مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

جرائم المستقبل.. التموضع الجيني في العالم البلاستيكي

أحد أبرز عناوين عام 2022 كانت في عودة السيد العريق إلى رعبه الجسدي، إذ لا تنطوي العودة على صناعة كرونينبيرغ لفيلم بعد ثمانية أعوام من الانقطاع، ولا في إخراجه لفيلم من كتابته منذ (إكزيستانزإكس 1999)، لكن عبر تغني حملة الفيلم الإعلانية بالطريقة الكرونينبيرغية في كل من العروض الدعائية، والتصريحات، والعبارات الرئيسة مثل: (الجراحة هي الجنس الجديد أو الجسد هو الواقع)، والتي تنادي بطريقة مباشرة على أنه عمل قد صُنع خصيصاً للمغرمين في سينما كرونينبيرغ، وهو أسلوب صائب وخاطئ، فالصواب يأتي لكونه فيلماً يأخذ من أعمال كرونينبيرغ أساساً يبني قواعده عليها، ولذا فلا أعتقد أن تجربة العمل ستكون ممتعة لمن لم يتقاطع مع أدواته من قبل، وخاطئة لأنها ستقوم بوضع المتلقي في معيار مبني على المقارنة، وذلك مع أعمال سابقة قد تناولت ثيمات مشابهه مثل (فيديودروم 1983) و(كراش 1996) و(ذا فلاي 1986) والتي ستكون مجحفة لكل من الحقبة والسياق.
إن الطريقة التي يتعامل بها كرونينبيرغ هنا، وكل مخرج قد اكتسبت سينماه سمعة وفناً يمكن للمتلقي تمييزه، إما في عبارة أو فعل أو موضوع، فإن الذاتية التي كانت علامة للأعمال السابقة هي الراوي والرواية في الأعمال الحاضرة، مظهرةً الأشياء بشكل جاف دون تزييت للمرات التي تعبر من خلالها. فمثل فيليني في (مدينة النساء 1982)، وفيرارا في (آخر يوم على الأرض 2011)، وحتى سكورسيزي في (الآيرلندي 2019)، يتصف (جرائم المستقبل) بوعي ذاتي في أسلوبه، حيث يبدو كرونيبيرغ غير مكترث بإحداث أي وصلات مشهديه أو تنشيط لتفاعلات سردية من شأنها تعزيز اتصال المتلقي مع الثيمة، لكنها تأتي بطريقة تخلق للمعنى وضوحاً دون الابتذال، إذ ينبسط أمامنا بطريقة تخلق شكاً لدى المشاهد بأن كرونينبيرغ يخفي شيئاً خلف هذه الصور.
حيث يتمثل (جرائم المستقبل) على تصوير الاستجابة العضوية المباشرة للتطورات التي تحدث في محيط الكيان البشري، وكما هي العادة في سينما ديفيد كرونينبيرغ، يقوم الإنسان بالولوج إلى الداخل لبيان الخارج، طامساً بذلك الحدود الفاصلة بين التكنولوجيا والجسد، لتكون مجازيات الجسد امتداداً لطفرات الواقع. ففي هذا العصر البلاستيكي الذي أصبحت كلمة (طبيعة) نقيض ما هو متعارف عليه بفعل الإنسان، يقوم أخيراً بإحداث التطور في ذاته، فمن خلال ذلك يصنع طعامه، ويتحكم في أورامه، ويتخلص تماماً من آلامه، منتفعاً من الذي (كان) مصيبة لا مفر منها في جسده، لتكون إبداعاً مبيناً للهيمنة اللا واعية لهذا الكيان، فنحن نرى هنا المرحلة التي ينتقل بها الإنسان إلى صورة أكثر من كونه إنساناً، في رحلته إلى ما بعد إنسانيته.
