اكتشف بريشت الجوقة من جديد وأدخلها في موازاة الغناء والموسيقى، كما في المأساة والملهاة القديمتين. فمعه لم تعد الجوقة ذلك العنصر الجامد، الخارجي، الثقيل وغير المألوف نوعاً ما، وغير المفهوم في بعض المسرحيات الكلاسيكية الجديدة؛ فالجوقة هنا: ساكنة، جالسة، منشدة، وليست متحركة على صف واحد، أو بحسب حركات شبه أثرية مؤلمة. إنها جوقة خفيفة (ليست كثيفة في اثني عشر مغنياً) جالسة في المقدمة، على اليسار في دائرة الطباشير، أو متجمدة في شخص يأخذ فجأة في الغناء كما هو الحال في الأم الشجاعة والإنسان الطيب في ستسوان، غناء ليس منسوخاً عن المسرحية، لكن كأنه التنفس الصميم الهوائي، وكأنه همس أبطالها المتصل. هكذا تظهر غروش على حافة الساقية تترك سطل الغسيل لتكلم خطيبها لحظة، ثم لتفقده بعد ذلك ربما إلى الأبد، وفي حين كان منصرفاً يتوقف فجأة، فتنشد الجوقة:
(هنالك أشياء تقال وأشياء لا تقال. هذا ما كان يفكر فيه في قلبه)
تظهر قدرة الجوقة في سبر أغوار شخصياتها والتعليق على ما يراودها من أفكار وأحاسيس، فالجوقة لا تتدخل في العمل المسرحي من الخارج، وهي لا تعلق تعليقات لا شخصية، إنما تقول ما يفكر فيه الناس كما الحال عند إسخيلوس، وليس ردة فعل بسيكولوجية، بل هي ترد بإيقاع غنائها الذي يتوزع حسب الحدث، ومجرى الفعل، فإما يكون ملحاً، أو مضخماً، أو متشدداً، أو حانقاً ...إلخ.
يجعل بريشت غناء الجوقة أو غناء الممثلين، بسيطاً مباشراً وأليفاً ليحرر أخلاقية المسرحية، ولينتزعنا من المعرفة البسيكولوجية الخالصة للشخصيات إلى الغوص في أعماق التاريخ. ويريد من خلال ذلك فرض نوع من التغريم حيث يبعدنا عن التعلق الشديد بالشخصية في تلك اللحظة ويردنا إلى مركز المسرح قبل أن نغرى بالشخصية. ولذلك نجد بريشت في إطار مسرحه الملحمي يعيد ابتكار الوظيفة الملحمية للجوقة لا الوظيفة البسيكولوجية ولا الأخلاقية المحضة، وهذه الوظيفة الملحمية مفقودة منذ إسخيلوس.
استفاد بريشت من أسلوب بيسكاتور حيث كان يميل إلى رواية القصة في صيغة سردية باستخدام مشاهد توضيحية، تضم مجموعات كورسية ومعلقين، وأغاني، ورقصات، وعناوين وملخصات، معروضة على الشاشة، فقد كان بريشت يحاول فرض نوع من التغريب بهذه المشاهد التوضيحية، بل حتى بالممثل نفسه، الذي كان عليه أن يقوم بعمله بموضوعية، فكان يجب عليه أن يتكلم بشيء من التحفظ أو البعد، أو يعيد عملاً ما ببطء، أو يتوقف ليوضح للجمهور ما كان يقوم به. بذلك فبريشت من خلال الجوقة وبدائلها كالراوي، والممثل أيضاً، الذي يقوم تارة بالتعليق والغناء وكذا الملخصات والعناوين المعروضة على الشاشة المستقاة من عمل بيسكاتور؛ يجعل الحدث يتنوع وينتقل من التمثيل إلى التعليق والعكس بالعكس. فغالباً ما تكون مسرحيات بريشت مائلة إلى الغنائية، فمسرحيته بعل كان لها أن تكون غنائية في ترتيبها للمقطوعات الشعرية، وحتى في حوارها العامي الخشن، حيث تبدأ بترنيمة كورالية تعبيرية ساخرة يليها اثنان وعشرون مشهداً تعبيرياً وقصائد غنائية تروي قصة البطل، كذلك الأمر في مسرحية رجل برجل حيث تعد قصائدها الغنائية محاكاة تهكمية لشخصيتها المركزية.
