مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ما بين هيتشكوك وروبرت بلوخ.. عودة إلى فيلم بسيكو والنموذج المقترن بثورة الأدب والسينما

تتضح علاقة الأدب الروائي سينمائياً بشكل نعيد من خلاله إنتاج الماضي، لاكتشاف التطور الزمني بشكل حي ينتمي لما هو ثقافي تاريخي أو بمعنى آخر معرفة قضايا المجتمعات التي تطورت بشكل سريع ومذهل. للنظر في الكثير من الأسباب التي جعلتنا نعيد النظر أكثر من مرة في الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية، المرتبطة ببعضها البعض. كما هي الحال في فيلم (بسيكو) المقتبس من رواية للكاتب (روبرت بلوخ) وروايته المهمة للكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية، الخاضعة لأهمية الدور الذي لعبته سينمائياً في زمن لم تكن فيه التقنيات قد وصلت إلى الكثير من الحداثة كما هي الحال اليوم. إلا أن الآلية الهيتشكوكية للتواصل مع الماضي الأدبي والسينمائي معاً ولّدت الكثير من الانطباعات التي تشمل التركيز على الفعل النفسي وتردداته عند الشخصية المحكومة بقواعد تربية هي حقيقة ويصعب التوقعات في نهاياتها. فالتوليف بين الرواية ومقدرة (ألفريد هيتشكوك) على منح المشهد قوة الخطاب البصري للتمكن من التقاط حواس المشاهد برمتها لا يمكن التحدث عنها ما لم تكن الديالكيتيكية الذهنية في جوهرها مرنة للغاية في فهم غايات (روبرت بلوخ) النفسية للخطر الذي يقبع في المجتمع من خلال استحضار الحدث ووضعه ضمن بؤرة الطمع والجشع والشهوة من الأمومة إلى حب المال والتهور، والاسترسال بغواية النفس، وإن ضمن فكرة الرعب السينمائي بعيداً عما كانت تفتقر لها السينما من أدوات إخراجية حديثة آنذاك أي عندما تم إصدار فيلم (بسيكو Psycho) عام 1960، ورغم ذلك يجذبك هيتشكوك كما جذب الكثير من المنتجين لإعادة إنتاج الفيلم مرة أخرى. إلا أن البريق الهيتشكوكي في فيلم بسيكو لم يحتفظ بوهج الحداثة المفترض أن يتم مع إعادة تدوير للشخصيات، وطابعها الفريد في الأداء بالرغم من بساطته خاصة مشهد الاستحمام، والذي يعتبره البعض واحداً من أعظم المشاهد في تاريخ السينما. فهل ميزة هيتشكوك هي فروقات لمسها بين الكاتب الروائي (روبرت بلوخ) و(جوزيف ستيفانو) فيما التقطه من رؤية نفسية ترتبط بما هو مشترك عند الشخصيات كافة؟ وهل كل فرد في رواية (روبرت بلوخ) هو مريض نفسي في جزء من رغباته النفسية من جيمي لي كيرتس وصولاً إلى فينس فون؟
ما بين هيتشكوك وروبرت بلوخ عودة إلى فيلم بسيكو والنموذج المقترن بثورة الأدب والسينما، فالبقاء مع الحبيب والاسترسال مع هوى النفس هو مرض نفسي لا نشعر به إلا عندما تجتمع الكثير من العلل النفسية في شخصيات روايات (روبرت بلوخ) والكشف الإخراجي لها عند (ألفرد هيتشكوك). فالمرأة التي تدعى (ماريون كرين) وهي الممثلة (جانيت لي) تحاول امتلاك حبيبها من خلال قدرتها على امتلاك المال بشتى الطرق. فتختلس الأموال وترحل هاربة إلى قدرها حيث الشرطي المهووس أيضاً بالشك المهني، بمعنى محاولته الدائمة في مراقبتها من خلال السلوك الذي أثار مرضه النفسي المهني، كما هي الحال مع تاجر السيارات الذي استطاع إظهار استغرابه من سرعة الشراء عند امرأة دفعت المال فوراً عند استبدالها لسيارة ما زالت بحالة جيدة، وببراعة حقيقية لإثارة الدهشة وعدم القدرة على التوقعات. لنبقى في مفاجآت مستمرة طيلة مدة الفيلم من بداية اختلاسها المال وصولاً إلى اكتشاف حقيقة شخصية (نورمان بيتش) وهو الممثل (أنتوني بيركنز) مدير الفندق البعيد جداً والهادئ بحيث لا يمكن أن يكتشف أحداً أنه مرعب بمرضه النفسي الخطير، وغير القابل للشفاء، وهو قاتل والدته التي تركته، لتبقى مع رجل اعتبره غريباً رغم أنه زوج أمه، فقتلها وأخفى جثتها في القبو لتبقى معه هو فقط بأنانية مفرطة وحب امتلاك مذهل لا يمكن أن نتوقعه في شخصية هادئة كهذه التي تبدو كأنها شخصية متعاطفة مع الأم، وتحاول إخفاء غيرة الأم على الابن بينما هي أنانية الابن وحب امتلاكه لوالدته. فهل نقع في فخ الحياة كما يقول (روبرت بلوخ) في روايته؟ أم أن كاتب السيناريو والمخرج قاما باكتشافات مرعبة مصدرها النفس البشرية المريضة بمرض عضال يؤدي إلى التهلكة؟
