نالت الكاتبة والروائية البريطانية (فيليبا جريجوري) شهرتها بعد اقتباس روايتها (فتاة بولين الأخرى) إلى فيلم سينمائي، بالاسم نفسه (2008). صحيح أن الرواية قد اقتبست من قبل في فيلم تليفزيوني عام 2003، ولكن شهرة الفيلم الثاني أتت من النجوم الذين لعبوا الأدوار الرئيسة (سكارليت جوهانسن) و(نتالي بورتمان). كانت الرواية هي الثالثة في سلسلة تسمى (بلاط تيودور)، وهي سلسلة أدبية صدر منها ثماني روايات، تتناول حقبة تيودور التاريخية، إذ بدأت بهنري تيودور الذي أصبح اسمه بعد تولي الحكم (هنري السابع)، حتى الملكة (إليزابيث الأولى). بيد أن الكاتبة لم تنل الشهرة نفسها في العالم العربي، ولم تترجم أعمالها إلى اللغة العربية حتى الآن. وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في أدب القرن الثامن عشر، ومعظم رواياتها التاريخية تتمحور حول الحقبة الأكثر إثارة في التاريخ الإنجليزي، تلك التي ألهمت الفنانين والكتاب عبر العصور بمئات الأعمال المختلفة، وهي الحقبة التي تغطي حرب الوردتين وحكم أسرة تيودور.
أتت ثمار شهرة فيليبا جريجوري بأن تعاقدت معها شبكة Starz التليفزيونية الأمريكية لإنتاج ثلاثة مسلسلات مقتبسة عن روايتها. أحدث هذه المسلسلات هو مسلسل (الأميرة الإسبانية) عام 2019، وهو المقتبس عن روايتها (The Constant Princess) أو الأميرة الثابتة، وهو يتناول حياة الملكة (كاثرين من أراجون) الزوجة الأولى للملك (هنري الثامن) الذي بسبب رغبته في الطلاق منها أدى ذلك إلى انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية، وتبع ذلك الإصلاح الإنجليزي وغير مسار التاريخ الأوروبي الحديث. والمسلسل الأسبق قبلها بعامين هو (The White Princess) أو الأميرة البيضاء والمقتبس عن رواية بنفس الاسم، ويتناول حياة الملكة (إليزابيث يورك) زوجة الملك هنري السابع.
قبلها بأربعة أعوام في 2013 بدأت باكورة التعاون بينهما بمسلسل (The White Queen) وهو مقتبس من ثلاث روايات ضمن سلسلة أدبية باسم (The Cousins War) أو حرب أبناء العم، والثلاث روايات هي: (الملكة البيضاء) و(الملكة الحمراء) و(ابنة صانع الملوك).
رواية الملكة البيضاء تتناول حياة (إليزابيث وودفيل) التي أصبحت الملكة إليزابيث ملكة إنجلترا بعد زواجها من الملك إدوارد الرابع إبان انتزاعه العرش من الملك هنري السادس الذي كان يعاني من خلل عقلي جعله غير مؤهل للحكم، أما رواية الملكة الحمراء فتتناول شخصية الليدي (مارغريت بوفورت) والدة الملك هنري السابع، والرواية الثالثة هي رواية ابنة صانع الملوك التي تتناول حياة (آن نيفيل) التي ستصبح ملكة إنجلترا بعد وصول زوجها ريتشارد الثالث إلى السلطة بعد وفاة شقيقه إدوارد الرابع.
وكما هو ملاحظ فحياة الثلاث نساء مترابطة ومتداخلة بين بعضها البعض، ومن هنا جاء القرار باقتباس الثلاث روايات معاً في مسلسل واحد بدلاً من ثلاثة مسلسلات، وهو ما تطلّب معالجة دقيقة لسيناريو يستطيع أن يستوعب الشخصيات الثلاثة معاً دون أن تطغى واحدة على الأخرى. ومن جهة أخرى كانت هناك صعوبة في أن يظل السيناريو جذاباً ويشد الانتباه على طول الخط، فربما لا تثير إحدى الشخصيات اهتمام المشاهد بنفس مقدار الشخصية الأخرى، أما الصعوبة الثانية فكانت ضرورة سرد الأحداث بشكل طبيعي بدون عرقلة يمكن أن تتسبب في إحداث بلبلة في استيعاب المشاهد للأحداث، وهنا يمكن القول إن السيناريو لم يقع في تلك الأفخاخ، وتمكن بمهارة حقيقة أن يجعل المشاهد يتلقى العمل كما لو كان مكتوباً مباشرة إلى الشاشة.
