حينما قرأت كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (ما بعد الصحوة تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد)؛ تمنيت لو أنه تأنى قبل إصداره؛ وذلك لأنه غلّب فيه المنطلقات الذاتية على الموضوعية العلمية، والسبب في ذلك يعود إلى أن الدكتور لم يعدّ للموضوع إعداداً علمياً معرفياً، وإنما تناول الموضوع من خلال مشاهداته الذاتية المحدودة. هذه المنطلقات الإجرائية الوهمية تسببت في الوصول إلى نتائج غير صحيحة وغير واقعية.
إن عنوان الكتاب (ما بعد الصحوة.. تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد)؛ يشير إلى أن الكتاب سوف يتحدث عن ما بعد الصحوة. ويشير إلى أن حالة (الحشد) التي ذكرها في مقدمة الكتاب حدثت بعد الصحوة. والحقيقة أن الكتاب تناول حالة الصحوة ذاتها التي حدث فيها (الحشد). كما نلحظ في العنوان الفرعي (تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد) أنه لم يتناول في الكتاب حالة التفرد التي سبقت حالة التعدد، ولم يأتِ بأمثلة عليها. وعليه فالعنوان الرئيس والعنوان الفرعي غير مطابقين لموضوع الكتاب.
يقول الغذامي : (الصحوة ظرف ثقافي حالها وصفتها كحال وصفة أي ظرف ثقافي آخر، وكل ظرف ثقافي يدخل مرحلة النضج فإنه يسود ويسيطر ويعمر أفق الاستقبال حتى ليطغى على المشهد كله، اجتماعياً وسياسياً وسلوكياً، وبمثل ما يسود ويسيطر فإنه يتراجع وينحسر حين يتشبع ويتوقف عن التغذية الحافزة والمحفزة. ومن قبل الصحوة كانت ( القومية العروبية) ظرفاً ثقافياً كاسحاً، وامتدت عشر سنوات، كانت فيها ذروة المعنى العربي في الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، بدءاً من 1956 حين أعلن جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس في موقف تفجرت معه المشاعر العروبية... حتى جاءت هزيمة 1967 ليتعرض الشعار القومي لنكسة معنوية أحدثت فراغاً رمزياً عميقاً).
هنا حدد سبب الصحوة الإسلامية بأنه هزيمة 1967، وهذا السبب قد ينطبق على مصر وعلى بعض البلدان العربية، ولكنه لا ينطبق على السعودية وعلى دول الخليج العربي.
وفي قوله: ...ومن قبل الصحوة كانت (القومية العربية) ظرفاً ثقافياً كاسحاً، وامتدت عشر سنوات... بدءا من 1956... حتى جاءت هزيمة 1967... ولقد امتدت الصحوة مدة زمنية مماثلة لمدة العروبية بعشر سنوات من 1987 إلى 1997...
يجب الوقوف والتأمل في هذا القول:
إن قياس الصحوة بالقومية العربية هو قياس غير واقعي. وضربه للمثال كان غير موفق. فالدكتور الغذامي يمثل بوقائع الناصرية ويسحبها على القومية العربية ككل. فالحشد الناصري كان له زخم وانطفأ الزخم بهزيمة 1967. فالحشد كان لرمزية عبدالناصر وليس للفكرة القومية. وهذا بيّن، فبعد وفاة عبدالناصر سنة 1970 تحول كتاب (الميثاق) لعبدالناصر من كتاب ملهم للجماهير ومقرر على طلاب المدارس في مصر إلى كتاب ينتمي إلى تاريخ أدبيات الفكر القومي وحسب، والسؤال: هل القومية العربية قد انطفأت في هذا التاريخ؟ الجواب هو: لا؛ لأن هنالك دولتين عربيتين كان قد وصل فيهما حزب قومي عربي لسدة الحكم. وأعني هنا حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل في سوريا للحكم سنة 1963، ووصل إلى الحكم في العراق سنة 1968. وكلاهما استمر في الحكم أكثر من أربعة عقود. واستمر في سوريا إلى الآن، وكلاهما كانا يتمتعان بالحشد؛ إذن فهزيمة 1967 ضربت الفكرة الناصرية بمقتل لكنها لم تقتل أحزاباً قومية أخرى. علماً بأنه كان هناك خلاف بين الفكر القومي الناصري والفكر القومي البعثي، كما كان هناك خلاف بين حزب البعث السوري وحزب البعث العراقي، خلاف وصل لدرجة القتال والتصفية الجسدية.
والسبب في خطأ الدكتور الغذامي أنه أراد أن يكتب بدايات الوقائع ونهاياتها، بوصفه شاهداً عليها، فبدايات القومية العربية عنده هي تأميم قناة السويس عام 1956، ونهاية القومية العربية هي هزيمة عام 1967.
