مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

التابو في السرد الروائي العربي بين التبرير والتغرير

ظهرت في العقود الأخيرة روايات كثيرة لروائيين قاموا بتوظيف الجنس في رواياتهم بطريقة لم تكتف بالجرأة، بل وصفها بعض النقاد بأنها تابوهات فظّة وقبيحة، لم تستهدف الجنس في خدمة التوظيف الفني لرواياتهم بل استخدمته كظاهرة تخدم الأدب الجديد الذي ظل مسكوتاً عنه منذ الأدب الجاهلي حتى عصر (نجيب محفوظ) وصولاً للرواية المعاصرة وهو ما يعرف (بأدب الجسد) وهو ما يسمى باللغة الإنجليزية (PronoGraphy) أي الأدب المكشوف الصريح أو أدب الفراش، وهو يهتم في سروده بالعلاقة الجنسية بين المرأة والرجل وتصويرها بجرأة يغلب عليها الهوس بالجنس.

انتشرت تلك الظاهرة بكثافة مطلع القرن العشرين في نماذج متعددة، وباحت بتابوهات مسكوت عنها بالتصريح المكشوف بعد أن كانت بالتلميح والمجاز.
هناك دوافع دفعت بكتّاب التابوهات الجنسية إلى كتابة وتصوير مشاهد إباحية في ثنايا سرودهم الروائية بأريحية تامة منها:
اعتقاد هؤلاء الكُتّاب بحرية الرأي
يؤمن هؤلاء الكُتّاب بحقهم في الكتابة دون قيد أو وصاية من أشباح العادات والتقاليد أو حتى العرف بل إنهم يتمردون على عباءة العرف الاجتماعي باعتباره رمزاً من رموز العمى الفكري.
يرى كُتّاب التابوهات أن الأدب منذ القدم حفل بتوظيف الجنس في أغلب نصوصه الأدبية وظهر هذا جلياً في قصائد (أبي نواس) المثيرة للغرائز إلى أن ظهر النص الروائي في العصر الحديث فقاموا بتسجيل مكبوتاتهم النفسية في رواياتهم بطريقة مثيرة جعلتهم في مواجهة المساءلة القانونية أو العرف الاجتماعي الذي يرفض هذه المحظورات الجنسية على أساس من الاعتبارات الدينية أو الأخلاقية التي لا تتناسب مع التقاليد الاجتماعية الموجودة.
حب الظهور والشعور بالانتشاء
معظم كُتّاب (التابو) يسعون لتحقيق الشهرة، والشهرة لا تأتي إلا بكتابة نصوص أدبية بطريقة جريئة وبصورة إباحية قد ينتج عنها قرار بمصادرة الرواية ومنع انتشارها لدى الجمهور، وقد يكون هذا القرار مصدر سعادتهم، وهنا يتساءل البعض عن سبب سعادتهم بمصادرة منتجهم الأدبي ووقف عرضه، والسر بالطبع أن قرار المصادرة يعقبه فرقعة إعلامية مثيرة للجدل لمعرفة أسباب الرفض وماهية عنوان وموضوع الرواية والبحث عنها بأي طريقة ممكنة، فالقاعدة تقول إنّ (الممنوع مرغوب).
التنفيس عن رغبات جنسية مكبوتة
فقد يكون السبب والدافع لكتابة (التابو) هو البحث عن متعة غائبة ربما تكون مكبوتة في اللا شعور ولم يستطع ممارستها أو حتى البوح بها في الحياة الحقيقية بإرادة حرة بسبب موانع دينية أو أخلاقية أو عرفية، فيضطر الكاتب إلى الهروب من الحياة الواقعية والوقوف في شرفة عمله الفني يشاهد منها ما كتبه وصوّره عبر أبطال روايته بشغف ومتعة ترضي وتشبع ذاته المحرومة، لكن ليس بالضرورة أن تكون شخصية بطل الرواية هي شخصية الكاتب نفسه أو أن ما كتبه هو سيرته الذاتية، فالكاتب قد يستعين بشخصية شهوانية ويبرر لها سلوكها المنحرف ويدافع عنها في سرده، وقد يحدث العكس بعد تصويره لسلوكه تفصيلياً يصف نهايته بعقاب إلهي له.
الخلاصة أن كاتب (التابو) كثيراً ما يجعل سرده نوعاً من البوح بأوجاعه أو أمنياته الغائبة المنقوصة ويسردها عبر بطل روايته أو عبر أكثر من شخصية من شخصيات نصه في مشاهد مختلفة بطريقة فنية.
الانبهار بالثقافة الغربية
