
أصبح الحديث عن مجتمع الإعلام والمعرفة حديث الساعة، فقد عرف استعماله طفرة نوعية منذ التسعينيات من القرن الماضي، إذ نجده حاضرا لدى الأكاديميين والدول و المنظمات الدولية، وعقدت في شأنه المؤتمرات والندوات خاصة تلك التي ترعاها الأمم المتحدة ولعل أهمها القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة في مرحلتين بجنيف في ديسمبر 2003م وتونس في نوفمبر2005م، وأصبح يقدم باعتباره الوصفة السحرية لحل معضلات التنمية والتحديث والديمقراطية، وأضحت البلدان العربية أكثر من أي وقت مضى مدعاة إلى الانخراط في سياق هذا السيل الجارف من المعلومات والمعارف والتطورات التقنية الرقمية الملازمة لمجتمعات الإعلام والمعرفة خاصة بعدما تبين حجم العجز الذي تعاني منه في معظمها.
لكن الحديث عن الإعلام والمعرفة في مجتمعاتنا ليس حديثاً عن شيء تحقق كلياً وإنما جزئياً، لذلك سرعان ما يتداخل في هذا الحديث الكائن بالممكن، المتحقق بالمرجو تحققه، المنجز الآن بالذي تبشر به التحولات الجارية.
بماذا يفسر هذا التناقض بين الواقع والخطاب؟ هو الجهل بحقائق الأمور؟ أم بالعكس بتزييف لها ؟ أم أبعد من ذلك هل ينم عن حب أنطولوجي لكل ما يأتي من الغرب؟ أم عن تقليد أعمى من منطلق الاعتراف بالتبعية لحركة تاريخية تتجاوز إرادتنا إن لم نقل تلقينا خارج مدارها إذا لم ننخرط فيها؟ أم عن مصالح كامنة يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالرمزي؟ إننا لا نتوخى الإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى بقدر ما نحاول أن نمنح مصداقية للسؤال من خلال مواجهة هذا الخطاب بحقيقته التي يفرض أن يراها.
عصام العدوني
-المغرب –
إن إطلالة سريعة على استعمالات مفهوم مجتمع الإعلام والمعرفة في البيئة الغربية التي أنجبته ستسمح لنا باستكشاف مضامينه وأبعاده؛ فالطفرة التي عرفها في تسعينيات القرن الماضي تعتم قليلاً على تاريخيته التي تعود إلى فترة الستينيات التي عرفت تداولاً واسعاً له؛ ثم تأتي فترة الثمانينيات حيث كثرت الانتقادات الموجهة له، ليعاود الظهور في التسعينيات ويتواصل بريقه إلى اليوم. بالنسبة لألفن توفلر الذي ألف كتابين ذائعي الصيت وهما « صدمة المستقبل» 1970م و«الموجة الثالثة» 1980م عرفت المجتمعات الصناعية تحولات عميقة بفعل التطور الهائل للتكنولوجيا الجديدة ولاسيما الحاسوب والاتصالات السلكية واللاسلكية. هذه التكنولوجيا ستغير مجرى حياتنا وأنماط عيشنا وعلاقاتنا الاجتماعية و الثقافية والسياسية، إلخ. لذلك لا يتردد في اعتبار الثورة المعلوماتية والرقمية بمثابة قطيعة تاريخية مع كل ما سبقها؛ إنها انتقال جديد يلقي المجتمعات ما بعد الصناعية في مستوى عالمي جديد من نفس مستوى الانتقال من التوحش نحو الحضارة. إن اكتشاف الحاسوب والتقنيات الجديدة للتواصل والإعلام NTIC والطرق السيارة للمعلومات يشبه في تأثيره بل