يقرر الغذامي ابتداءً أن الصحوة ظرف ثقافي؛ ليقول بعد ذلك (إن الصحوة تابعة لظرفها، ومتى انتفى هذا الظرف انتفى وجودها). وهذا أمر معروف لكنه غير دقيق على إطلاقه، فحكم تعميمي مثل هذا لا يمكن التوصل إليه إلا بعد سبر وتتبع؛ وإلا أصيب البحث بحالة من السطحية والسذاجة.
كما إن استعمال شرط الظرفية على حالة التحول استعمال غير دقيق، وسبب اللبس هنا لغوي معنوي، فما بعد الصحو هو النوم، وما بعد النوم هو الصحو. هذا هو المعنى في اللغة. فالغذامي اعتبر أن التحول حالة قدرية لازبة، وواقعية شرطية. والحقيقة هنا أن التحول الأصل فيه أنه معنوي صرف. ولنفرض أن مصطلح الصحوة لم يسك. فهل يعني ذلك أن أحداث (الحشد) و(التدين) لن تحدث. إن المحرك ليس المصطلح بعينه وإنما (الحالة) و (الصيرورة). فالعبرة بالمعاني لا بالألفاظ.
ملخص ما أريد قوله: (إن الأفكار تتجه حيثما اتجه البحث وليس العكس). كما أن الظرفية تمس التدين ذاته. وكما نعلم، هناك من يرى أن التدين ذاته حالة ظرفية ينتفي بانتفاء علته أو ظرفه.
إن نتائج اختبار الحالة هنا لا يساعد على تفكيكها، خصوصاً وأن الغذامي اختار مصطلحاً قابلاً بطبيعته الدلالية للتحول من حالة إلى نقيضها. وما فعله الغذامي يعتبر توجيهاً مخلاً لمسار البحث.
ثم إنه لم يذكر لنا الظرف الذي انتفى لكي تنتهي الصحوة وتتحول إلى أمر لا يملك القدرة على (الحشد). ولو سلمت له جدلاً بصحة السبب الخاص الذي قاله - وهو عدم القدرة على الحشد عندنا - فهذا لا يعني أن هذا السبب قابل للتعميم؛ لأن الصحوة الإسلامية مازالت تحشد في أفغانستان وفي غزة وفي وإيران، وداعش والقاعدة مازالتا تحشدان.
إن الصحوة لم تنتهِ عندنا بسبب الخلافات الداخلية، وإنما انتهت عندنا لتحول برنامجها إلى ممارسة العنف والإقصاء والفوضى. هذا سبب ما حدث عندنا وسبب ما حدث عند غيرنا. ثم إن التحول إلى الحشد النفعي كان مدفوع الثمن.
ادعاءات بلا دليل
يقول الدكتور عبدالله الغذامي في الفصل الأول (علامات الصحوة)، وتحديداً في موضوع (حشد الصحوة):
(... ولقد صار الحشد الصحوي مصطلحاً لأنه علامة على تغير ثقافي واجتماعي من حيث هي حالة استقطاب ...)
إن مصطلح (الصحوة الدينية أو الإسلامية) مصطلح معروف ومستعمل عند الإسلاميين وعند غيرهم، لكن مصطلح (الحشد الصحوي) لم يسبق له أن وجد في استعمال الإسلاميين، ولا في استعمال غير الإسلاميين، كمصطلح دارج.
وقد أتى هذا الادعاء في سياق حديثه في الفصل الأول (علامات الصحوة)، وتحديداً في (الحشد بوصفه علامة).
نعم يوجد مصطلح (الصحوة) أما (حشد الصحوة) فتعبير لا وجود له.
تاريخ الحشد
لم يكن الحشد الجماهيري من بدع هذا الزمن المتأخر، بل له وجود واضح ومؤثر في تاريخنا. وهو مرتبط غالباً بالأزمات الكبرى التي مرت وتمر بالأمة الإسلامية. وكان يطلق عليهم الرعاع والهمل والسوقة، وحينما هذبوا هذه الألفاظ أطلق عليهم لفظ (العامة). وهذا المصطلح مرتبط بحواضر المدن الكبرى غالباً، وكثيراً ما يمر علينا في التواريخ مقولة : (وفيها قام العامة بمنع...)، وكما نعرف فإن الصحوة في صفوفها الكثير من العامة والسوقة، وإن تزيت بزي الدين إلا أن حراكهم كان بعيداً عن مواقف علماء الأمة المضادة للطيش والنزق.
إنني أرى أن الفرق بين (حشد العامة) في الأمس و(حشد الصحوة) اليوم أنها في الزمن المتأخر أصبحت أكثر التصاقاً بالتدين الراديكالي المخالف للتدين التقليدي.