تأثر كثير من الكُتاب بالحضارة الغربية وبالسلوك المتحرر الرافض لأية قيود وغير المناسب لهويتنا العربية، واعتبروا العلاقات الجنسية هي حق من حقوق الإنسان الطبيعية وقد بدأ التأثر بالسلوك الغربي في الرواية العربية منذ نشأتها لكنه زاد بشكل فج في الرواية العربية المعاصرة، فكما يقول الدكتور أحمد كريم بلال الناقد المصري في كتابه (سقوط أوراق التوت المحظورات في الكتابة الروائية) أنّ سبب ذلك هو السياق العام الذي بدأت فيه الرواية العربية الحديثة خطواتها الأولى بتقليد النماذج الروائية الغربية دون تمثل الظروف المجتمعية العربية بسبب التبعية للمستعمر الغربي وبثقافته الوافدة المبهرة، وفي سياق بناء المجتمع العصري كان المتلقي مفتوناً بالرواية وما تحمله من مضامين مختلفة ومثيرة ولم يكن الوعي آنذاك يسمح بمطابقة الشكل الروائي العربي الوليد لطبيعة الواقع المجتمعي وشروطه الفارقة له عن مجتمع (الرواية البرجوازية) في أوروبا.
التأثر بالتراث وتقليده
تأثر بعض كُتّاب (التابو) بنصوص تراثية قديمة خاضت في مستنقع الجنس بجرأة بالغة سواء في قصائد شعرية أو نثرية وردت في كثير من الكتب القديمة (كرسائل الجاحظ) وكتاب (الأغاني) للأصفهاني وكتاب (ألف ليلة وليلة) و(غلاميات أبي نواس) فحاكوا تلك الثقافة الموروثة وجعلوها حافزاً لهم ومصدراً لاستلهام روح العمل.
كما تأثروا بالأدب (الإيروسي) الغربي وحاكوه حتى أنهم ترجموا أعمالاً أدبية مكتوبة بإباحية جنسية جريئة إلى العربية.
التابو في العمل الفني
قد يضطر الكاتب إلى توظيف (التابو) في مشاهد كثيرة في الرواية لأن موضوع الرواية وتيمتها مرهون بالتصوير التفصيلي لمشاهد إباحية، لكن الإفراط في هذا النسق غير مبرر، ولو أراد التأكد من هذه الحقيقة وقام بحذف تلك المشاهد سيلحظ أن المعنى العام والدلالة الفنية لم تختل.
إذن يمكن للكاتب الاستغناء عن هذه التابوهات باستخدام لغة فنية راقية يفهمها القارئ عن طريق الإشارة والتلميح دون إفراط في وصف دقيق لمشاهد جنسية غير مبررة هدفها هو إثارة الغرائز فقط.
وهناك أمثلة لتوظيف الجنس في نصوص أدبية معاصرة مثل أعمال الروائي الكبير (نجيب محفوظ) والروائي (إحسان عبدالقدوس) الذي استطاع بقدرة فائقة أن يوظف الجنس في ثنايا أعماله الروائية دون أن يصطدم بجدار الذائقة الأدبية والأخلاقية في عصره، فكانت تابوهاته تعالج موضوعات مرتبطة بثقافة مجتمعه آنذاك مثل الزواج والخيانة الزوجية، وفحولة وذكورة الرجل أو العكس عجزه وضعفه الجنسي مع زوجته وذلك بغرض معالجة هذه المشاكل سلوكياً وثقافياً واجتماعياً وكل هذا في إطار التلميح أكثر من التصريح.
أما كُتّاب القصة والرواية المعاصرة فقد أسهبوا في الوصف الجنسي في أعمالهم بجرأة زادت عن الموروث الحكائي القديم الذي كان أغلبه تلميحاً إلى كتابة صريحة مناسبة لتقنيات التصوير الفني المعاصر بل أضافوا ظواهر كان مسكوتاً عنها مثل ظاهرة المثلية الجنسية التي يتم تبريرها على أساس نظرية (الانعكاس) كمظهر من مظاهر التفسخ في المجتمع العربي.
في النهاية أرى أن الكتابات (الإيروتيكية) كما يسمونها في الرواية العربية المعاصرة معظم أسبابها ترجع إلى عوامل نفسية بحتة قد تعود إلى الكاتب نفسه فكتابة تلك المشاهد بطريقة تصويرية مفصلة وبألفاظ صريحة خادشة للحياء هو نوع من التنفيس عن مكبوتات جنسية حبيسة لديه في اللا شعور لم يستطع أن يشبع بها غريزته إشباعاً كاملاً أو حتى أن يبوح بها في الحقيقة لأسباب مجتمعية عُرفية أو دينية فلجأ إلى بطل شخصيته في روايته ليعبر عن آلامه من خلال العمل الفني الذي يسرده وكثيراً ما نرى الكاتب يسرد بنفسه (تقنية السارد العليم).
كما أرى أن الدفع بحرية التعبير وانبهارهم بالفكر والحضارة الغربية أو تقليد التراث العربي والغربي حجج ومبررات واهية تخدم استمرارهم في التنفيس عن مكبوتاتهم الجنسية المحرومة التي يعقبها الشعور بالانتشاء ومن ثم صناعة روائي مشهور مثير للجدل.

ذو صلة