إن تعقل الوجود يعني من بين ما يعنيه التساؤل عن جدوائيته والغاية من وجودنا في ثناياه المتشعبة، في الزمان والمكان، في الحاضر والمستقبل، وربما الماضي كذلك.
إن كل سؤال مرتبط بالوجود سيكون بلا ريب سؤالاً مؤرقاً وقلقاً وشاقاً، إنه سؤال عن الذات سواء في بعدها الذاتي (الأنا) أو في بعدها العلائقي (الأغيار) الذين أتقاسم معهم العالم بشكل قسري. والسؤال كما يقول مورسي بلانشو: استقصاء. إنه بحث عن الجذور وغوص في الأعماق وحفر للأسس وتقصي الأصول.
إن السؤال بهذا المعنى محاولة للإدراك، إدراك الذات في علاقتها بالعالم. وفعل الإدراك سيجعلنا نتيقن أننا لا نزيد عن كوننا كائنات قذف بها في العالم بغير إرادة ولا اختيار، وأننا لا نقترب سوى من الموت في كل لحظة وجودية نعيشها في هذا العالم.
إن الفرد العبقري حسب شوبنهاور هو الوحيد الذي يستطيع عبر معرفته الحدسية إدراك جوهر الوجود وحقيقة الحياة، لقد أدرك عبر التأمل والتساؤل أن إرادة الحياة، بما هي نزوع غير عاقل واندفاع غريزي نحو الحياة؛ لا يمكن أن تكون سوى فعل لا عقلاني تحركه الغريزة الجنسية والأنانية العمياء الطامحة لتخليد النوع، فيكفي قليل من التأمل حسب شوبنهاور لإقناعنا بـ(أن الحياة ليست خليقة بشيء من الحب والاستمرار).
التفكير في جوهر الوجود، ومعه التفكير في جدوائية الوجود في العالم؛ هو الطريق الملكي للقلق الوجودي، قلق لا يحتاجه الكائن السعيد الذي يحقق سعادته خارج أسئلة الوجود المؤرقة والقلقة. إن الكائن السعيد كما يقول فولتير هو كائن بليد، فمفهوم السعادة لديه محايث بالبلاهة. في قصة أدبية في قالبها وفلسفية في عمقها؛ يحدثنا عن حكيم هندي، متقد الذهن، يملك كل ما يمكن أن يجعل المرء في قمة السعادة، لكنه كان تعيساً لأنه لا يجد أجوبة لأسئلته الميتافيزيقية والوجودية، ما جعله قلقاً ومرتبكاً، بل خجولاً من نفسه كلما تحدث، يضيف السارد أنه قابل جارة الحكيم الفيلسوف في نفس اليوم، وسألها هل شعرت يوماً بالأسى لأنها لم تعرف كيف تكونت روحها؟ لم تفهم الجارة حتى السؤال نفسه، ولم تفكر قط في أي من الأسئلة التي شغلت بال الحكيم، وكانت تعتقد في قرارة نفسها أنها أسعد النساء.
سيعود بعد أن صدم بجواب الجارة، وسيسأل الحكيم قائلاً: (ألا تشعر بالخجل من كونك تعيساً، بينما بقربك توجد جارتك التي لا تفكر في أي شيء وتعيش فرحة وسعيدة؟)، معكم حق؛ يجيب الحكيم، لقد قلت مئة مرة إنني سأصير سعيداً لو كنت ببلاهة جارتي، ومع ذلك فإنني لا أرغب بسعادة كتلك.
يختم فولتير حكايته قائلاً: (إذا كنا نقدر السعادة عالياً، فإننا نقدر العقل أكثر).