يتجاوز ما أحدثه اكتشاف الطباعة سنة 1440م في افتتاح عصر النهضة الأوروبية. أما دانييل بيل فقد اقترح مفهوم المجتمع ما بعد الصناعي لتوصيف التحولات الجديدة فبالنسبة له « إذا كان المجتمع الصناعي مجتمع إنتاج الخيرات فإن المجتمع ما بعد الصناعي هو مجتمع الإعلام» والذي يتميز بجملة من السمات الجديدة كالانتقال من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الخدمات (صحة، تعليم، بحث، إدارة)؛ بحدوث تحولات جوهرية داخل بنية الشغل كتزايد دور التقنيين والمهنيين المؤهلين جيدا وسيطرة المهندسين والعلماء على مراكز الإنتاج والتوجيه؛ بمركزية المعرفة النظرية المنتجة للابتكار والنمو الاقتصادي ولإنتاج السياسات العمومية وفي الأخير بالتحكم المتزايد في التطور التكنولوجي والاجتماعي بفضل التقنيات الجديدة للإعلام والتواصل. فبالنسبة لبيل دائما، إن المجتمع ما بعد الصناعي يتأسس على « الخدمات، إن اللعب داخله يجري بين الأفراد. إن ما يجب احتسابه من الآن فصاعدا ليس هو العضلة، ولا الطاقة ولكن المعلومة» . وهذا التحول تؤكده تقارير التنمية الدولية المختلفة التي تشير إلى تبدل العلاقة التقليدية بين الموارد والمعرفة بشكل يؤدي إلى احتلال المعرفة مركز الصدارة في الاقتصاد الحديث مقابل تراجع قيمة الموارد الأولية كالأرض والمعادن و اليد العاملة. فقد أصبحت الأنشطة الإنتاجية تعتمد بشكل كبير على «اقتصاد المعرفة»، «التجارة الإلكترونية»... بل لقد أصبح «الاستخبار الاقتصادي»، من أهم ركائز المنافسة الدولية على الأسواق، فقد تبلور المفهوم في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة التسعينيات من القرن الماضي بتشجيع من حكومة كلينتون - آل غور والذي يهدف إلى جعل الاستخبار وجمع المعطيات الاقتصادية الدقيقة وتحليلها في سرعة زمنية قياسية وتقديمها للمستثمرين من أولويات عمل أجهزة الاستخبارات التقليدية، فقد أعلنها كلنتون بوضوح حينما قال: «انطلقوا إلى غزو تخوم جديدة، تتعلق بكل أسواق العالم. استفيدوا من فرص ووعود الإنسان الرقمي الذي فتح عهدا جديدا، والذي نتائجه ستكون أكثر أهمية من نتائج اختراع المطبعة في عصر النهضة».
إن هذا التطور التكنولوجي والاقتصادي يصاحبه تطور موازٍ للسياسات العمومية و اتخاذ القرار وبالتالي تحول أشكال تدخل الدولة بحيث ننتقل من بنيات إدارية وسياسية هرمية، عمودية نحو أخرى منبسطة، أفقية، كما يتحول التنظيم الإداري من المركزية إلى اللامركزية ويتراجع دور الدولة في الاقتصاد لصالح قوى السوق الحرة المنظور إليها كأساس إنتاج الثروات وتوزيعها؛ وستتطور أشكال جديدة من المشاركة السياسية من شأنها أن تدفع تقدم الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى أبعد الحدود مبشرة بولادة إنسية جديدة قوامها «الإنسان الرقمي»، أو «الأغوار الافتراضية»Agora، «أو الديمقراطية التشاركية»، إلخ.
