
يعتقد الفكر الثقافي السائد بجمالية الدعوة للإبداع ، ثم تتوالى المؤلفات بالدعوة لنظريات الإبداع وقوانينه، السويدان، خالد، الحمادي، وعدد كبير من دعاة الشباب للإبداع معهم النخبة الأكاديمية أمثال محمد عابد الجابري. كلهم يصلون بإنجازاتهم الثقافية لهذه النتيجة النهائية كي يتحقق التقدم الحضاري على الصعيد العكسي فالحديث عن المعوقات هو العذر الرسمي لمعظم تيارات الشعوب العربية التي تعاني من ندرة الإبداع الفكري.
ماجد عبدالله الحمدان
- جدة –
إن لفظ (التفكير الإبداعي) له حساسية مطلقة، لا نقول الإبداع ولا التفكير بل التفكير الإبداعي، أما أول من صاغ هذا المصطلح في القرن العشرين فهو الغربي إدوارد ديبونو كمترادف للذكاء الإبداعي، ثم جاء بعده دانيال جولمان ليتحدث عن الذكاء العاطفي في مسلسل غربي فكري تراكمي شائق تتوالى حلقاته الطويلة منذ عدة قرون بدأت من العصر الوسيط مع نهاية الفلسفات الكهنوتية الدينية المتطرفة للإكويني وأوغسطين و أليجيري.
إن الثمن مكلف لامتلاك هذا النوع من التفكير، فهو ليس مجرد رغبة مؤقتة ولا يمكن أن يأتي استعارة بقرار شخصي، بل هو منهج للحياة. يفكر به صاحبه في كل أعماله كتابياً أو فنياً أو معملياً أو رياضياًً أو في أي مجال علمي.
يسبب التفكير الإبداعي إزعاجا متلازم الدوام لصاحبه وللآخرين، وقد يسبب السخرية، وقد يصل الرفض إلى الاضطهاد، ثم قد يتبلور إلى العنف أو حتى السجن أو الموت، وتلك المضايقات هي التي جرت لمعظم المبدعين العرب.
لماذا يا ترى؟
يقول المستشرق المنصف جوستاف لوبون الذي دشن فكرة الوعي الجمعي، بأن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية ولكنه إذا أنجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية جراء الانفعال والغضب، بما يعرف بتهييج الجماهير، وقد كان رافضا للديمقراطية في شكلها الدوغمائي الهمجي.
ما الذي يدفع الصفوة المتعلمة المثقفة للعنف؟
يتصرف العقل الجمعي بطريقة مختلفة عن طريقة العقل الفردي فالأول يمانع بطبيعته عملية التغيير بعكس العقل الفردي، إذ يميل الإنسان بمفرده لحساب العواقب، وهذا الحساب هو ما يميز العقلانية عن اللا عقلانية، ولكن إذا انجرف العقل الفردي لشروط العقل الجمعي فحينئذ سيصاب حتماً بمعظم آفاته كالانفعال والغضب، وهو عقل يمانع عملية التغيير.
لذلك عجز العقل الجمعي عن قبول النتائج التي حدثت في غرفة جدة بسبب شراء الأصوات أو الفساد الإداري للانتخابات، ثم عجز عن التصرف فنزل إلى أحط مستوياته العنيفة قولاً وفعلا.ً وهو العقل الجمعي نفسه الذي كان يصفق لإرهابيي بن لادن ويراهم أبطالاً ثم انقلب عليهم بعد استهداف الأبرياء في داخل المملكة العربية السعودية، بينما العقل الفردي القادر على تحليل الأمور كان أكثر تقديراً لحساب العواقب وتأمل الأبعاد. وهو نفس العقل الذي انجرف لفتوى صادرة في الانتخابات تزكي مجموعة مختارة محسوبة على التيار الديني ومعظمهم ليسوا من أصحاب الكفاءات العلمية أو الإدارية.
فبعد اختيار الأفراد لمنتخبيهم حسب دوافعهم الشخصية إما لأجل الولائم أو عبر الحفلات الخطابية أو حتى لأجل الأفضلية انجرف الجميع للفتوى الصادرة عبر العقل الجمعي، وهو العقل الذي يمكن أن يتحكم به رجال الدين حتى لو بقيادتهم للأعمال الإرهابية.
حسناً.. كيف ينجرف الإنسان عمليا في العقل الجمعي؟
تلك عملية تحدث أثناء التفكير في المسألة، وعبر اللاوعي، ودون أن يلحظ صاحب التفكير في الغالب بأنه يفكر عبر تلك الشروط التي يضعها الآخرون، أي عبر الإطار الثقافي أي عبر العقل الجمعي.