إن الأسئلة التي تؤرق البرهمان، هي أسئلة وجودية في عمقها، جعلته يحمل هماً وقلقاً وجودياً، فكلما تعمق القلق الوجودي لدى الكائن الإنساني إلا وأحس بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، إنها مسؤولية كون الأنا موجوداً، وعليه تحمل مسؤولية وجوده وحيداً، مسؤولية بناء ماهيته الممتدة امتداد الأنا في الوجود. إنها أسئلة لا يطرحها سوى العباقرة بلغة شوبنهاور، وهم من سماهم هنري برغسون بالأبطال، لأنهم يحملون خطاباً كونياً إنسانياً، يمكن أن يحرر البشرية ويخرجها من تقوقعها الحشري نحو رحابة الإنسانية، أي نحو الكونية الفلسفية، ويدعونا برغسون لضرورة الاستجابة لنداء الأبطال ومن بينهم الفنانون.
إن الرواية الجيدة تكشف لنا عبثية العالم وسخرية الوجود، لكنها لا تقف عند حدود جعلنا ندرك حقيقة الوجود، بل تساعدنا على الرجوع للوجود، بعد أن أخذتنا في عوالم تخييلية؛ ونحن نحمل أفقاً جديداً للتفكير في الوجود، وما يمكن أن يخلصنا ولو نسبياً من الهم الوجودي. تؤدي إذن الرواية حسب أمبرتو إيكو وظيفة استشفائية، أو تطهيرية كما بيّن أرسطو قبل ذلك، فقد انتبه أرسطو لغائية الفن، وكشف ضمن العلل التي صاغها، العلة الغائية لفن التراجيديا وهي التطهير أو (Catharsis)، وذلك عبر إثار انفعالي الخوف والشفقة. حاول الدكتور محمد منظور ضمن كتابه (الأدب ومذاهبه) أن يشرح معنى التطهير، وقد أكد قبل ذلك على الاختلاف الموجود بين الدارسين حول هذا المفهوم الأرسطي الذي تعمد أرسطو أن يتركه بلا تحديد دقيق حسب ذات الباحث.
إنه مرض الوجود، أو فخ سقوطنا في العالم، فالعالم كما يرى ميلان كونديرا لا يعدو أن يكون مجرد فخ، (فالإنسان يولد دون أن يطلب ذلك، ويحبس في جسد لم يختره، جسد منذور للموت)، ألا يكفي هذا التشخيص أن يجعلنا نتيقن أن مرضنا مرض وجودي لا يستطيع سوى الروائي الجيد تشخيصه، روائي خبر مسالك هذا الفن الأصيل وهو الوحيد القادر على أن يسعفنا من خلال تقديم عوالم تخييلية قد لا تقول الحقيقة، لكنها لا تكذب، عوالم يمكن أن تعيد لنا القدرة على الرؤية والإبصار لنتجاوز بذلك عمانا الوجودي ولنتمكن بدون عصا العميان من كشف الفخاخ والمتاريس والكمائن التي نصبت لنا في مرحلة ما قبل وجودنا لتزيد من شقائنا وقلقنا وبؤسنا الوجودي.
إن الرواية فضلاً عن كونها تضطلع بوظيفة استشفائية، فهي كذلك تساعدنا على أن تكون لنا فكرة عما هو العالم، أي أن تكون لنا فرضية أنطولوجية كما يقول كونديرا، فكرة أن العالم فخ، و(أن الحياة الإنسانية بوصفها كذلك هي هزيمة، والأمر الوحيد الذي يبقى لنا إزاء هذه الهزيمة المحتومة التي ندعوها الحياة هو محاولة فهمها وهنا يكمن سبب وجود فن الرواية).
إن العلة الوحيدة لوجود الرواية كما قال بروخ هي اكتشاف ما لا يتسنى سوى للرواية اكتشافه، اكتشاف الإنسان، فكل رواية هي في عمقها تفكير في الأنا، إن الأنا التي يستحثها الروائي عبر شخوص الرواية تتجاوز حدود الجغرافيا الضيقة نحو أفق الإنسانية الرحب، فالأنا بتعبير غومبروفيتش تتوقف على عدد ساكنة كوكب الأرض. فالمتن الروائي ذو بعد كوني، وموضوعه هو الوجود الإنساني، والوجود كما يرى كونديرا لا يعني الواقع، لأن الوجود ليس هو ما وقع، بل الوجود هو حقل الإمكانات الإنسانية، هو كل ما يمكن أن يصيره الإنسان.