أهمية المسلسل تأتي من كونه يناقش حرب الوردتين من منظور جديد نسبياً على الأدب، وهو منظور النساء اللاتي شاركن بفاعلية في صنع أحداثه، عادة الأعمال التي تتناول نفس الحقبة تركز كل منظورها على الملوك الثلاثة هنري السادس وإدوارد الرابع وريتشارد الثالث أكثر من بقية الشخصيات، هذا المسلسل يفعل العكس، يقدم الحرب السرية بين (جاكيتا من لوكسمبورغ) أم الملكة إليزابيث وبين صانع الملوك (ريتشارد نيفيل) الذي كان يعد زواجاً سياسياً لإدوارد الرابع من أميرة فرنسية، قبل أن ينقلب إدوارد عليه ويعلن زواجه الرسمي من إليزابيث، ومن هنا سعت عائلة وودفيل إلى تعزيز نفوذها وأملاكها بسلسلة من الزيجات من الأمراء والأثرياء وهو ما أفسد خطط نيفيل الذي كان يسعى هو الآخر لزيجات بناته من نفس الأشخاص، حتى ينجح في تزويج ابنته آن من الملك المستقبلي ريتشارد الثالث.
والحقيقة أنه من المنطقي أن تكون جاكيتا الأم هي المحرك الحقيقي لتلك المساعي، حيث أن الملكة التي كان يطلق عليها (أجمل امرأة في الجزيرة البريطانية) كانت شبه متفرغة لإنجاب ولي العهد، حيث أنجبت عشرة أبناء في سنوات حكم زوجها التي امتدت عشرة أعوام، بالإضافة إلى أداء بعض الواجبات الملكية الرسمية والطقوس الدينية في تلك الفترة، ويبدو أن جاكيتا كانت تملك مهارات اجتماعية مدهشة سهلت مهمتها إلى أقصى حد ممكن، ولم يجد أعداؤها عذراً لإزاحتها من طريقهم سوى اتهامها بالسحر، وهي التهمة الأسهل والتي لاحقت العديد من النساء من بين تهم أخرى كالهرطقة.. إلخ، وبالرغم من أنه قد تم تبرئتها من تلك التهمة، إلا أن فيليبا أرادت أن تستفيد درامياً من تلك التفصيلة وجعلتها ساحرة بالفعل!
ترى فيليبا ككاتبة نسوية أن عصر الكتابة عن النساء كأميرات جميلات ينتظرن الفارس المغوار ليحررهن ويحقق أحلامهن قد أضرت بصورة المرأة ودورها في المجتمع، وهي من المنظور النسوي محقة في ذلك، ولكنها ذهبت تحت تلك الدعوة إلى طريق يخالف المنظور التقدمي الذي لا ينفصل عن النسوية، فبدلاً من أن تنبذ الفكر الخرافي الذي غلف العصور الوسطى، جعلت من جاكيتا ساحرة لا يشق لها غبار، فهي من تقرر جنس المولود القادم لابنتها، وهي من تتحكم في الطبيعة وتثير العواصف البحرية لتضرب سفينة غرمائها، لمجرد أن تكون شخصية (فاعلة) في الأحداث. من ناحية أخرى ففيليبا تقدم المرأة من منظورها النسوي كشخصية ساعية للسلطة مهما تطلب ذلك من خراب ودماء كما في شخصية مارغريت بوفورت التي تبذل الغالي والنفيس لتضع ابنها على عرش إنجلترا، وهو ما يخالف طبيعة الأنوثة منذ أن وعى الإنسان لنفسه، وجعل من المرأة رمزاً للعطاء والحياة والاستقرار، بل وصل إلى تقديسها وتأليهها في الحضارات القديمة ما قبل التوحيد، والتاريخ نفسه يشهد أن معظم الملكات اللاتي وصلن لسدة الحكم كان عصرهن رمزاً للاستقرار وازدهار الفنون والثقافة، والأمر ليس ببعيد فحفيدة هنري السابع نفسه الملكة إليزابيث الأولى قد كانت بذات الوصف، ومن هنا يمكن القول إن نسوية الأفعال التي تبنتها فيليبا لم تخدم قضيتها كما كانت تتوقع.