استخدمت في مسرحية الأم الشجاعة، أغنيات وموسيقى أوركسترالية ذات سمة تعديدية، مع مشهد هادئ كتعليق تهكمي على الحدث، فاستخدم الأغنية الرعوية والغناء الشعبي، كما هو الحال بالنسبة لمسرحية دائرة الطباشير القوقازية، فلم يكتفِ المغني الشعبي في أحد العروض المسرحية بتأمين الربط السردي للعديد من مشاهد المسرحية وإنما أيضاً عمل بشكل لطيف على تبعيد الحدث من خلال الغناء عنه بالماضي فقد جلس خمسة مغنين أو موسيقيين مع المغني ليقوموا بالمهمة.
لقد حاول بريشت أن يقدم لنا الجوقة كمعلق على الأحداث، وكرابط بينهما، لكن في إطار تغريبي، فمرة تكون تحريضية ومرة ناقدة، ومرة معبرة عن المجتمع، لكن لا يفترض فيها أن تخلق الإيهام، كما تتحدث بصيغة الماضي في البداية لتموقعنا في الحدث والزمن والمكان:
(الجوقة: وفي عام تسع وستمئة وألف في مدينة بادوابفينيسيا
وفي منزل متواضع يشرع العالم جاليليو جاليلي في
إثبات ثبات الشمس ودوران الأرض
إن مشعل العلم قد بدأ يتوهج).
إنها تحدد الإطار العام للمسرحية، زمانها ومكانها وبطلها، إنها في أربعة أسطر تقدم لنا تصوراً سينوغرافيا، وديكوراً بدون أن نشاهده على الخشبة. كذلك نجدها تعرض علينا ما يقدمه جاليليو قبل أن يبدأ في تقديمه هو نفسه:
(الجوقة: لا أحد يستطيع أن يزهو بالفضيلة الكاملة
فجاليليو العظيم كان يحب اللحم الجيد
لكن نأمل أن لا ترفضوا الحقيقة التي
يراها من خلال منظاره).
وتستمر من حدث إلى حدث في تأطير القصة زمنياً وتاريخياً: (الجوقة: في يناير عشرة سنة ألف وستمئة وعشرة. جاليليو جاليلي يلغي السماء). وفي مشهد آخر تعلن التأييد الذي لقيه جاليليو بعد الرفض الذي لقيه في فلورنس: (الجوقة: ويسير التاريخ حقاً في مسار غريب حين يضطر العلماء لكي يعملوا أن يتزلفوا، ولكنا فخورون بأن نقول إن كريستوف كلافيوس: قد أيد المسيو جاليليو جاليلي)، فهي هنا متعاطفة فرحة لجاليليو، ومندهشة لمسار التاريخ المفاجئ، فهي تقوم بالتعليق وتزيده بعداً تأملياً وفلسفياً في جميع أقوالها في المسرحية. ونظراً للوحات التي يقدمها بريشت، فإن الجوقة في هذه المسرحية تقوم بالتوسط بين هاته اللوحات، معلنة عن مشكلة الحدث المقبل أو عن حكمة أو عن قرارات ستقع، وأحياناً تسرد ما سيقوم به البطل ومن سيستضيفه ومن سيؤيده ومن سينكره...إلخ:
(الجوقة: ولما كان جليليو في العاصمة
دعاه إلى بيته كاردينال عظيم فقدموا له الطعام وأعطوه الشراب وأقام له حفلة..
غير أنه رجاه في مطلب صغير فقط).