لنأخذ على سبيل المثال إحدى أشهر روايات كافكا (الانمساخ)، إنها تبتدئ بجملة صادمة ستصيب القارئ لا محالة بصعقة تشبه إلى حد كبير ما كان يستحسه السفسطائي أثناء محاورة سقراط، وهذا دفع أحد هؤلاء ليقول مخاطباً سقراط: إنك يا سقراط تشبه سمك الأنقليس الرعاد، تصعق محاورك بأسئلتك وتتركه مشدوهاً مستشعراً جهله غارقاً في خواء داخلي قاتل، وربما ما نحسه ونحن نقرأ عبارة كافكا يشبه إلى حد كبير شعور السفسطائي وهو يحاور سقراط.
يقول كافكا: (حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلامه المزعجة؛ وجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة).
يلخص لنا المترجم السوري الفذ إبراهيم وطفي شعوره وهو يقرأ لأول مرة هذه العبارة قائلاً: (حين قرأت لأول مرة (حين أفاق غريغور سامسا، ذات صباح من أحلامه المزعجة، وجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة)؛ شعرت على الفور وكأنني تلقيت على حين غرة ضربة على رأسي. قلت لنفسي في لاوعيي: هذا هو الحال. لا، ليس هذا حلماً، إنهم ينظرون إليك في الواقع وكأنك حشرة).
لقد سبق لكافكا أن قال (على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا)، لقد كانت كتابات كافكا مرعبة وسوداوية لحد الهلوسة، إلا أنها حقاً ضربة إزميل مؤلمة استطاعت أن تكسر جبال الجليد المتجمدة في دواخلنا، لا يمكن لمن قرأ الـ(ميتامورفوز) إلا أن يشعر بصعقة أليمة تنتشل أناه الممزقة نتيجة انغماسها الكلي في تفاهة اليومي، وسعيها الحثيث لإرضاء الجماعة الغارقة في وجود وصفه هيدجر بالزائف، صعقة تعيد القارئ لذاته وتجعله يتساءل قائلاً: ألا يمكن أن أكون أنا جريجوري سامسا؟ ألست حشرة مقززة الملمس والمنظر تتقاذفها الأقدام وتعافها الأنفس؟ ألم أصر منذ زمن حشرة خسيسة قذرة ترمقها نظرات الاشمئزاز وتُرجئ سحقها؟
حاول كافكا أن يصور لنا نظرته لذاته بطريقة مأساوية، وبعمق فلسفي لا يستطيعه سوى كافكا، فبطل الميامورفوز (سامسا) له نفس نموذج الحروف المتحركة والساكنة كما في (كافكا) بالضبط. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن (كافكا) كان يعرف اللغة التشيكية، فسنجد أنفسنا مدفوعين إلى ربط (سامسا) بالكلمة التشيكية (sám) أي (نفسه) أو (نفسها). غير أن الرواية تتجاوز كافكا لتعكس بطريقة ساخرة وقاتمة الشرط الإنساني، فكافكا كما قال كونديرا (تحدث عن شرطنا الإنساني (كما يتجلى في عصرنا) بطريقة لن يستطيع أي تفكير سوسيولوجي أو سياسي أن يحدثنا عنه على النحو الذي قام به كافكا).