جدير بالملاحظة أيضاً أن فيليبا قدمت صورة لريتشارد الثالث على النقيض بشكل كامل من ريتشارد شكسبير، فالأخير جعل منه وحشاً في صورة إنسان، أحدب وأعرج قبيح الوجه كريه الطباع، لا يعرف للرحمة سبيلاً، فقد قتل أبناء أخيه ليصل إلى الحكم، ومن قبل ذلك صنع فتنة مع شقيقه، قتل على إثرها إدوارد جورج، وتزوج امرأة لا تحبه، وطغى في الحكم حتى قُتل في المعركة؛ أما ريتشارد هنا هو المعنى المعاكس تماماً لكل ما سبق، فهو رجل وسيم.. رياضي.. تزوج آن بعد قصة حب كبيرة، كل علاقته بأميري البرج هو رغبته في حمايتهما، حتى أنه لم يشارك أبداً في مقتلهما، ومن حوله هم من أقنعوه بضرورة تحريك البرلمان لإبطال شرعية زواج أخيه إدوارد وعدم شرعية أبنائه، وكان مثالياً في الحكم وشجاعاً في الحرب ونبيلاً في الخصومة، والسر وراء ذلك هو نفس منهجية فيليبا في جعل النساء هن الفاعلات مع تنحية الرجال قدر الإمكان عن دائرة الفعل، ففي وجهة نظر فيليبا أن مقتل أميري البرج هو مؤامرة ضخمة من مارغريت بوفورت حتى تسقط شرعية ريتشارد الثالث مما سيمهد الطريق أمام ابنها هنري لتولي الحكم، مما يعني أنها في سبيل ذلك لن تتوانى حتى عن قتل الأطفال!
تلك النقطة التي تخص الفاعلية الدرامية المؤثرة في الأحداث انتهجتها فيليبا حتى في أشد أحداث المسلسل ذكورية، في الحرب نفسها، فبدلاً من أن تكون الخطط العسكرية والاستعدادات القتالية هي ما يحسم المعارك، فالأمر هنا مرهون بين أعمال جاكيتا السحرية وصلوات النساء في مخادعهن، بل وتحالفات مارغريت بوفورت السرية مع قادة الجيوش، وكأن الرجال في حرب الوردتين لم يكونوا أكثر من مجرد دمى تحركها النساء بدهاء أنثوي لا يمكن مجاراته، تلك الرغبة النسوية في تصدير البطولة المطلقة للمرأة وتهميش الرجل في انتقام بأثر رجعي من تهميش طال المرأة في العقود السابقة؛ أفقد العمل توازنه في عدة مواضع، وكانت الأحداث في حاجة إلى رؤية (إنسانية) في المقام الأول، بعيداً عن المعارك الجندرية، لترصد ذلك التاريخ الحساس لتلك الحقبة، وإن كان ذلك لا ينفي بالطبع طزاجة المنظور الذي تقدمه مؤلفة العمل.
إحدى الشخصيات المؤثرة أيضاً في المسلسل هي (مارغريت أنجو) أو الملكة مارغريت زوجة الملك هنري السادس، والتي كان بالفعل لها كبير الأثر والتأثير على أحداث حرب الوردتين التاريخية، كانت مارجريت مصممة على استعادة ميراث ابنها وهربت معه إلى فرنسا، ومن خلال ابن عمها الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا، صنعت صفقة مع ريتشارد نيفيل، الذي كان يسعى للانتقام من فقدان نفوذه السياسي، وبالفعل أعاد هنري السادس لفترة وجيزة إلى العرش، قبل أن يعود من جديد إلى إدوارد الرابع، مما أجبرها لاحقاً على قيادة الجيش بنفسها لمحاربة إدوارد إلا أن هزيمتها ومقتل ابنها قد قضى على مساعيها إلى الأبد، وبسبب أهمية الدور الذي لعبته مارغريت في تلك الأحداث، لم يكن من الممكن تجاهلها من أي عمل سبق وأن تناولها، حتى شكسبير قد أفرد لها مساحة كبيرة في مسرحيته هنري السادس، والغريب أنه بالرغم من كل ذلك إلا أن من سوء حظ الشخصية لم تلعب دورها ممثلة ذات كاريزما كافية سواء في هذا المسلسل أو حتى في مسلسل (The Hollow Crown)، حيث لعبت دورها الممثلة صوفي أوكونيدو في اختيار غير موفق، لا من حيث الشكل الخارجي لملكة فرنسية، ولا من حيث الأداء المطلوب.
من ناحية أخرى ترشحت عن استحقاق لجوائز الجولدن جلوب كل من الممثلتين (ريبيكا فيرغسون) في دور إليزابيث وودفيل، و(جانيت ماكتير) في دور جاكيتا من لوكسمبورغ، اختيار كل منهما للدور كان في محله تماماً، ريبيكا من الناحية الشكلية تستحق أن تمثل اللقب التي عرفت به إليزابيث في ذلك الوقت، ومن الناحية التمثيلية قدمت أداء بارعاً مما فتح أمامها الباب لتلعب دور البطولة أمام توم كروز في سلسلة أفلام مهمة مستحيلة لاحقاً، كما أن جانيت جعلت من ظهورها طوال الأحداث مهيباً وحابساً للأنفاس بما يليق بالتأثير الدرامي المطلوب منها في العمل.