والسبب توافر ظروف التدين السياسي، والذي من شروطه الالتصاق بالسوقة والهمل والرعاع. فالإسلام السياسي وقوده الجماهير. والجماهير هي مستودع السوقة والرعاع والهمل والعامة. وقد أتى التصالح مع العامة التي كانت منبوذة ومهمشة بسبب أنها قدمت للساحة على أنها صحوة دينية واجتماعية، وبشكل أوضح إن العامة أعيد إنتاجها باسم الصحوة؛ لكي يروج مشروع الإسلام السياسي من خلال زخم الجماهير وضغطهم الغوغائي.
الذاتية في طرح الغذامي
مفتاح الدخول إلى عالم الدكتور عبدالله الغذامي هو الذاتية ثم الذاتية، فهو يؤرخ الوقائع من خلال ذاته، ويحللها من خلال ذاته. فما عايشه أو أدركه هو المحدد للوقائع وأسبابها عنده. ولنأخذ مثالاً محدداً لذلك.
هذا المثال، هو تأريخه لظهور الصحوة وتأريخه لنهايتها. فالغذامي حدد ظهورها بعام 1987.
يقول في هذا التحديد الزمني: (حين ظهرت الصحوة في 1407/1987 تحركت بقوة بشرية وتكتيكية أذهلتنا وربما أرعبتنا بقدرتهم على الاحتشاد بسرعة فائقة...).
إن أكثر من كتبوا عن الصحوة أو أرّخوا لها يعيدون تاريخها إلى بدايات السبعينات، وهي المرحلة الساخنة في الحرب الباردة، إذ ظهرت فيها علامات التدين مثل إطلاق اللحية وتقصير الثوب والتهافت على الكتاب الإسلامي. وفي السبعينات حدثت أحداث ذات طابع إسلامي مثل حادثة (الكلية الفنية العسكرية)، وحادثة جماعة (التكفير والهجرة)، ثم وصول الخميني لسدة الحكم في إيران وإنشاء الجمهورية الإسلامية، ثم حادثة اقتحام الحرم المكي بقيادة جهيمان العتيبي. في هذه الفترة التي عايشت فيها الحالة الدينية المستجدة عن كثب وكنت جزءاً منها أعاد التيار الديني في كل مكان تقريباً تنظيم صفوفه وأصبح الكتاب الإسلامي أكثر رواجاً وحضوراً، ووظف شريط الكاسيت كأداة جديدة في الدعوة. وكانت خطب عبدالحميد كشك تملأ الأجواء في كل مكان. كما تم في هذا التاريخ التعرف والترويج للشيخ محمد متولي الشعراوي.. هذا الكلام معروف ومشاع. وعليه فلا يخدم الحقيقة والواقع أن الغذامي جعل حدود معرفته هي الفيصل في الطرح والترجيح، مع أن واقع الحال بخلاف معرفته وحدودها، ولا أكون مبالغاً إذا قلت أن كتابه يطفح بالذاتية التي لا مكان فيها للموضوعية.
وكما قلت سابقاً إن الدكتور الغذامي حدد هذا التاريخ بعد أن خطَّأ التواريخ الأخرى، لأنه أراد أن يتحدث عن هذه الواقعة كشاهد عيان ومشارك في الحدث، وهو ما تسبب في تهافت خطاب كتابه (ما بعد الصحوة تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد) وجعله لا يصمد للنقد العلمي.
أريد أن أسأل الدكتور الغذامي ألا يوجد حشد قبل عام 1987؟ وعن أي (صحوة) يتحدث؟!
خصائص الخصائص
يقول الغذامي تحت عنوان (خلاصة الصحوة) :
(خلاصة الصحوة ستتبدى لنا حول الخصائص الذاتية للفرد الصحوي، كما تصنعت عبر مسيرتها وعبر قوتها على مدى عشر سنوات (1987 - 1997)، وهي ثلاث خصائص صبغت الشاب الصحوي:
أولاً، شخصية الفتى الجاد، من حيث الانضباط الزمني وتقيده بنظام يومي راسخ...
ثانياً، شخصية الفتى المتوجس...
ثالثاً، الخاصية الاحتسابية، فكل صحوي هو بالضرورة محتسب... هذه سمات ثلاث وخصائص سلوكية لكل شاب صحوي...)
هذه الخصائص التي ذكرها هي خصائص عامة في شباب الإخوان المسلمين وشباب الإخوان السروريين وشباب الجماعات السلفية، وقد يستثنى من ذلك نوعاً ما جماعة التبليغ وأهل السلفية العلمية الرسمية. أما باقي جماعات الإسلام السياسي فيوجد عندها جميع الخصائص التي عددها في كتابه. وهي ليست خاصة بالصحوة المتخيلة عنده، ولا الخصائص الأخرى التي تحاشى ذكرها هي أيضاً خاصة بها. مثل الهوس بالمؤامرة وادعاء المظلومية والأسلمة، أسلمة كل شيء قبولاً أو رفضاً.