لا حدود للشكل أو اللون في لوحات معرض الفنانة الإيطالية (كارولينا باسكاري)، فكلاهما مسكون بالآخر، ويفيض عنه بحيوية باذخة، كأنهما حريتان تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية العمل الفني نفسه. يعزز ذلك أن الشكل لديها ليس معطىً عقلانيّاً، مسيَّجاً بعلامات وخطوط وأسوار وأفكار مسبقة، إنه حالة من القفز في الحرية، حرية أن تكون أو لا تكون، بمحض إرادتك وتلقائيتك، وكيفية التعاطي مع العالم المحيط بك، والذهاب فيما وراء اللون نفسه، واكتشاف حيوات وعوالم مخبوءة في ظلاله وكهوفه، تكاد تكون طقساً من الأسرار المكبوتة المهمَّشة في جعبة الزمن.
افتتح المعرض في 30 ديسمبر الماضي بمنتجع (دومينا كورال باي) المطل على خليج العقبة بمدينة شرم الشيخ بعنوان (عقل ملوث)، وضم 40 لوحة توزعت على فضاء المنتجع. وللوهلة الأولى تعطي اللوحات انطباعاً بأنه لا شيء مستقل عن ذات الفنانة، فالأشياء تبدأ منها وتعود، تلتقي وتتعانق بلهفة وحنو، ثم تفترق بأسى ولوعة، تاركة فوق السطح بقعاً حيَّةً وطازجةً من الحنين لشيء ما. أحياناً يتراءى هذا الحنين كذكرى، أو حلم بعيد يحلِّق في فضاء الصورة، حيث اللعب الطفولي بالألوان والشغف العاطفي المشمس بغواية المنظر، يشعان في تفاصيل اللوحات ويوسعان من فضاء الرؤية والإيقاع في سلاسة بصرية موحية، تشكل نقطة التقاء جوهرية ما بين الحاجة الكامنة في الداخل، وظلالها ونثرياتها المنداحة في خضم الواقع والحياة.
في فضاء هذه الرؤية يطل البحر في طوايا الأشكال والعلامات بلونه السماوي الأزرق المتموج الرجراج، وأفقه اللانهائي، مشكلاً مرآة داخلية للوحة ولذات الفنانة في الوقت نفسه. واللافت أن هذه الموازاة الفنية بين البحر والذات تنعكس بدورها على اللوحات، مثيرةً حالة من الجدل بين مشاعية السطح وثقل العمق، وكذلك بين الفوضي والنظام، والثقل والخفَّة. لا تقدم اللوحات حلولاً منطقية لهذا الثنائيات الجدلية، أو تصنع نوعاً من التصالح الزائف بينها، إنما تشيع في مسامها جواً من الحوار، يتكثف كلما ارتفعت وتيرة الوهج اللوني وازدادت تفجراً، ووصلت إلى ذروتها الجمالية بقوة التلخيص والاختزال. هنا يتكشف الحوار الكتوم المختزل في نسيج اللوحات، ويتحول إلى مصفاة، تلم شتات العناصر المبعثرة الضاجة بالحركة على السطح، تغمرها بضربات الفرشاة المرتجلة النَّزقة، وتصفِّيها من شوائبها لتبدأ رحلة من الصفاء النفسي والروحي في العمق، عمق اللوحة والذات معاً.
في غبار كل هذا تقف الفنانة على عتبة التجريد، تتحسس نبض الإنسان تحت قشرة الألوان وفي تراكماتها العنكبوتية، تعتصر أقصى طاقاتها المجردة والحسية معاً، لكنها تتخطى هذه العتبة المربكة بإحساس لافت بالموسيقي نلمسه في خروشة تومض بخفة وثقل داخل الأشكال وحركتها المتموجة المشعة في الكثير من اللوحات، حيث يطالعنا نوع من التضافر الحميم، بين اللون والصوت والحركة، وهو ملمح فارق يشكل نوعاً من الخصوصية الجمالية.
بهذه الروح الوثَّابة، وبعربدة ونهم شرس تطلق الفنانة العنان لدفقاتها اللونية على السطح، وفي الوقت نفسه تنفعل وتتفاعل، وكأنها تنصت أو تعزف على أوتار نغمة مشتعلة في الداخل، ترى ما حولها كأنه صدى لها. ينساب ذلك في إيقاعات ولطشات بصرية متنوعة، تعزز من قدرة اللون على ابتكار الشكل والتعبير عنه وفق منظور الذات وهواجسها وأحلامها ومرآتها الخاصة، وهو منظور مفتوح بحيوية على العناصر والأشياء، يكاد يشدُّ اللوحةً إلى خارج القماشة أحياناً، واضعاً جدلية الذات والبحر في موازاة أخرى واختبار حي مع الواقع المعيش.
