانٍ تحفظ فيه في براد/ ثلاجة البيت ونحو ذلك. ولا يعني هذا بحالٍ من الأحوال أنَّ القصَّة القصيرة جداً أتت لتحلَّ محلَّ القصَّة القصيرة أو الرواية أو أيِّ لون أدبيٍّ فلكلٍ لونٍ نكهته وعشَّاقه ومجاله، وامتدادات آفاقه التي لا ينازعه فيها غيره، فكما أنَّ للسوبر ماركت الضخم زبائنه، فللبقالة الصغيرة أيضاً عملاؤها.
غير أنَّه ما من شكٍّ في أنَّ بوسع الـ ق.ق.ج. إيصال رسائل عميقةٍ، وعواطف إنسانيّةٍ في عددٍ قليلٍ من الكلماتٍ متى ما كُتِبَت بمهارةٍ وحرفيَّة، مستعيضةً عن نقص الكلمات بتقنيات التكثيف وتوظيف الصورة وخلق المفارقة المدهشة، معوِّلةً على مشاركة القارئ كاتب النص في إكمال فجواته المتروكة عمداً من خلال تفعيل خياله وتنشيط تفكيره بالتأمل والتدبر وسبر ما وراء الكلمات والصور والمفارقة من دلالاتٍ ومعانٍ يتردد صداها بذهن قارئها في مناحٍ مختلفةٍ من الحياة.
والقصَّة القصيرة جداً تتناغم مع أسلوب الحياة العصريّة السريع، وتتماشى مع إيقاعها اللاهث نحو الجيَّد حيناً، والرديء في كثيرٍ من الأحيان، وما التغريدة في برنامج التواصل الاجتماعي الأكثر شهرةً حول العالم (تويتر) المحدودة بمئة وأربعين حرفاً فقط إلّا شاهد عدلٍ على ما ذكرت.
 يقول القاص الفنزويلي: لويس بريتو غارسيا: (إنَّنا نمر بسرعةٍ من دراما الكتاكالي التي يدوم عرضها ثلاثة أيامٍ، إلى التراجيديا الإغريقيَّة التي تستمر ليلةً كاملةً، إلى الأوبرا التي تستغرق خمس ساعاتٍ، إلى الفيلم الذي يدوم ساعةً ونصف، إلى حلقة المسلسل من عشرين دقيقةٍ، إلى الفيديو كليب من خمس دقائق، إلى الوصلة الإشهارية (الإعلانية) من عشرين ثانيةٍ، ثم القصة القصيرة جداً من ثانيةٍ واحدةٍ).
وما هذه النقلات المدهشة إلَّا تماهياً مع الأسلوب الذي يفرضه الظرف الزماني على الناس. وفي هذا -التماهي مع العصر أقصد- ردٌ على من يزعم أنَّ القصَّة القصيرة جداً لا تعد فنّاً لأن العرب قديماً لم يصنفوها جنساً أدبيّاً مستقلاً، ولم يمنحوها اسماً محدداً رغم أنَّهم عرفوها في الطرائف والملح والتواقيع ونحو ذلك.
العالم اليوم ينحو بشكلٍ لافتٍ نحو القِصَرِ والصِغَرِ في صناعاته المختلفة، وتقنية (النانو) تَعِدُ الحياة الإنسانيَّة بمزيدٍ من الرفاهية والراحة والرعاية الطبيّة وخلافه، وهي تقنية توظف الصغر وتستثمره أيَّما استثمارٍ، وشرائح الجوالات والحواسيب التي تتسع لمليارات من البيانات من ثمار هذه التقنية على سبيل المثال لا الحصر. كما أن تزايد أعداد البشر في كثيرٍ من أنحاء المعمورة جعل من صغر السيارات والبيوت والمكاتب والأدوات والآلات وغيرها من الاحتياجات الإنسانيّة المختلفة مطلباً ملحّاً، وضربة لازمٍ.
 ومكابرٌ من ينكر أنَّ قلة عدد كلمات القصّة القصيرة جداً أغرى كثيرين بكتابتها وهماً منهم أنَّها سهلةٌ يسيرةٌ، فامتلأ مشهدها بغثاءٍ كغثاء السيل، ولكن النقَّاد والمهتمين يعولون على أن الزمن وحده كفيلٌ بالانتصار للإبداع الحقيقي وتخليده ولو بعد حينٍ، أمَّا ما سواه فَسَيُلقَى في مهملة تتسع لكلِّ سطحيٍّ ورديء. ونستأنس هنا بطرفةٍ تروى عن العقاد رحمه الله تعالى إذ يقال إنَّه كتب رسالة مطولةً لأحد أصدقائه ذيَّلها باعتذارٍ عن طولها قال فيها: (عذراً عن طول الرسالة. ليس لديَّ وقت للاختصار). وإذا كان العقاد لم يجد وقتاً لاختصار رسالة عاديّةٍ، فكيف يجرؤ بعضهم على تجاوز مقتضيات القصَّة القصيرة جداً من تكثيفٍ واختزالٍ وبحثٍ مضنٍ عن فكرةٍ خلَّاقةٍ غير مستهلكةٍ ذات رسالةٍ تستوحى، كما أنَّها وثيقة الصِّلة بالعنوان الذي يشي ولا يفضح، وكلُّ هذا وغيره في نَصٍّ فقير اللفظ مشبع المعنى يختتم بمفارقةٍ تصنع الفرق بين مسار متوقعٍ غير متحققٍ، وآخر واقعٍ حقّاً! (ليت قومي يعلمون) أن النص الإبداعيِّ الذي يُقْرَأ في ثوانٍ معدودةٍ يحتاج إلى أيامٍ وأحياناً أسابيع من الزمن لمراجعته وتدقيقه وإعادة تحريره مرةً تلو أخرى.
 ختاماً في القصَّص القصيرة جدّاً المخدومة تأليفاً وتحريراً بحرفيّةٍ وفنٍ ناتجان عن مهارةٍ صُقِلَتْ جيداً بالدربة والممارسة والقراءة المكثَّفة والاطلاع المستمر على نتاجاتٍ أخر، يجد القراء المتعة والجمال والفائدة، كما يجدون ومضاتٍ شعريّةٍ وشاعريّة، وصورٍ بلاغيّةٍ، ورضعاتٍ تاماتٍ مُشْبِعَاتٍ من قيمٍ وثيمات إنسانيّةٍ باقتدارٍ، ويحظون بسردٍ راقٍ، وحدثٍ منتقى ونهايةٍ مفتوحةٍ في الغالب. هذا المزيج يحفزهم ويحرضهم على إعمال خيالاتهم، ومعايشة النصوص فكراً واستبصاراً، وتلك لعمري واحدةٌ من غايات الأدب العظيم حقّاً.
 ولهذا كلّه وكثيرٍ غيره حُقَّ للقصَّة القصيرة جداً أن تستشهد ببيت الشعر الذي ينسب إلى سيدنا علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه إذ يقول فيه:
 (وتحسب أنّك جِرمٌ صغير
 وفيك انطوى العالم الأكبر)!

ذو صلة