وعلى الصعيد المعرفي سيتم تأكيد دور التعليم والتكوين والبحث العلمي بحيث يصير بإمكان الجميع «اقتطاف المعلومة» على حد تعبير ماكلوهان، حيث سيساهم تطور تقنيات الفيديو والإنترنت والاتصال التفاعلي بفتح آفاق جديدة أمام طلاب العلم والمعرفة عن طريق التعلم عن بعد والتعلم مدى الحياة، وستصبح المعلومة أساس السلطة، يقول بيل « ستصبح المعلومة مصدر التقرير: في كل المستويات المبنينة للحياة والعمل المشترك، هي مصدر السلطة». وإذا كان البعض يجعل من المعلومة سلطة رابعة على المستوى السياسي والدولي فإن آخرين وعلى رأسهم عالم المستقبليات المهدي المنجرة يذهبون أبعد من ذلك إذ يجعلونها في مرتبة السلطة الأولى، يقول: «إذا أعطينا للإعلام معنى أكثر شمولية وواقعية بأخذنا بعين الاعتبار التطور التكنولوجي الذي لا يصدق، فمن دون أدنى شك فقد أصبح الإعلام السلطة الأولى».
أما من الناحية الفكرية سيصاحبه خطاب دعوي يبشر بـ«نهاية الأيديولوجيات»، و«نهاية المثقف العضوي»، وإحلال التقني والخبير مكانه، وفي الأخير «كونية الثقافة الغربية»، ويكثف مفهوم الحكامة كما هو متداول اليوم، جل هذه المضامين المرتبطة بالثورة التكنولوجية واقتصاد المعرفة والذكاء الاقتصادي كمفاهيم المعرفة، الخبرة، الفعالية والإنجاز، المسؤولية، الالتقائية... وفي هذا الصدد يقول أرمان ماتلار « من جهة التراتبية داخل مقياس السلطة، فإن الصورة السائدة في المجتمع الصناعي كانت لرجل الأعمال والمكان الاجتماعي الرئيسي هو المقاولة. في المجتمع ما بعد الصناعي هذا المركز يعود للعلماء، للجامعة ومراكز البحث». ومن ناحية أخرى فإن رواج فكرة الدور الحاسم للتكنولوجيا الجديدة في إحداث التطور والنمو اللامحدود للثروات المادية وغير المادية يجد صداه في الاعتقاد بحيادها واستقلالها عن الشروط التاريخية وعلاقات السلطة والحمولات الثقافية.
وفي الأخير يعلن هذا الخطاب نهاية السياسة كممارسة عقلانية لصراع الأفكار والمشاريع و اختزال الصراع السياسي في عقلنة القرارات العمومية المتخذة من قبل تكنوقراطيين باعتبارهم أهل المعرفة والخبرة؛ واستبدال المشروعية بما تحيل إلى مطابقة القرارات والسياسات العمومية للاتجاهات والتطلعات السوسيولوجية الكبرى للمجتمعات التي تبلورها المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا بالشرعية القانونية العقلانية التي تحيل إلى ملاءمة الاختيارات العمومية للقوانين والإجراءات المسطرية.
• • •
إذا كانت الثورة الرقمية والتطور غير المسبوق لتقنيات الاتصال السلكي واللاسلكي تشكل القاعدة المادية التحتية لتطور شبكات المعرفة والإعلام والإخبار والتواصل والتبادل على الصعيد العالمي، فإن النقاش حول مجتمع الإعلام والمعرفة يجب أن يتمركز بالدرجة الأولى في المستوى الاجتماعي العام ولا ينحصر في المستوى التكنولوجي الصرف، أي أن يضع نصب أعينه التأثيرات التي من الممكن أن يخلفها التطور التكنولوجي للتقنيات الجديدة للإعلام والتواصل ولنظم المعالجة الرقمية للمعلومات في صيرورة إنتاج المجتمعات لذاتها وإعادة إنتاجها، بمعنى آخر في كل ما يخص بنينة Structuration ووظافة واشتغال المجتمعات والتي تشمل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والرمزي، لذلك نود إبداء التحفظات التالية حول الدعوات الرائجة:
