فازت رواية (نحّال حلب) للكاتبة البريطانية كريستي ليفتيري بجائزة (إسبن) اللندنية، المعنية بالأدب النابع من الواقع، في دورتها الثالثة للعام 2020، والتي تم الإعلان عنها مؤخراً.
الرواية التي قرّظها بعض المعلّقين الثقافيين في أوروبا وأمريكا باعتبارها (عملاً أصلياً بامتياز)، تدور حول كابوس الحرب الطويل الذي تعيشه سوريا منذ عام 2011، كأحد أطول فصول المعاناة البشرية على مر التاريخ.
صدرت الرواية عام 2019، وكُتبت عنها مراجعات مهمة في الصحافة الأدبية الأوروبية والأمريكية، كما اعتُبرت ضمن أفضل كتب صوتية لعام 2020، وفق تصويت إلكتروني أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي- راديو)، خلال العام الحالي.
وليست (نحّال حلب)، المقرر صدور الترجمة العربية لها عن (دار الخان) في الكويت بنهاية هذا العام، من بنات خيال المؤلفة الأربعينية، بل هي نتاج تجربة عملها كمتطوعة مدة 3 سنوات -على فترات- في مركز لدعم اللاجئين السوريين والأفغان باليونان.
والرواية محاولة أدبية من الكاتبة لإظهار أن معاناة ملايين اللاجئين السوريين الذين فقدوا كل شيء، ليست مجرد (أرقام) تُقال على عجلٍ في نشرات الأخبار، ولا هي محض إحصائياتٍ مجردةٍ من الحياة في دراسةٍ أكاديمية ما، بل هي حكاياتٍ ومآسٍ حقيقية، حدثت بالفعل، لأناس مثلي ومثلك (من لحم ودم)، بتعبير الكاتبة.
لم تتعاطف ليفتيري مع اللاجئين السوريين من فراغ، بل عاشت تجربة اللجوء إلى أرضٍ غريبة، فهي متحدرة من أبوين يونانيين كانا يعيشان في قبرص، ثم هاجرا إلى بريطانيا بعد تقسيم الجزيرة عام 1974 إلى شطرين، يوناني وتركي، بينهما خط وهمي.
تتذكر الكاتبة: (عندما وصل والدي أخيراً إلى المملكة المتحدة لطلب اللجوء السياسي، بعد أن هربت العائلة من قبل إلى لندن، قالت جدتي إنها لم تتعرّف عليه، وإنه كان هناك دم في عينيه). لا أعرف حتى الآن ما إذا كانت عيناه محتقنتين بالدماء حقاً، أم أنها رأت فيهما شيئاً جهنمياً لم تعرفه!
درست (كريستي) الطب النفسي في جامعة ليدز، وعملت طبيبة نفسانية لعدة سنوات، ثم هجرت مهنة الطب إلى الكتابة، ولها أنشطة ذات طابع إنساني، وهي ناشطة في جمعيات خيرية بريطانية وأوروبية، تعمل في مجال مساعدة اللاجئين والفقراء عبر العالم.
(برميل) من السماء
تصوّر الرواية أسرة النحّال (نوري)، الذي يعيش عيشةً راضيةً في بيت على تلال حلب الشهباء، بعد أن ترك تجارة الأقمشة مهنة العائلة أباً عن جد، وأُغرم بالنحل، ثم أصبح عضواً في أسرة صغيرة، تضم زوجته (عفراء) وهي فنانة تشكيلية هاوية ترسم لوحات للطبيعة، وابنهما الوحيد (سامي).
كان (نوري) يربي أسراب النحل، ويعيش شاكراً أنعُم الله حتى سقط (برميل متفجر) من السماء قرب بيتهم، فأحالهم إلى بقايا أسرة بائسة، حيث لقي الابن مصرعه في الحال، وكُف بصر الزوجة فلم تعد ترسم بعد ذلك أبداً، فأصبح (نوري) شخصاً آخر، لقد فقد رضاه وسكينته إلى الأبد، وعاش ساخطاً على كل شيء، بعد أن وارى وحيده الثرى في حديقة المنزل.
وفي 2015، عام اللجوء العظيم، يقرر (نوري) و(عفراء) المسكينة الفرار إلى بريطانيا، للعيش في كنف (مصطفى) ابن عم الزوج وصديق عمره، وذلك من خلال العبور إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، وثم الوصول أخيراً إلى أرض الأمان الموعودة، المملكة المتحدة.
غادر (مصطفى) حلب في السابق، من دون توديع صديق العمر، بعد أن فقد هو أيضاً وحيده (فراس) الذي قضى في مذبحة (نهر قويق) مطلع 2013، الذي تحوّل في الساعة السابعة من صباح 29 يناير (كانون الثاني) من ذلك العام، إلى مقبرة عائمة طفت فوقها 220 جثة لرجال ونساء وأطفال، قُتلوا جميعاً بدمٍ بارد على أيدي قوات النظام، وأُلقيت جثثهم في النهر، فاصطاد الأهالي الجثامين بالشباك.
