مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

هل نحن الموتى السائرون؟

تظهر قوة الإرادة عند الإنسان في الأزمات التي تطرأ على المجتمعات القوية جداً أو على ما يصيب الحضارات في لحظات مصيرية تتعرض لها الأمم بشكل عام، فالتشبث بالحياة هو وليد حب البقاء والاستمرار في النهضة والبناء، ليتعافى الإنسان أو الأصح لتستمر الأجيال وفق تسلسل حياتي لا مهرب منه في ظل الكوارث التي تصيب البشرية خصوصاً عندما تخلو الإنسانية من عمل الخير أو عندما لا يحب الإنسان لغيره ما يحب لنفسه. (إذ يحاول الناس توجيهك للاتجاه الصحيح، لكنهم يعجزون عن أن يجعلوك ترى السبيل الملائم لك) والخلاصة عليك إيجاد خلاصك بنفسك، وبوعي ذي وتيرة تفاؤلية بعيداً عن اليأس والاندفاع نحو الانتحار خصوصاً عندما تزداد شراسة الأزمات، ويصبح قتل الإنسان لأخيه الإنسان هو الدافع للاستمرار.

ففي مسلسل (الموتى السائرون) أو (The Walking Dead) المؤلف من عدة أجزاء تفوق العشرة، وكل جزء من عدة حلقات تثير موضوعات مختلفة بعناوين تعالج إنسانياً ما يحدث أثناء انتشار الفيروسات أو الحروب البيولوجية طويلة الأمد، وغير معروفة الأسباب، وهو مقتبس من سلسلة كتب مصورة كتبها (توني مور) و(تشارلي أدلارد) و(روبرت كيركمان) وبمعالجات درامية لسيناريو قوي حوارياً تم كتابته من قبل العديد من الكتاب. فهل اعتمد كتاب هذه الملحمة الدرامية التي تعنى بالمحافظة على الإنسانية حتى الرمق الأخير بنظرية النافذة المكسورة، والتي تقول «حافظ على النافذة سليمة يسلم المجتمع»؟ وهل لكل شيء نقطة عودة؟ أم أن البعض يحاولون توجيهك للاتجاه الصحيح، لكنهم يعجزون عن أن يجعلوك ترى السبيل الملائم لك؟ وهل الخوف من الأحياء أكبر من الأموات الذين يشكلون تهديداً على المجموعات التي تشكلت وقوانينها الخاصة؟
قوة مشاهدة حققها مسلسل (الموتى السائرون) تخطت الستة ملايين مشاهد تابعوا الأجزاء التي يبدو أنها ستكتمل أيضاً بالجزء الثاني عشر في الأعوام المقبلة، وقد بدأ منذ عام 2010، ولم ينتهِ بعد حتى عامنا هذا، إذ على الأرجح سيتم استكماله، فالتشكل المنهجي للمخلوقات يتخذ عدة أبعاد لأنهم موتى ولكنهم يسيرون وانتشار الفيروس سببه عضة شبيهة بداء الكلب. وهذا فتح الرؤية الدرامية على عمق إنساني وآخر مرتبط بالمواقف والأحداث التي تتسلسل تلقائياً بثقل درامي يجعل الإنسان هو الأهم من المخلوقات الزومبي التي تصبح ثانوية عند جيل جديد ينشأ ولا يعلم شيئاً عن العالم القديم، وهو العالم الذي نعيشه حالياً. وهذا لا يسمح لكتّاب سيناريو هذا المسلسل أن يصلوا إلى طريق مسدود لمعرفة مصير الأشخاص الذين اختفوا مثل قائد المجموعة ريك الرجل الذي كابد الصعوبات لبناء وطن لأشخاص التفوا حوله واستطاعوا تأمين السلام لمن هم داخل المستوطنة، إذ حاول الحفاظ على حياة زوجته وابنه، ومن ثم ابنته التي تركها قبل أن يختفي تاركاً صديقته المرأة السوداء المقاتلة بشراسة بعد أن خسرت هي أيضاً بسبب الموتى السائرين زوجها وابنها في تولي قيادة المجموعة التي نجت واستطاعت بناء السور، لتحافظ على سلامة وجودها ووجود الآخرين من الذين ضحوا بأنفسهم من أجل سلامة الضعفاء منهم، لترتبط بريك غرايمز قائد المجموعة الذي استطاع أن يربح الصراع مع البشر قبل أن يختفي على الجسر الذي يربط بين مجموعات من ناجين يتعاونون فيما بينهم، فلا يمكن أن يتصور الإنسان أنه هو عدو نفسه في الأزمات أو الكوارث التي تؤدي إلى تدمير الإنسانية، والسؤال الأكبر والأهم أثناء كل ذلك هو ما الذي ينتظرنا في المستقبل؟ وهل سنعود إلى نقطة الصفر في عالم دمر نفسه بنفسه؟ وهل نخاف من الفيروسات أن تجتاحنا، ونحن نقتل بعضنا البعض عندما تتقطع بنا السبل؟ وجملة رحمتي سبقت غضبي في ملحمة كهذه تثير الكثير من علامات الاستفهام التي من شأنها أن تضعنا أمام سلوك إنساني يهدف إلى زرع الرحمة في القلوب عند الشدائد الفجائية التي تقع في العالم. فماذا فعل (ريك غرايمز) الذي قام بدوره الممثل (أندرو لينكولن) غير ذلك وهو يحاول حماية مجموعته من الأطماع الإنسانية، لأن الموتى هم موتى ويمكن منحهم السكينة والراحة والتخلص منهم لأنهم أموات بينما المجموعات الأخرى من الأشرار هي الأشد ضراوة في حرب البقاء والعودة إلى بناء حضارة من جديد، بل الخوف الحقيقي من تحول الإنسان من إنسان إلى ذئب.