- إننا أمام يوتوبيا جديدة تبشر بمستقبل أفضل وأكثر تحقيقا لإنسانية الإنسان، يوتوبيا تقوم على مركزية الكمبيوتر والإنترنت والطرق السيارة للمعلومات في حياتنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، لأن حلول مجتمع الإعلام والمعرفة يتصور لدى دعاته كبداية عهد جديد أو بلغة توفلر « موجة ثالثة» أكثر تطورا من سابقاتها ( الموجة الزراعية والموجة الصناعية). لهذا لا نستغرب إذا وجدنا شخصا مثل بيل غيتس مالك الشركة العملاقة ميكروسوفت يقيم تماثلا بين التأثير الذي ستحدثه الثورة المعلوماتية في حياتنا والتأثير الذي أحدثته الطباعة في العصر الوسيط. إن هذا الحديث يجعلنا نعتقد أن ولوج عصر المعلومة والتكنولوجيا الرقمية بمثابة ثورة بنيوية أو قطيعة معرفية والحال أننا مازلنا داخل نفس البنية الاجتماعية التي أفرزت المجتمع الصناعي وكذلك المجتمع ما بعد الصناعي لا من حيث أسلوب الإنتاج أو أشكال العلاقات الاجتماعية ألا وهي المجتمع الرأسمالي. لذلك فإننا نفضل الحديث عن تكثيف لسيرورات ومضامين وعلاقات موجودة أصلا، وهذا التكثيف يتولى القيام به التطور العلمي و التكنولوجي الهائل الذي جعل الجزء الأعظم من النشاط البشري يستثمر في الثروة اللامادية. إن التطور الذي حدث في وسائل الإنتاج (ثورة المعلوميات والاتصال) وقوى الإنتاج (البحث العلمي والتطبيقي، عمالة مدربة، تقنيين ومهندسين) وتحول غايات الاستثمار الاقتصادي من السيطرة على وسائل الإنتاج وما يتبعها من تناقضات بين العمل والرأسمال إلى السيطرة على أهداف الإنتاج وما يصاحبها من صراع حول احتكار أجهزة المراقبة والتسيير والتنظيم وسيطرة التكنوقراطية كفئة تسهر على التحكم في هذه الأجهزة والتوسع الذي حصل في جغرافية الإنتاج والتبادل (العولمة، القرية الكوكبية، التجارة الإلكترونيـة...)، كـل ذلـك -ورغم أهميته- لم يؤد إلى إحداث تغييرات جوهرية في بنية أسلوب وعلاقات الإنتاج التي مازالت هي نفسها علاقات الإنتاج الرأسمالية السلعية كما لم يغير جوهر العلاقات الاجتماعية من حيث هي علاقات قوة (سيطرة وتبعية)، لذلك يرى البعض أن « ما يسمى « بنمط النمو المعلوماتي» (قوى الإنتاج) يبقى في خدمة نمط الإنتاج (علاقات الإنتاج) الرأسمالي الذي يسعى إلى التراكم...بالإضافة إلى ذلك، فإن ما يسمى بالانتقال من الطاقة إلى الذكاء كعامل مركزي للإنتاج لا يغير بشكل حقيقي خضوع اليد العاملة (حتى ولو تعلق الأمر بالعلماء) للرأسمال «فهناك ترابط وثيق بين الأممية المالية وأممية عصر الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية وعصر الدعاية والإشهار». إن هذه المسألة أساسية في التحليل لأنها تكشف لنا عن الأطر الإنتاجية والاجتماعية والثقافية التي تعتمل في إطارها «الثورة الرقمية»وبالتالي تدفعنا إلى التريث والحذر من هذه الدعوات.