إن الرواية تتجاوز مهمة الإمتاع والمؤانسة، واستثارة الجمالي الدفين في النفس البشرية، إنها وسيلة للمعرفة ومصدر خصب لفهم الإنسان في بعده المركب، فالرواية كما يراها كونديرا، تستطيع استيعاب الفلسفة، بينما هذه الأخيرة لا تستطيع استيعاب الرواية، ويذكرنا بروايات رابليه وسربانتس في (نزوعها نحو إدماج أجناس أخرى، نحو استيعاب المعارف الفلسفية والعلمية)، من أجل بلوغ غايتها الوحيدة وهي اكتشاف الإنسان. إن الرواية كما يقول إدغار موران لا تزودنا بشعور جمالي فقط، بل بالمعرفة أيضاً، ويذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حينما قال: (ما ينقص العلوم الإنسانية هو معرفة الإنسان في تعقيده، إذ الإنسان فيها على العكس مقسم ومجزأ بين التخصصات. أما الرواية فتبرز التعقيد الإنساني).
الرواية تتجاوز الروائي نفسه، فهو يخط بداياتها، غير أنه يجهل المصير الذي ستنتهي إليه عوالمه التخييلية والرمزية أو السحرية، وربما تصير الرواية لعنة تصيب القارئ وتجعله كائناً غريباً عن ذاته وعن العالم، لعنة تخرجه من طمأنينته الساذجة ونظرته المطمئنة للوجود، وسعادته البليدة، نحو التوتر والقلق واللاطمأنينة، إن ولوج العوالم السردية أشبه بلذة الاتصال الجنسي وما يستتبعه من نشوة ورعشة، إلا أن الخروج منها لا يحقق نفس اللذة، بل يولد ألماً يعكس إلى حد كبير ألم الكتابة لدى الروائي الذي يشبه ألم المخاض، فالكتابة ألم ومتعة، كالولادة تماماً، ألم المخاض وفرح التحام الأم برضيعها لأول مرة، وقراءة الرواية لا تختلف عن هذا الشعور، إنها تولد إحساساً جمالياً، إلا أنها تغير لا محالة نظرتنا للوجود، بطريقة يستحيل معها أن نعود لحالة ما قبل دخول العوالم السردية.
الروايات الجيدة هي وحدها من تغيرنا، صحيح أنها تجعلنا ندرك عبثية العالم وتصيبنا بلعنة القلق الوجودي، إلا أنها تخلصنا منه أيضاً، إنها الداء والدواء في ذات الآن، تجعلنا نفكر في البحث عن توافق مع الواقع لنتمكن من تحمله، وهذا التحمل يمكن تحقيقه عن طريق (التجميل المعمم، فالجمال يمكن أن يثير ما أسماه باسكال الترفيه الذي يصرف انتباهنا، عبر المشاعر التي ينتجها، عن الشقاء الطبيعي لوضعنا الهش والقاتل، والبائس جداً إلى درجة لا يوجد معها شيء يواسينا)، إن صرف الانتباه بالمعنى الباسكالي لا يتأتى إلا عبر الانتباه، فنسيان وضعنا المأساوي لا يتأتى إلا عبر مشاهدة أو قراءة المأساة، ونسيان الموت مشروط بالتفكير في الموت، وهذا ما يقوم به (الفن الرائع والرواية الرائعة والفيلم الرائع، تذكرنا بوضعنا وتضعنا أمام مصيرنا وموتنا (...) وتساعدنا على تحمل فائض الواقع الذي لا يطاق، تمنحنا العجائب التي نستقي منها الطاقة لمواجهة قسوة العالم).
في عالم يتنامى فيه التوحش والافتراس والقتل والإرهاب، ويعيش فيه الكائن البشري في تيه وضياع وجودي قاتل؛ سيكون أكثر ما نحتاجه إلى جانب تجذير الوعي الكوكبي (الوعي بالمصير الإنساني المشترك) بلغة موران؛ هو تعميم الجماليات بدل عولمة الأمراض والحروب والأوبئة والمجاعات، والإبادات الجماعية. إن تعميم الجماليات يعني من بين ما يعنيه مواجهة أعداء الفن، فكُره الفن يمكن تفهمه، يقتضي الأمر إذن تربية جمالية بشكل متواصل، تسعفنا في صناعة إنسان صديق للفن، له إحساس تجاه الفن، متشبع بالقيم الجمالية والكونية، ومنتج لها.