تتميز اللوحات في الغالب بأسطح بسيطة، يكسبها نزوعها التجريدي طاقة حلمية طافرة، كما أن الضوء ينبع بعفوية من حركة اللون في اللوحة يتشرَّبه، ويغمرها من زوايا ومساقط متنوعة، ما يجعل فعل الرسم يتماهى أحياناً بفكرة التطهير، بمعناها الدرامي والسيكولوجي، فكأن اللهاث والتدفق والعربدة والتفجر على السطح، محاولة للتخلص من حمولة زائدة متراكمة في الداخل، وتحويلها إلى شيء ذي معنى، فوق مسطح الرسم. لكن، هل نحن هنا إزاء حالة من العلاج بالفن. واقعياً، يبدو الأمر كذلك، إلى حد ما. فلو نظرنا إلى التكوين في اللوحات، نجد أنه ينفلت من أسر الكتلة بوضعيتها النمطية ومعايير التوازن والانسجام التقليدية، لوحات باسكاري تبحث عن انسجام آخر، ابن البعثرة والتشظي في مسارب الوجود والحياة، لذلك تكسر دائماً، شمولية الفراغ المنظم، بكل محمولاته وإرثه السابق، وأحياناً تفتته لخلق فراغ آخر، ليس مرتبطاً بحيز أو مساحة محددين، إنما مرتبط أساساً بتعارضات الروح والجسد، والقدرة على تذويب العقد والفواصل الزمنية السميكة بينهما فنياً.
على ضوء هذا، تتنوع تراسلات البحر وموازاته بصريا في اللوحات، وتكتسب هذه الموازاة ثقلاً له مظهر فلسفي ووجداني، كاشفة عن مساحة من البوح المتخفي في اللوحات، كأنه شمس غاربة مكسوَّة بلطشات من الشجن، وقطرات من الحزن الشفيف. ويصبح التكوين المبعثر المنداح على السطح والعمق محاولة لإيجاد، أو استعادة توازن إنساني هش.. مجرد جسر صغير، تعبر عليه الذات بأمان، لتلامس أوجاعها وأحلامها بمحبة خالصة بعيداً عن متاهة العقل وتلوثه.
وبنظرة تطبيقية، تنطوي على قدر من التأمل الحصيف في اللوحات، بأحجامها وصبغاتها اللونية المتنوعة، قد يبدو السؤال ملحاً هناً، بل ضرورياً، وهو: إلى أي مدي يمكن أن يكون الشكل بإيقاعاته المرتجلة، وألوانه المتفجرة ردة فعل لحالة من التوتر العصبي، تحاول أن تتخفف من حدتها على المسطح الورقي، الذي يؤدي بدوره وظيفة امتصاصية، تتجاوز سياقه الفني المعروف كحاضن للشكل والتكوين.
إذن، ستكون الإجابة أننا أمام سيل جارف من الشحنات العاطفية، لا يأبه بالسير في مجرى معين، ولا يأبه أيضاً بالوصول إلي شاطئ معين. إنها شحنات مبثوثة في هواء السطح، تلامسه بقوة، وتخدش حياءه بمراهقة مشتعلة ومجنونة وبخاصة في التعامل مع اللون والضوء والغوص في الأعماق، حيث المياه الهادئة والدفء الصافي.
في الصورة ثمة علامات توحي بذلك، وتحيل إليه بتلقائية نشطة ومخيلة أنيقة. فعلى السطح، ثمة بعثرة للأشياء والعناصر، في ظلالها تتماجن الألوان وتتقلب في زرقتها الثقيلة، وتدرجاتها المخففة، تقطعها وتتخللها أحيانا شرائح من البياض الناصع، يشبه زبد الموج، حين يصطدم بالشاطئ، بعد رحلة ضارية من الشهيق والزفير. ولا بأس أن تعطي الصورة انطباعاً حسياً بكومة من الأسلاك الشائكة البالية والخطوط المندغمة المتشابكة، أو يتراجع الأزرق قليلاً، مفسحاً المجال لكتل صغيرة من الأسود، بدرجاته الرمادية الداكنة والخفيفة الصاعدة من الأعماق بسمتها الأشيب، كأنها غلالة من السحب على وشك أن تضع حملها، بينما تسامرها طرطشات من الأصفر الليموني والبرتقالي، والبنفسجي الزهري الوهاج. تلتف وتفترق كأنها وجود مفتت، يبحث عن رحم يحتويه.
يحضر البحر بتكرار مطرد ومتنام في اللوحات، وينأى عن كونه قناعاً لموضوع، أو فكرة لها وجه واحد كامن تحت القناع، إنه أوجه متعددة عاطفياً وبصرياً، تلتقي لتفترق، وتفترق لتلقي من جديد، وكأننا إزاء حالة من السيولة الجمالية. فالبحر شاهد على اللوحة وحارس لها. كائناته حية في نسيجها، تولد في العمق على شكل أعشاب ونباتات وحزم متراصة من الموج، وأحجار صلبة مشعة. ويلعب على السطح في شكل عقود من المحار مستديرة في داوئر منفتحة تطل على خط الأفق في الأعلى من خلال كوة صغيرة، وأخرى منغلقة على نفسها، كأنها تنتظر حبيباً أو عشيقاً، كي تتفتح له.
فهكذا، لا تتعامل الفنانة كارولينا بسكاري مع جدلية البحر واللوحة كمحض لعبة فنية شكلية، وإنما تصنع منها أداة للمعرفة، وسلاحاً للكشف والتكشف والغوص في أغوار النفس البشرية المثقلة بمفارقات الشك واليقين، وحرقة القلب، حين لا يجد أرضاً طيبة يزهر ويثمر فيها بحب.