- إن جعل مجتمع الإعلام بما يتيح من وسائل للتعلم الذاتي عن بعد أومن خلال ندوات الفيديو أو المكتبات الرقمية مرادفا لإتاحة المعرفة للجميع وبالتالي إلى دمقرطتها فيه كثير من المبالغة والتفاؤل، لأنه يتجاهل الحقائق على أرض الواقع والتي أبرزها استمرار الفوارق الاجتماعية في العلاقة مع المعرفة والثقافة، إن هذا التفكير يجعلنا نعتقد أن ولوج المعرفة الكونية عبر الإنترنت سيغترف من احتكارات المعارف الموجودة، وسيحل ليس فقط مشكل الهوة الرقمية وإنما كذلك الهوة الاجتماعية، إن خبراء التربية لأكبر المؤسسات المالية، كالبنك العالمي، يبعثون الحياة من جديد للتصور الانتشاري للتنمية الذي اعتقدنا أنه تم هجرانه بسبب إخفاق الاستراتيجيات المستوحاة من الإيديولوجيا الكمية للتحديث...فعوض أن تحل المشكل، قامت التكنولوجيا بتحويل موضعه. إن الطفرة التكنولوجية لم ولن تؤدي إلى تكافؤ الفرص أمام التعليم والتربية لأنها تتغاضى عن حقيقة اختلاف الرساميل الثقافية وطبيعة المتعلمين وعدم مساواة الأوضاع الاجتماعية والتي لا يمكن حلها عند المستوى التكنولوجي وإنما السياسي.
- إن التقدم غير المسبوق لإنتاج وتوزيع وتخزين وتبادل المعلومة والاتصال وتطور الإنترنت هو سلاح ذو حدين فهو يحمل العديد من الإيجابيات نظرا لما يشكله من قدرات متفاوتة لولوج المعلومة والخبر بكل حرية ومن الفرص غير المسبوقة للتواصل والتنظيم والتأطير العالمي بعيدا عن رقابة الدول والحكومات ونتائج ذلك المباشرة على إشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتكوين رأي عام عالمي من شأنه التأثير على قضايا محلية وإعطاءها صبغة كونية (هناك حالات متعددة استطاع فيها الرأي العام العالمي المنظم على شبكة الإنترنت التأثير في قرارات سياسية من خلال تعبئة مجموعات تعيش في أماكن متباعدة) وأن يمنح أبعادا جديدة للتجارب الإنسانية ويعمق الحوار والتثاقف بين الشعوب، لكن في نفس الوقت يحمل الكثير من المخاطر ويؤدي إلى تحييد الإجراءات الوقائية والاحترازية السابقة وتصبح عديمة الفاعلية (قوانين حماية الملكية الفكرية، حرية الإبداع، مصداقية الخبر،...) فكيف يمكن متابعة مجهولين على الشبكة يقومون بتدمير الأنظمة المعلوماتية أو بث معلومات خاطئة ومغلوطة أو استغلال معطيات شخصية لأغراض متعددة...؟ إن هذا التطور الذي يهدد بإمكانية التلاعب في المعلومة والخبر وبث أنصاف الحقائق من شأنه أن يؤثر على الديمقراطية نفسها كالتأثير في الرأي العام في اتجاه غير مناسب أو خلق أوضاع سياسية غير متوقعة. إن تحول المعلومة إلى أداة للسلطة يؤدي في الغالب إلى ضعف الشفافية والمصداقية والموضوعية، « لأن المعلومة لا تقلص ضرورة عدم اليقين، إن بثها يبقى غالبا غير تماثلي وذلك من أجل أن توفر لمالكها امتيازا استراتيجيا» ، مما جعل البعض يقلب السؤال وذلك بالمطالبة بتقليص تدفق المعلومات « فعكس آبائنا الذين ناضلوا من أجل الحصول على المعلومات، نواجه نحن معضلة كيفية العمل من أجل الحصول على أقل قدر من المعلومات» حتى تتم الاستفادة منها بشكل مناسب. إن تدفق المعلومات يطرحنا أمام إشكال صعب يتمثل في كون «قدرتنا على الانتقاء والمماثلة، الاختيار والترتيب ليست لا نهائية، بينما ذاكرات الحواسيب يمكنها أن تختزن كل شيء، إن الأفراد والجماعات يقصون 90% مما يتلقون، يقومون بتنظيم ما تبقى ويختارون الأهم»،