إذ يمكن النظر إلى عالم (جرائم المستقبل) على كونه تعبيراً عن الديستوبيا المجردة، لكوكب الأرض في زمن لا يمكن العيش فيه، حيث لا أدلة على خضرة الأشجار، ولا تورد الأزهار، بل عالم من البلاستيك، جدرانه سوداء، وديكوراته قبيحة وأخرى فارغة، ومبانيه تشبه التي في فن بيكشينسكي الديستوبي، وداخل هذا المحيط الصارخ، يغلف صوت الذباب المشاهد الخارجية، مشيراً إلى أن رائحة الأزقة القذرة هي آخر ما تبقى من العالم القديم، لكن أسلوب الحياة -وهو العنصر الأهم لفهم كل عالم- يكاد يكون معدوماً، فمثل فيلمي كرونينبيرغ (فيديودروم 1983) و(إكزيستانزإكس 1999) تتسم الحكاية بالعزل المجتمعي على الرغم من تناولها الواسع للموضوعات، ويعود ذلك لهدف كسر الحاجز الملموس بين الأبطال والتكنولوجيا، والتكنيك الغالب لدى كرونينبيرغ كان تقنياً من خلال عزل الصورة بالإكثار من التقاط كل شخصية على حدة (مقربة كانت أو متوسطة) والتنقل بينهم والإقلال من دمج الفرد بالعالم الخارجي في الصورة، لكن العزل هنا يأتي في اللقطة الواسعة عبر استخدام الديكور القاتم وتركيز الضوء على اللب، فلا شيء يتلألأ في (جرائم المستقبل) مثل الجسد.
كما يرتبط هذا العالم القاتم ارتباطاً طردياً بإزالة الإحساس الفعلي للكائن البشري، حيث تتبدل المتع الحسية إلى أفعال تعتمد على فتح الأغلفة الخارجية وكشف دواخل الأجساد التي لم تعد تنفر من التشوهات، لتكون المهمة ليست في إعادة العالم على ما كان عليه، بل في التموضع على هذه الأرض الجديدة، فبطلنا هو شاول تينسر (فيغو مورتنسن)، فنان الأداء الذي تندرج أعماله تحت (متلازمة التطور السريع) والتي تتمثل في النمو السريع للأعضاء وتشكيلها واستئصالها أمام الجمهور من خلال عمليات جراحية يشبه تجسيدها لوحة عيادة غروس للرسام توماس إيكنز، ويُجري هذه العمليات لشاول شريكته في الأداء كابريس (ليا سايدو)، التي تجسد وعياً يرتبط كثيراً بالطبيعة القديمة، حيث تتقاطع خطوطها برفقة شاول مكتباً لتسجيل الأعضاء الجديدة يتمثل بشخصيتي تيملين وويبيت، تقوم مهمتهما على رصد التطورات البشرية وتصنيفها وأرشفتها ودعمها، ليتضح مع مرور الأحداث أن المكتب ليس إلا تجسيداً صريحاً للصورة البيروقراطية من حيث المراوغة وعدم اتضاح النوايا. وفي جانب آخر هناك المحقق (كوب) من وحدة الرذيلة الجديدة، الذي يسعى إلى إخماد المنظمات السرية التي قد تبث تطوراً إنسانياً من شأنه إحداث ردة فعل مجتمعية مهددة لأسلوب النظام القديم للحياة.
