انطلقت المسيرة الفنية الحافلة للفنان التشكيلي الفرنسي، رائد المدرسة الانطباعية بيار أوغست رينوار (1841 - 1919م)، وهو في ربيعه العشرين، بانضمامه إلى محترف الرسام شارل غراير، رفقة الرسامين الشابين -آنذاك- كلود مونيه وكاميل بيسارو، وهما من أقنعاه بأن الرسم الحقيقي في الطبيعة/في الخارج، وليس داخل الفضاءات المغلقة، وهكذا بدأت رحلته الانطباعية، وشارك في معارض زملائه الانطباعيين المتمردين على الفن الرسمي السائد آنذاك، وانطلق في ممارسة شغفه بتصوير تعابير الوجوه في لحظات ابتهاجها واقتناص مشاهداته اليومية، مديراً ظهره للوجه القاتم للقرن التاسع عشر، كأنما يحتفي بابتهاج الفرنسيين وحبهم للحياة، وتعد لوحة (السيدة شاربانتيه وبناتها) 1879م باكورة نجاحه، فهي اللوحة التي كرسته كفنان بورتريه بامتياز.
ولكي يكسر روتين الانطباعية، فقد سافر خارج فرنسا، بحثاً عن ثيمات جديدة، وآفاق أخرى لتفجير طاقاته الإبداعية، وكغيره من الفنانين الأوروبيين، الذين شغفوا بالشرق وعوالمه الساحرة، سافر رينوار إلى الجزائر ومن ثم إلى إيطاليا في عام 1881م، وإثر تعرضه لأزمة حادة نتيجة للإصابة بالالتهاب، اضطر أوغست رينوار إلى البقاء في الجزائر ستة أسابيع، حيث اطلع على أعمال يوجين ديلاكروا، وقد ظهر تأثير تلك الزيارة في الكثير من لوحاته.
ويشير الناقد إبراهيم العريس إلى أن رينوار قام برحلة إلى الشمس ومكامن النور واللون، بحثاً عن إلهامات أخرى غير تلك التي توفرها شمس الجنوب الفرنسي. ولعل أبرز ما أسفرت عنه تلك الرحلة أنها وفرت لفنه خصوصية واضحة من دون أن تقطع بينه وبين الانطباعيين. أو بالأحرى وصلت فنه بتلك التقاليد النهضوية - الاستشراقية البديعة التي كان أوجين ديلاكروا قد رسخها في أعمال كبيرة لا تزال تُدرس وتَفتن حتى الآن. طبعاً لا يمكن الزعم هنا أن رينوار قد أوصل فنه (الشمال أفريقي) إلى المستويات التي أوصل إليها سلفه الكبير ديلاكروا فنه في هذا السياق، حيث يبدو ديلاكروا متميزاً دائماً، وعلى الأقل في اختيار مواضيعه وبعدها التاريخي وربما البعد الواقعي التاريخي الذي اتّسمت به. لكن في المقابل عرف رينوار كيف يميّز فنه المستلهم من أجواء تلك المناطق من العالم، ويعطي صفاء لألوانه يفوق صفاء لوحاته (الانطباعية) الخالصة.
ووفقاً للعريس، فإذا كان في إمكاننا أن نتحدث عن فرادة لرينوار، لا بد لنا أن نتوقف عند تلك اللوحات (الشمال أفريقية)، التي تبقى نسيج وحدها، والتي في الوقت نفسه امتدت في تأثيراتها لتطبع عدداً كبيراً من لوحات تالية له لا علاقة لها بأجواء الشمال الأفريقي لكنها استمدت منه الروح وحدّة اللون وأحياناً شكل الأزياء والبعد التشكيلي للأجسام المرسومة بشكل يخيّل إلى المرء معه أن المواضيع المرسومة آتية أيضاً من هناك، قبل أن يكتشف أن الموديلات هنّ وهم من أهل البيت، أعاد رينوار تشكيلهم باستلهام مباشر من تلك الأبعاد البصرية التي احتفظت بها ذاكرته ودفاتره من الرحلة إلى الجزائر، ومن ذلك مثلاً لوحتاه التوأمان (الراقصة ذات الرقّ) و(الراقصة ذات الكاستانيات)، اللتان رسمهما معاً عام 1909 م، تبدوان مرتبطتين بالعديد من اللوحات (الشمال أفريقية)، التي كان قد رسمها قبل سنوات عديدة أكثر من ارتباطهما بما كان يرسمه في ذلك الحين.
ويضيف الناقد اللبناني أننا (نرى الاختلاف البَيِّن بين الانطباعية الصريحة الصارمة والتحديث الذي طرأ على لوحات رينوار جلياً عند مقارنة لوحتين مثل (انطباع شروق الشمس) لكلود مونيه التي رسمها عام 1872، واتخذت منها الانطباعية اسمها، مع لوحة رينوار (طفلة مع هرة) التي رسمها عام 1887، بعد عودته من الجزائر وإيطاليا ببضع سنوات).
من اللوحات التي رسمها رينوار في الجزائر: مسجد الجزائر، احتفال العرب، حديقة التجارب في الجزائر، مزرعة الموز، مشهد طبيعي جزائري، واد المرأة المتوحشة، شابة جزائرية، امرأة عربية. وبسبب طبيعة المجتمع المتدين، لم يتمكن رينوار من رسم النساء العربيات في الشارع، فكان يطلب من نساء أوروبيات أو شابات يهوديات أن يرسمهن.
انعكست تجربة سفر رينوار إلى الجزائر، وزيارته لإيطاليا على أسلوبه في الرسم، فبدأ يميل نحو التشكيل الواضح لعناصر اللوحة، متجنباً التجريد والانسيابية، فحفر مساره الفني الفريد، بعيداً عن الانطباعية، قريباً من الواقعية، من خلال لوحات تتسم بالدفء والنعومة، وتحتفي بالنور والبهجة، ولا غرو أن يخلص هذا الفنان الطليعي المتفائل للريشة والألوان المبتهجة، رغم الإعاقة وتقدم السن.