كثيرون يملكون أسئلة وجودية عن الله تعالى والكون، ولكن العودة للإطار الثقافي تسبب الرعب في الغالب من هذه التساؤلات، كما أن العقل يتميز بحالة شك من كل ما هو وافد من الآخر حتى من الإخوة العرب. أما العقل الجمعي العربي فهو يتميز بحالة عنيفة من عدم التوازن، والشبكة الدولية تكشف بصورة غاية في الحيوية هذه الحالة لعدم توازن الأفكار حول الهوية والإمكانية الحضارية.
لننتقل بعد هذ التشريح لكيفية حل المشكلات...
كي تحل معظم مشكلاتنا الانتخابية أو الفكرية أو التعددية على العقل الجمعي أن يتحول إلى عقل متعدد الآراء، ليس أحاديا لا يدعي الخصوصية لا يحكمه تيار شمولي يفرض رأيه الواحد، هذا التيار حتى لو كان يمثل الفضيلة على الأرض، فهو عدو التقدم وعدو الحضارة وعدو التعدد الإنساني الذي حتمه الله في البشر.
من الطبيعة الحتمية لأي مجتمع هو التعدد الفكري، كما حدث في أزمنة الحضارة الإسلامية الأولى، ويكون هذا التعدد عبر نظام إداري مدني، ليس هناك خيار آخر من إيجاد نظام شوري فاعل، ومن نظام فدرالي يتم فيه فصل السلطات التشريعية الثلاث. ولكن ليس دفعة واحدة، إذ إن التغيير السريع يتنافى مع السننية التاريخية، إذ تبدأ المسألة بتفكيك بنية ذلك الترابط الوهمي في العقل الجمعي عبر الأفكار ثم تنتقل المسألة إلى التعددية الانتخابية الشورية.
لنعد إلى جوستاف لوبون الذي قدر له أن يعيش مديداً بين مرحلتين حاسمتين ومتناقضتين في تاريخ فرنسا، حينما سبب الغوغاء المدنيون فوضى عنيفة في المجتمع الفرنسي، ثم قدر لتلك الفوضى أن تخرج منها التجربة الديمقراطية شبه المثالية في فرنسا، حينما أصبح هناك نظام اجتماعي جديد يحكمه العمال.
ولكن كيف ننقل المجتمع إلى هذه المرحلة؟
إن المطالبة بالشورى أو ما تسمى بالديمقراطية هو أمر متعسف في مجتمع مازال عقله الجمعي مصاب بآفاته المضنية، فتلك الشورى هي الطريقة لفوضى عارمة يحكم فيها الجاهل العالم.
القوة التي ملكها الغرب كانت بالاتجاه للعلم، هذا الأمر السماوي القديم، فنحن نتحدث كثيرا عن أشياء لا نعلمها، وإذا عدنا لتعداد حجم الأمية في السعودية وفي العالم العربي، ثم حجم الحاصلين على شهادات علمية بدرجة البكالوريوس ثم حجم الحاصلين على شهادات عليا في الماجستير والدكتواره، لوصلنا إلى نتائج مفزعة تفسر سبب الكثير من المشكلات التي نرزح تحت وطأتها دون أن نراجع مشكلاتنا بواقعية.
إذا فتعليم الشعب، والوصول إلى نتيجة يصبح فيها المواطن قارئاً لعدة كتب في الشهر الواحد، هو المنهج لصناعة مجتمع العلم والثروة والقوة.
وكل ذلك لا يكون إلا بالتفكير الإبداعي، المغير للعقل الجمعي، أصحاب هذا التفكير هم قادة الحضارة، ومن الطبيعي إدراكهم بأن المقاومة أمر طبيعي بل وحتمي لأنه يفكك العقل الجمعي ثم يعالجه من مرضه، بدواء مر يسبب الألم.
وبذلك التشريح الذي توصلنا إليه حول سبب ممانعة العقل الجمعي للتفكير الإبداعي، سوف نكتشف الخط الفاصل والدقيق بين أصحاب التفكير الإبداعي وبين أصحاب كل أنواع التفكير الأخرى، حتى ذوي التفكير النقدي الذي أوهمنا كثيراً بأهميته فأسرفنا فيه في نفس العقل الجمعي العربي المصاب بحالة عدم التوازن، رغم أن التفكير النقدي ليس بطبيعته إلا مرحلة متوسطة للمرحلة النهائية التالية، وهي التفكير الإبداعي.
ليكن الثمن بحجم العظمة!