وبخصوص الفكرة الشائعة بأن هذه التكنولوجيا قد ضربت المركزية والشمولية وزكت التعددية وحرية الاختيار فإنها تبقى موضع شك، فحسب تقرير حول وسائط الاتصال صادر سنة 2006 فإن المواقع الإلكترونية على الشبكة الأكثر شعبية تبقى تابعة للمجموعات الإعلامية القوية والمعروفة ك Yahoo News
وMSNBC وAOL , IBS و New York Times و USA TODAY التي تمتلك قنوات تلفازية وفضائيات وجرائد مكتوبة ودور نشر عالمية، إن الإنترنت يشهد بدوره منافسة شرسة بين الشركات العملاقة العابرة للقارات من أجل السيطرة عليه وبالتالي فالحديث عن التغيير الثوري الذي من الممكن أن يحدثه في حياة المجتمعات يصبح قليل المصداقية مادام أن طبيعة المعلومة هي نفسها سواء انتقلت عبر جهاز التلفزة أو الحاسوب أو الإنترنت أو عبر الطباعة والورق، بل إن المهم هو المضامين الأيديولوجية التي تحملها الوسائط المتعددة الاتصال والتي تكرس في عمومها قيماً ثقافية غربية توحيدية تنميطية تعزز ثقافة الاستهلاك والفرجة، فعن طريق سحر التقنية وجاذبيتها وعن طريق جمالية الصورة والصوت وتقنيات الإشهار المبتكرة يتم التلاعب بأحاسيس ومشاعر الناس ويتم خلق حاجيات وأنماط استهلاكية وغذائية وذوقية تتماهى مع القيم الثقافية الغربية (ماك دونالد، الشخصيات السينمائية، الموضة،....).
- التفاوتات الملحوظة فيما يخص البنية التحتية للمعلوماتية والاتصالات التي تعتبر أحد الأبعاد الأساسية للهوة الرقمية داخل البلدان الغربية بين المجموعات الاجتماعية وبين هذه الدول ودول الجنوب :
أ- داخل الشمال:
حينما نتحدث عن الهوة الرقمية كثيراً ما يحضر في أذهاننا الفارق بين الدول الغربية وبلداننا وتغيب عنا مسالة مهمة هي أن الغرب نفسه مازال يعاني من آثارها فغياب المساواة الاجتماعية بين الطبقات والأفراد أمام المعرفة والثقافة والوسائل التكنولوجية الرقمية داخل البلدان المتقدمة أصبحت حقيقة لا يمكن نكرانها، فإذا أخذنا الإنترنت كأهم وسيلة من وسائل العصر المعلوماتي نلاحظ أن استغلاله يتميز بالنخبوية: ففي و.م. أ مثلا وحسب مركز المستقبل الرقمي لولاية كاليفورنيا الجنوبية فإن 21% من السكــــــان لم تستعمـــــل الإنتــرنت ســــوى مـــرة واحــدة خــلال 2005 و33% لا تتوفر على ربط منزلي بالشبكة، أما من يتوفرون على الربط فإن أقل من النصف هم من يتوفرون على الصبيب المرتفع الذي يسمح بولوج الملفات السمعية والبصرية بسهولة وفي مدة زمنية مناسبة، لذلك فإن الطبقات الفقيرة نظراً لضعف دخلها لا تستطيع أن تتوفر على الصبيب المرتفع نظرا لارتفاع كلفته، وتسهم ظروف العمل ونمط العيش في تقليص المدة المخصصة للإنترنت من البرنامج الزمني الأسبوعي بسبب طول المدة المخصصة للأنشطة المهنية والحياتية وبسبب التفضيلات المرتبطة بأنشطة الوقت الحر التي لا يأتي الإنترنت والمعلوماتية في أولوياتها وبالنتيجة عدم استفادة فئات كبيرة من خدماته.