وفي الرحلة هذه يأخذنا إبداع الفنان إلى آفاق جديدة من الوعي، لنشهد من خلاله طفرة فنية في سياقها الإبداعي، وتطوراً لدهشة التلقي في عالم يخلو من الألم باعتباره مكوناً للدائرة الحسية لدى الإنسان، وعنصراً قد استقى منه لذةً في أوقات مضت. حيث يقوم الفنان شاول باستخدام أكثر ما هو عفوي فيه، ليخلق من إرادته سلطة على دواخله المحجوبة، فجسده وأحشاؤه وسيلة لفنه، وموضوع رئيس لإبداعاته، لكن كرونينبيرغ لم يأت من المستقبل بصفته مبشراً، بل إن في أسلوبه خطاباً يميل إلى الجدية تارة وإلى السخرية في الأخرى، وكعادة كرونينبيرغ يصبح إرباك النكتة هو التحالف الأمثل مع الحقيقة، فالتجربة التي يحدثها فن شاول تينسر لدى متلقيها وإن كانت غريبة وشهوانية عند بعضهم، فإنهم سيجدون لهذه الأعمال أبعاداً جمالية ومسارات سياسية تتوج من التجربة (لا من العمل نفسه)، وترتقي بها لأعلى درجات السمو، ومثلما حدث تماماً في (كراش 1996)، يأتي ذلك تبريراً لكل ما تحدثه غرائب الأفعال، وتفسيراً يرشد الشعور إلى المعنى.
لكن شاول وعلى الرغم من اعتباره نموذجاً للتقدم ومسيحاً على هذه الأرض الحالكة، إلا أن في كراهيته لفنه وذاته دوراً راسماً لعلاقته بما يحيطه من فِرق، إذ يسعى عبر هذا التردد بين الازدراء والرغبة إلى التخريب على أتباعه والمجتمعات المحتفية به من خلال تخابره السري مع وحدة الرذيلة الجديدة التي تسعى لإبطال هذه الطفرات، إلى أن يلتقي شاول بشخصية تدعى لانغ، رجل يمثل الراديكالية بأوج صورة لها بقيادته لمشروع يتمثل بزراعة جهاز هضمي جديد يتلاءم مع هذه الطفرة البلاستيكية، وخلفه مجموعة ضخمة من الثوريين ومصنع يقوم بإنتاج طعام بلاستيكي على شكل قوالب حلوى، والأهم من كل هذا تلاؤم المشروع مع مشكلة أمعاء شاول التي لم تعد قادرة على هضم الطعام القديم، لكن لقاء لانغ جاء لكي يطلب من شاول تشريح ابنه إيركين هدفاً لاستعراض جهازه الهضمي القادر على مضغ البلاستيك، وكل ما يعده العالم القديم ملوثاً بشكل فطري تماماً.
إلا أن في فعل لانغ لنزعة تكسبية تجرى على جثة هامدة لا تملك قراراً في ذلك، ومن جانب آخر تتمكن وحدة الرذيلة الجديدة من الوصول لجثة إيركين المتصلبة لإخماد الحقيقة. إن في هذا التضاد لسعارين، بين راديكاليين يسعون بعداء نحو التقدم، ونظام يُحدث التشويه إحكاماً للسيطرة، ومن النقطة هذه تأتي الجريمة المشار إليها في عنوان الفيلم، والتي يصبح إيركين فيها قرباناً لهذا العالم المقفر من المشاعر، ولأن الوعي المرتبط بالفطرة القديمة مصمم لكابريس فإنها تمثل الصرخة التي تقوم بإيقاظ شاول من الشكوك التي لم تفارقه.
مكتب بيروقراطي، وثوار يحملون جثة، وسلطة تخريبية في كوكب أرض غير مأهول، فلا يمكن ألا نلمح ملاحم أدب الخيال العلمي، لكن بالإمعان في خصائص (جرائم المستقبل) السينمائية فإنه سيبدو لنا دينياً، بطابعه الطوائفي، وبطله الذي يرتدي زياً أسود كما لو كان راهباً من زمن بعيد، أما عن النهاية فهي تؤكد لنا روحية الحكاية، حينما يُمسك شاول بقطعة الحلوى البلاستيكية ليقطع شكوكه بتناوله لها، معلنة، دموعه المنهمرة بعدها، عن خلاص قد انتظره طويلاً، ومن هنا يلتقط كرونينبيرغ شخصية شاول من خلال وسيط رقمي لنرى الشخصية وكأنها ماريا فالكونيتي من فيلم كارل ثيودور دراير (آلام جان داراك 1928) في عالمنا الجديد.

ذو صلة