لا ندرك قيمة النعم الحياتية إلا بعد فقدانها وهذا تماماً ما نشعر به ونحن نتابع حلقات هذه الملحمة التي تُعنى بزرع الإنسانية في النفوس عند الشدائد أو عندما تصاب الحضارات بغيبوبة مرضية سببها الفيروسات البيولوجية أو الأحرى الحرب البيولوجية التي تفتك بكل شيء، وتتسبب باضطرابات اجتماعية داخلية، وانحطاط أخلاقي سببه انهيار القوانين عندما يبدأ حتى التدمير الذاتي في العوالم، وإن بدت الفكرة هزلية مرعبة خصوصاً عندما نصل إلى الملك حزقيال ونمره الذي يأخذ الكثير من معاني مسرحيات شكسبير في خضم المأساة التي أصابته بمقتل زوجته ومحاولته الحفاظ على حياة جماعته وابنه، ومع ذلك يموت ابنه وتقع كارثة أخرى وهو الذي جعل مركزه المسرح التراجيدي موقناً أن ما حدث من رعب فيروسي هو مسرحية تراجيدية هم أبطالها، ويقوم هو بدور الملك الذي يرعى شعبه من المخاطر، لكنه بداية رضخ لضرائب مجموعة شرسة تهدده بقتل كل من في مجموعته ما لم يقدم الغذاء لهم أو مما تنتجه مجموعته التي استطاعت أن تأمن من الموتى السائرين، لكنها لم تأمن من الإنسان الأكثر شراً من فيروس أصاب العالم بالجنون، وبالتالي انهياره على رؤوس الأقوياء الذين قاوموا للبقاء والاستمرار في الصراع لتستمر الحياة. فهل عامل الإثارة الأكبر في هذه الملحمة هو السيناريو الملتحم حوارياً بقوة حبكة درامية ذات تطورات لا يمكن تخيلها، وتصيب المُشاهد بالذهول بحيث لا يمكنك التخلي عن أي مشهد فتفقد قيمة الحدث الدرامي القادم؟ أم أن الحدث الدرامي الموسيقي لا يقل أهمية عن البصري، فالسمعي استطاع بث قوة الترقب للحدث سمعياً، والتنبه للمشاهد أكثر خصوصاً عندما يبدأ الصراع مع الهماسين والحصادين، إذ بلغ التشويق منتهاه وأصاب المشاهد بالذهول. فهل يستطيع المشاهد ترك المتابعة دون التفكير بمصير المجموعات واقتتالها من أجل البقاء؟ وهل قوة الفكرة هي في السؤال الكبير ماذا سيحدث للبشر في حال الانهيار الحضاري وفقدان كل التكنولوجيا الحديثة من اتصالات وتواصل وتعذر تأمين الغذاء والدواء؟ وهل نحن مستعدون لحرب بيولوجية قد تصيبنا بالفناء؟ أم أن التنبؤ المستقبلي في مسلسل الموتى أو الزومبي هو ناتج معادلة حرب بيولوجية غير معروفة الأسباب تدفعنا نحو البحث عن أهمية الحفاظ على النوع الإنساني المحب للخير والقادر على إعادة بناء الحضارات بعد دمارها؟
عالم جديد ندخله مع ريك غرايمز بغرابة مطلقة هو عالم جديد مأساوي اختفى فيه كل شيء من مميزات الحضارة والناجي الوحيد هو الجبان يوجين الذي يعكس الكثير مما يمكن أن يخفيه عن نفسه والآخرين الإنسان الذكي في المآزق، إذ يستطيع إنقاذ نفسه بشتى الطرق، وهو موظف سابق في مراكز السيطرة على الأمراض ومحاولة الوقاية منها بأي طريقة وهو الضعيف قتالياً، لكنه صاحب المعرفة بالأوبئة أو بالكثير من العلم الذي يتسلح به والماكر في اعتماده على الآخرين لينجو، إلا أنه في ظل كل الأحداث التي اشتدت على الوجود الإنساني أصبح يحاول البقاء على قيد الحياة مع مجموعة تستطيع تأمين احتياجاته مقابل منحهم اختراعات يصنعها بالقليل من المواد التي يؤمنونها له، وهو الذي كاد أن يسقط مغشياً عليه أمام نيغان وضراوته في القتل، لأنه فقد كل المؤهلات الأخرى، لكنه سرعان ما اكتسب صناعة الرصاص، وصناعة الأدوية المخدرة وصنع لاسلكي بعد أن انضم إلى نيغان صاحب العصا المسماة