ب- بين الشمال والجنوب :
نقصد عدم المساواة بين البلدان المتقدمة ونظيرتها المتخلفة أمام المعرفة والثقافة والوسائل التكنولوجية الرقمية، والتي تعرفها القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة في جنيف 2003م «بدرجة التفاوت في مستوى التقدم -سواء بالاستخدام أو الإنتاج- في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بين بلد و آخر، أو مناطق البلد الواحد». إن الحديث عن الفجوة الرقمية من زاوية الاستهلاك والاستخدام يبين أن الفروقات شاسعة لدرجة نصبح معها في غنى عن الحديث عن مساهمات بلدان الجنوب وعلى رأسها البلدان العربية في الإنتاج والتطوير والبحث التكنولوجي الدقيق. بالاستناد إلى تقرير التنمية العربية الصادر سنة 2003م يمكن الوقوف جليا على حجم العجز الذي تراكمه هذه البلدان على مستوى البنيات التحتية والقدرات العلمية والإنتاجية، فبالنسبة لشبكة الهاتف فإن عدد الخطوط لا يتجاوز 109 خط لكل 1000 نسمة في حين في الدول المتقدمة تصل إلى 561 خط لكل 1000 نسمة، ففي بلداننا نجد خطاً واحداً لكل 10 أفراد بينما في الدول المتقدمة هناك خط واحد لكل 1.7 من الأفراد. أما بالنسبة للحواسيب باعتبارها وسائط ولوج المعلوماتية من إنترنت وتجارة الكترونية فإن عددها لا يتجاوز 18 لكل 1000 شخص بينما المعدل العالمي هو 80 حاسوب لكل 1000 شخص. ولم يتعد عدد مستخدمي الإنترنت في الدول العربية عام 2001 ما مجموعه 4.2 ملايين شخص، يشكلون فقط 1.6% من مجموع سكان العالم العربي. وتبدو الهوة شاسعة حينما نعلم أن ما يقارب 5% من سكان العالم يستطيعون ولوج الإنترنت وينتمي 60% منهم إلى دول أمريكا الشمالية، أما عن التعليم والتكوين فيكفي أن نشير إلى أن معدل الأمية جد مرتفع في البلدان العربية ويتجاوز في بعضها 60% من السكان كما يرتفع هذا المعدل لدى النساء، كما يعتبر الإنفاق العربي على البحث العلمي والتطوير جد هزيل فلا يتجاوز في الغالب نسبة 1% من الناتج القومي الإجمالي لكل قطر، بينما في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بلغ سنة 2000 حوالي 2.2% من حصة الناتج الداخلي الإجمالي. كما أن توظيف التكنولوجيا الجديدة يمكن أن يؤدي في سياق العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة بين الشمال والجنوب وعدم جودة أنظمة التربية والتعليم والتكوين ونقص الكفاءات وضعف الاستثمار في الرأسمال البشري إلى تعميق التبعية وتفاقم أوضاع الفقر والبطالة وسوء التنمية. إن تطور الأتمتة Automatisation التي لم تعد تعني فقط استبدال الجهد العضلي بالآلة وإنما كذلك استبدال ملكات الإنسان المتعلقة بالملاحظة والتنظيم والتفكير والحكم والتقرير بالآلة المبرمجة والأنظمة المعلوماتية سيؤدي إلى تدمير فرص الشغل في الجنوب وفي أحسن الحالات إلى تشغيل الكفاءات وتسريح العمال غير المدربين.
نستنتج مما سبق ذكره أن الخطابات والدعاوى المبشرة بمجتمع الإعلام والمعرفة ذات طبيعة أيديولوجية أكثر منها واقعية (التنمية، الإنسان الرقمي، الديمقراطية التشاركية)؛ ولا تقيم تمييزا بين وضع دول الجنوب وضمنها البلدان العربية تجاه هذه التكنولوجيا الجديدة (هل هي مستهلكة أم منتجة؟)؛ وبين ما تحمله هذه التكنولوجيا من مضامين ثقافية (شمولية، عدم الاعتراف بالثقافات الأخرى) وعلاقات اقتصادية وسياسية (غير متكافئة)؛ وفي نهاية المطاف يبدو لنا الحديث عن مجتمع الإعلام والمعرفة ليس كواقع وإنما كطوبىUtopie.