كان (مصطفى) المأخوذ عن شخصية حقيقية، بتصرّف، يعمل أستاذاً في كلية الزراعة بجامعة دمشق، كاختصاصي في علوم النحل، لكنه يزور حلب لرؤية أهله وأصدقائه بانتظام. وذات مرة حين كان مع أسرته في المدينة، يختفي ابنه الوحيد (فراس) الذي كانت له نشاطات سياسية مناهضة للنظام السوري، في ظروف غامضة.
ويتوقع الأب المكلوم أن يكون الابن معتقلاً مثل مئات الآلاف غيره في السجون، فيمتنع عن الذهاب إلى عمله الأكاديمي في الجامعة، ويظل مقيماً في حلب على أمل العثور على ابنه المفقود، حتى يرى -بالصدفة- جثمانه بعد ذلك ممدداً على الطاولة، وعلم الأب أنه قُتل في مذبحة (نهر قويق). وتكون تلك صدمة قاسية، لا يبرأ بعدها (مصطفى) أبداً.
اكتشفت ليفتيري مقالاً كتبه الدكتور رياض السوس، الأكاديمي الذي أسس أول برنامج علمي لتربية نحل في جامعة دمشق، والذي يعيش حالياً في بلدة هيدرسفيلد، غرب يوركشاير. وتواصلت معه عبر (فيسبوك)، فدعاها إلى مقابلة عائلته التي فرت من سوريا عام 2013. وهناك، قدمها إلى عالم تربية النحل، وساعدها على فهم الصراع السوري المعقد. فاستلهمت منه إحدى شخصيات الرواية.
اضطراب ما بعد الصدمة
على مدار فصولها، تُعنى الرواية الواقعة في 336 صفحة، بتفاصيل صغيرة في حياة اللاجئ، لا يعرفها إلاّ من خبرها بنفسه. ومن ذلك اغترابه بعد فراره قسراً من وطنه، ليعيش في مكان غير مكانه، ويتنفس هواء غير الذي تربي عليه، محكوماً بتقاليد غير تقاليده، وثقافة غير ثقافته. إنها، كما قالت المؤلفة، (تلك المأساة التي لم يكتبها شكسبير)!
أضافت (ليفتيري) في حوار معها: (دوري بصفتي كاتبة يتمثل في أن يحاكي الحدث الروائي القارئ، أملاً في أن يتفهم طبيعة معاناتهم بشكل أكثر وضوحاً، فمن أجل توسيع دائرة التعاطف مع ملايين اللاجئين، من المفيد أن نبدأ بواحد).
ونادراً ما انحرفت الرواية رغم ضخامتها وفداحة مصائر شخصياتها، فضلاً عن سردها البطيء نوعاً ما، إلى العاطفية المُفرطة التي قد تعتور هذا النوع من الأدب، أو إلى الكآبة السحيقة، حيث قدّمت الرواية حب (نوري) لتربية النحل، وشغف (عفراء) بالرسم، كنقاط سعيدة -لكنها قليلة- في القصة، التي تتخللها ذكريات أكثر سعادةً عن سوريا، ولمحات خاطفة عن الجمال الذي لا يزال في متناول الشخصيات.
وقالت مجلة (تايم) الأمريكية في عددها الصادر 2 سبتمبر (أيلول) 2019: (إن ليفتيري ظلت طوال الوقت متيقظةً تماماً كطبيبة نفسية سابقة، للآثار الدقيقة للصدمة والحزن على شخصياتها، فلم يتم تصوير (نوري وعفراء) على أنهما ضحيتين، ولكن كشخصين يعانيان بطرق مختلفة ومعقدة من (اضطراب ما بعد الصدمة)، وهي حالة نادراً ما يتم استكشافها في الأدبيات المعاصرة، بخلاف روايات المقاتلين القدامى أو المراسلين الحربيين).
أضافت المجلة: (لقد هرب الزوجان من مسقط رأسيّهما المحطم، لكنهما لا يستطيعان الهروب من الذكريات التي تطاردهما. تقول (عفراء) الكفيفة لزوجها: (أنت مازلت تائهاً في الظلام)، فحتى لو كانت هي من فقدت بصرها، فهو يعيش في ظلمات نفسه، معزولاً عن أحبائه الباقين، وعن نفسه).
(نحّال حلب)، في التحليل الأخير، هي رواية السوري الذي سلبته الحرب كل شيء، بما في ذلك إنسانيته، وهي تعكس صورة مفجعة لكنها واقعية تماماً لتجربة اللاجئين السوريين في أوروبا، الأمر الذي سوّغ فوزها بجائزة (إسبن) المخصصة لأدب الحياة والواقع.