لوسيل، وهو المتسلط الذي أنشأ مجموعة تُعنى ببعضها البعض من خلال قوتها في فرض الضرائب على غيرهم، ليعيشوا من خلال ما يفرضونه من قرارات مجحفة على الضعفاء، وهو الذي فتح الصراع على أشده مع ريك دون أن ينسى كل كاتب للسيناريو التركيز على صفات كل شخصية من كل النواحي الجسدية والنفسية والسلوكية، وطرائق التفكير، وهذا منح الشخصيات ملامح درامية قوية مثل النشّاب داريل أو الصديق الأقوى لريك دون أن ننسى هيرشل وبناته والتناقض بينهم الذي يفتح أبواب بيته لمجموعة تتطور وتكبر، وتضم الكثير من الأشخاص الذين يتكاتفون من أجل الوصول إلى بناء مجتمع سليم يعيشون فيه إلى أن تتضح معالم الفيروس المُسبب للموتى السائرين، وما نتج عن ذلك من مجموعات متناقضة كلياً مثل مجموعة من الهماسين الذين يحاولون أن يندمجوا في حياة الموتى في البراري للحصول على الغذاء والأمن للتعافي من فيروس يحولهم إلى موتى يسيرون حيث نستكشف معهم قوة الحفاظ على البقاء بأفكار منطقية جداً لشخصيات أتقنت إيصال دراما الملامح التي تختزل الكثير من المشاعر، كما شخصية داريل وهو النشّاب أو مطلق السهام، والبارع في حماية الآخرين ومنحهم الاستمرار في الحياة، لأنه لا يستطيع العيش لوحده بعيداً عن الأشخاص الذين يحبهم ويحاول حمايتهم بشتى الطرق. فهل لكل مشهد حبكة تصويرية لا تقل أهمية عن السيناريو وتطورات الأحداث؟ أم أن المكان والديكور وتهويل صورة الموتى هو رعب يصبح استثنائياً عندما نستكشف شراسة الإنسان في الكوارث التي تقع فجأة في المجتمعات؟ وهل علينا الاهتمام بالمعنى الإنساني كسلاح أهم للبقاء؟ وهل يجب على النظام العالمي الجديد أن تتوحد فيه العوالم إنسانياً ليستمر الجنس البشري في التطور واستكمال مشوار الحياة؟ أم أن مستنقع الأمراض البيولوجية وما ينتج عنه أكثر رعباً من الموتى السائرين؟
كل إنسان خطر على أخيه الإنسان هو فيروس قاتل أشد فتكاً من الفيروس البيولوجي، وهذا لمسناه في الحاكم الذي قام بدوره (ديفيد موريس) الذي يتفرد في القيادة ولا يحب الجماعة، لأنه قيادي أناني تجنب الفوضى الخارجية باستخدامها في الحفاظ على حياة ابنته التي تحولت للموتى، ليطعمها البشر الآخرين الذين يصطادهم لتبقى، على عكس كارول التي قامت بدورها (ميليسا ماكبرايد) والتي قررت اتخاذ عدة قرارات منفردة دون أن تستشير المجموعة التي تعيش معها، لتحافظ على حياة الآخرين ضمن قناعتها الشخصية بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي شخصية من الشخصيات قبل أن تنفد كل السبل في معالجتها للأمور، وقد نجح الكتّاب في ذلك، فالمسلسل كتبه مجموعة من الكتاب لكل منهم تاريخه الدرامي، فمنطق الشخصيات وسلوكياتها هو رسم بياني لحياة تسلسلية، وكأن كل فرد فينا يسلم الراية لآخر إلى أن ينتهي دور كل إنسان على الأرض. فهل يجب على الحياة أن تستمر في ظل إمكانية أن كل شخص يمكن أن يموت في كل لحظة ما لم يتوقف دماغه عن التفكير؟ أم أن من زرع شجرة كأنما زرع الحياة بأكملها بالخير؟ وهل هذه الملحمة تمنح الفكر رؤية مهمة لمستقبل بشرية يمكن لها أن تنهار بسرعة ما لم نتنبه لأخلاقيات وسلوكيات الإنسان في المجتمعات كافة دون استثناء؟ وهل هذه الملحمة هي حكاية البداية من الصفر لمجتمعات وصلت إلى الذروة وانهارت؟ أم هي لاكتشاف أهمية قوة الخير والنضال إنسانياً من أجل الذات والآخرين؟

ذو صلة