المنظور النفسي في روايات (روبرت بلوخ) والرعب الإجرامي المُستخرج من المرضى النفسيين هي نغمة سرد في حبكات أمسكها (ألفرد هيتشكوك) واستطاع جعلها قاعدة درامية تكشف عن أهمية الأدب الروائي النفسي، وإدخاله سينمائياً. ليكون نافذة على إبداعات تتشابك مع بعضها البعض من الموسيقى إلى التمثيل، فالتصوير واللعب بالضوء والظل، وأهميته في خلق التأثيرات ضمن المشاهد الخارجية خصوصاً تلك التي تتميز بالترقب والحذر عند الإحساس بالرعب النفسي، والقدرة على الاستنتاج والربط والتحليل، مما يفتح نافذة خاصة نحو الجريمة الحقيقية في الحياة وهي تحويل الإنسان بسبب سلوك الأم في التربية أو سلوك العاشق مع معشوقته أو حتى سلوك الابن في الاسترسال بمشاعر وهمية من إنسان سوي إلى بشري يدمن القتل ويُصاب بأمراض النفس القاهرة المربكة وجدانياً والمؤثرة سينمائياً مع ألفرد هيتشكوك وفيلمه هذا الذي أصبح مدرسة إخراجية. فهل نجاح هيتشكوك في فيلمه بسيكو هو قدرته على فهم الحركة الفعلية عند شخصيات روايات روبرت بلوخ؟
العصر الذهبي لقصص الرعب النفسي التي بدأت سينمائياً مع (ألفرد هيتشكوك) والخيال الإخراجي المتطور حينها من منظور الرواية البصرية التي تتنافس مع المكتوبة وتمنحها نجاحاً آخر يضاف إلى ما أنتجه بلوخ خيالياً من تصميم لشخصيات قاتلة لا تقل أهمية عن الشخصية المقتولة، والتي تتسبب بالدرجة الأولى في جذب القاتل نحوها عندما يصبح التماثل في الحياة بين القاتل والمقتول هو جزء من انحراف النفس التي جعلت من فيلم بسيكو مصدراً للتحليل النفسي، ودراسته بشكل جدي في الأعمال الروائية والنفسية بعيداً عن الحركة النسائية، وعمل المرأة في أمريكا منذ العصور القديمة، وما يتعلق بعلاقات الحب المرفوضة خارج الزواج آنذاك، ومن ثم علاقات الأبناء مع الأم المتسلطة، كما هي الحال مع والدة كارولين في البداية بتلميحات تكتيكية، ومن ثم في الفندق مع والدة القاتل الذي لم يكن من المتوقع أن يكون مريضاً نفسياً مخفياً لهذه الدرجة القوية من الرعب النفسي. فهل التحليل النفسي الفرويدي هو في عمق شخصيات روبرت بلوخ؟ أم أن ألفريد هيتشوك استطاع تسليط الضوء بشكل أكبر على كاتب أصيب بالحزن في طفولته بسبب فقدانه معلمته فأنتج أكثر من ثلاثين رواية على مدار عمره. وهل استطاع روبرت بلوخ وألفرد هيتشكوك التأثير على كتاب الرعب والمخرجين في الأجيال الحديثة، وبالتالي ولادة الكثير من الأعمال التي تستخرج ما في النفس عند مشاهدتها أيضاً؟ وهل التوتر النفسي هو للحفاظ على التشويق الآسر لفهم أسرار النفس الإنسانية وأمراضها؟ وهل الخلاصة هي: ابحث عن الأم أولاً قبل العلل النفسية وأسبابها؟
ما بين الحياة والموت تقع الشخصيات في فخ يجعلنا نعيد التفكير في الحدث النفسي الذي بدأ ينجلي منذ أن قررت الآنسة لي اختلاس الأموال والهروب إلى خارج الولاية التي كانت تعيش فيها، فيدها على مقود السيارة أثار رهبة الترقب، والدراما غير المتوقعة بسبب الاختلاط أولاً، وهذا غير متوقع في فيلم أمريكي من الدرجة الأولى ومن ثم قسوة الأم ووحشية الابن الذي يعيش في وحدة منذ طفولته، فالأخلاق المقيدة بمفاهيم العزلة والبعد عن الناس تتسبب بمقتل من تلوث أخلاقياً بسبب الشهوة وحب المال والامتلاك الوهمي. إذ يثير فيلم بسيكو الأعصاب عند إمساك الآنسة لي مقود سيارتها في هروب نعيش معه قلق الواقع المضطرب الذي أصيبت به عند رؤيتها للمال، وهي التي سرقت المبلغ بأكمله من مديرها في العمل. إلا أن ما يحدث غير متوقع سلوكياً، وحتى قدرياً بمعنى القدرة على تغيير مسار الإنسان في اختيارات تبقى قيد الفطرة الحياتية التي يمتلكها، والمتأثر جداً بعقدة الخوف التي لم تتسرب إلى نفس صاحب الفندق القاتل الذي ينفصل تماماً عن شخصيته جراء الخلل النفسي الذي أصيب به نتيجة التربية الخاطئة من الأم، فالتقلبات النفسية عند الشخصيات هي احتمالات لنهاية قد تكون بدايات لمواضيع ودراسات مختلفة في الأدب والسينما والاقتباسات المشتركة بما هو نفسي ودراستها. لتكون تحفة إنسانية تتطور مع الزمن وتؤثر في الطب النفسي خاصة. فهل أفلام الرعب التي تلت المرحلة الذهبية السينمائية لم تخرج من أكمام هيتشكوك بل مازال يحتفظ بما يعلم منه الأجيال القادمة؟

ذو صلة