تمهد للحدث وتؤطره مكانياً، وتعطي مفتاحاً دون أن تفتح الباب، فمن (رجاه في مطلب صغير فقط)، يعترينا التشويق لنعرف هذا المطلب. كذلك في مشهد آخر تقوم بهذه الحيلة لنكون نحن متتبعين بشغف أكثر:
(الجوقة: وإذا كان جاليليو يشعر بالغضب،
جاءه راهب صغير يزوره،
ابن ناس بسطاء وأهله يعلمون،
فعن أي شيء تكلما؟)
كما تعبر الجوقة في المسرحية عن حال جاليليو وعن تحديه:
(الجوقة: وطوال سنين ثمان، وهو عن الكلام يمسك نفسه،
فلم يقل كل ما كان يعرف
لكن الإغراء صار شديداً فتحدى جاليليو القدر)
يستعمل بريشت دائماً صيغة الماضي في مسرحياته، فهو يعرض التاريخ وبالتالي يستخدم الجوقة لتروي هذا التاريخ، ولتحدد المكان والزمان والحدث السابق عن العصر الحاضر، والحاضر للزمن السابق:
(الجوقة: وفي أعياد كرنفال أبريل عام اثنين وثلاثين
كان هناك حول العام صخب شديد، إذ تعلم الناس
من جاليليو واستخدموا تعاليمه بطريقتهم الخاصة)
كما يستخدم بريشت، كما وضحنا ذلك سابقاً، المغني أو المنشد ليغرب الإيهام، والمنشد هنا بديل للجوقة كذلك:
(ينشد: لما انتهى الرب القدير من خلق الدنيا
على الشمس نادى وإليها أصدر أمرا
بأن ترسل ضوءها حولنا وهي تدور
وهكذا جعل منها خادماً مطيعاً (...)
: وعند ذلك جاء الدكتور جاليليو
فألقى بعيداً بالكتاب المقدس ثم صوب منظاره
وألقى على الكون العظيم نظرة
وللشمس قال: ابقي في مكانك سيدير الإله الخالق
كل شيء على خلاف ما فعل...)
يستمر غناء المنشد في مقاطع طويلة، إذا قرأتها، تجد فيها نوعاً من الثورية في خضم التعليق عن جاليليو ونظريته، كما أن الأغنية صيغت بطريقة رائعة ذات معاني ثورية، واستهزاءات ضمنية:
(المنشد وزوجته سوياً:...تعلموا من هذا الدكتور
الطيب جاليليو أوليات السعادة فوق الأرض
طال على الإنسان وقت خضوعه
من ذا الذي سيرفض إذن أن يكون سيد نفسه)
يوظف بريشت كلاً من الجوقة وبدائلها في مسرحية واحدة، لتخدم أغراضه الملحمية، والتغريبية، ثم ليختم المسرحية بإحدى وظائفها في التعليق والنصح، وتقديم الرأي:
(الجوقة: ويا أيها السادة الطيبون، هذه هي النهاية. الكتاب العظيم
قد سلك عبر الحدود طريقه
ولكن لا تنسوا أن تذكروا أنني... وهو لازلنا هنا
فهل تقدرون على حمل مشعل العلم وتدعونه يتوهج
وتحسنون استخدامه لئلا يسقط منكم فوق الأرض
فلتلتهمنا ناره كلها)
اعتمد بريشت أيضاً على الراوي الذي يمثل الحكواتي في مفاهيمنا الشعبية القديمة، لأن هذا الأخير كان يستعمل الأسلوب الملحمي في تقديم عرضه الفني للجمهور، فهو يقدم الحكاية وبطولات الأبطال، وعلاقتهم ببعضهم البعض، ويصور انفعالات الناس بتلك البطولات، وانعكاساتها عليهم من خلال إطار مشوق لقصة مكتوبة شعراً، ويؤديها الحكواتي غناء وترتيلاً بمرافقة لحن بسيط، كما كانت عملية القطع تأتي عن طريق الانتقال من حدث إلى حدث، ومن موقف إلى موقف ضمن الملحمة وفي إطار السرد نفسه، لذلك نجد بريشت يقوم بهذه المهمة من خلال اعتماده على الراوي أو الجوقة، ليجعل الجمهور يقوم بعملية الانتقال من حالة إلى حالة، تلقائياً ودون حاجة لأن نذكره بواسطة أي شيء خارجي، بأننا الآن على مشارف الوقوف إلى جانب فلان أو فلان من الشخصيات.
لقد نجح بريشت بالفعل في توظيف الجوقة بشتى أنواعها، ليحقق رغباته في التواصل مع المتلقي وعرض التاريخ، فحيوية الدراما تعتمد على الاختيار والنقاش والتعديل، فجعل المسرح منبراً للمحاكمة والنقاش، وبالتالي فهو يحتاج من يعرض القضية ومن يلبس لباس المحامي، ومن يقف إلى جانب الضحية أو المتهم، فلم يجد أحسن من الراوي والجوقة، لعرض أحداث القصة المعروضة مكانياً، وزمانياً، وحتى تفسيراً، وتعليقاً، مع نوع من الحيل التي تغرب الجمهور وتستفز عقله، وتجعله مراقباً ومشاركاً.