مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الثقافة قوتنا الناغمة

الكتابة عن الثقافة على قدر ما يحفها من متعة على قدر ما هي كتابة مجهدة تُشَرِقُ وتُغَرِبُ بالقلم والكلمات والمعاني والدلالات.

فمفردة (ثقافة) ليست مفردة صامتة ولا مفردة ثابتة تستقر على معناها دون أن تعيد تعريف نفسها، بل هي مفردة ناطقة مشاكسة تتنقل بين المعاني والدلالات وتستقر حيث يطيب لها بين زمان وزمان، ومكان ومكان، ويرى أحد أهم منظري الثقافة وهو (ريموند ويل) أن الثقافة أحد أكثر المفردات تعقيداً في اللغة الإنجليزية حسب ما جاء في كتابه (Keyword).
وقد حصر العالمان (الفريد كروبر) و(وكلايد كلوكهون) (164) معنى أو تعريفاً لمفردة (ثقافة) ولزيمتها النسبية (حضارة)، مما يصعب معه تحديد تعريف أو وضع قالب واحد يمكن من خلاله تجسيد الثقافة أو تعريفها.
ولكن لأن التحديد مهم عند الحديث عن المفردات والمصطلحات، ولسنا نقصد هنا بالتحديد التعريف، وإنما نقصد محددات يمكن تصورها وفهم ما يمكن أن يدخل في حدودها وضمن قوالبها المعلومة من خلال المعرفة البسيطة غير المعقدة بمصطلحات التخصصات المختلفة، واستناداً إلى هذا المبدأ فإنه بالإمكان أن نختار أربعة قوالب يمكن أن تجسد لنا مفهوم الثقافة على أنها:
-1 الصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني.
-2 القيم، العادات، المعتقدات، والممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة.
-3 تراكم من العمل الفني والذهني.
-4 الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة.
والثقافة مفهوم ومكتسب فردي واجتماعي يأتي على صورتين، مادية، ولا مادية، فالمادية تشمل كل ما يرتبط بثقافة جماعة أو مجتمع أو أمة من الأشياء المحسوسة المادية من مأكولات، ومشروبات، وأزياء، وأدوات، ولوحات فنية، ومنحوتات. واللا مادية تشمل كل الأشياء غير المحسوسة أي التي ليس لها كتلة مادية، مثل الأدب بأنواعه المختلفة، والحكم، والقيم، وطرق التعامل، وأساليب الحياة، وفنون الأداء من عرضات وألعاب وموروثات ترتبط بالعادات والتقاليد وما في حكم هذه الأشياء غير المادية.
وصول كلمة (ثقافة) إلى القاموس العربي
يظل لمصر العروبة سبقها الذي يذكر ويشكر، ويظل للمغرب العربي تاريخه المعرفي الذي لا ينكر، فالأديب المصري سلامة موسى هو أول من استعمل مصطلح ثقافة ليقابل به لفظة (culture) في العصر الحديث، وجاء ذكر هذا في مقالة له بعنوان (الثقافة والحضارة)، وقد أعاد أصل هذا المصطلح إلى العلامة ابن خلدون، حيث يقول سلامة موسى: (كنت أول من أفشى لفظة الثقافة في الأدب العربي الحديث ولم أكن أنا الذي سكها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون، إذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بلفظة (culture) الشائعة في الأدب الأوروبي)، والتي تعني: (الثقافة هي المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمها الناس ويتثقفون بها، وقد تحتويها الكتب ومع ذلك هي خاصة بالذهن).
وقد توسع استخدام مصطلح الثقافة على مدى السنوات اللاحقة من عمر المجتمع العربي، ودخل في عدة مجالات حياتية وإعلامية ودراسية، وفي النتاج المعرفي والعلمي العربي. وأصبح يحمل طابع مصطلح الثقافة المصدر في تشعب معانيه ودلالاته، وصعوبة حصره في إطار ضيق لا يتسع لطبيعته المرنة النشطة.
قوتنا الناغمة
عند استبدال العين بالغين، فإن المعنى قد يكون أدق تعبيراً، ولا بأس من بعض التجاوزات اللغوية غير المخلة، فالثقافة تحمل نغمات الأوطان، وتنتقل عبر الحدود باللحن الذي تستبطنه وتستظهره، فهي قوة من غير عنف، وحضور حافل ملفت من دون ضجيج مزعج على الرغم من أنها تحضر في جزء منها محملة بأصوات الدفوف وقرع الطبول وضربات الزير.
نغمات الثقافة كما أنها تأتي في الفنون الأدائية، فهي تأتي في تناسق ألوان الأزياء التراثية، وزينة المشغولات اليدوية، وفي لون الريحان والكادي، وشذى الفل، ونكهة الطهي، ولمعة السيوف ورفرفة راية الوطن.
الوطن الذي تشكل من ثقافة السهل والوادي والصحراء والساحل، ليشكل لوحة مرسومة مكتوبة مغناة، متسقة متناسقة، ذات هيبة وجمال، وحقيقة مختلفة، فهي نغمة العربية، ودندنة الحق.
الثقافة قوة حقيقية تعبر الآفاق وترتقي بالأذواق، وتقارب القلوب، وتحقق تعارف الشعوب، وتآلف الأوطان والإنسان.
وهذا ما قامت به وبأكثر منه وزارة ثقافتنا الفتية، والتي جاءت رؤيتها: (أن تزدهر المملكة العربية السعودية بمختلف ألوان الثقافة، لتثري نمط حياة الفرد، وتسهم في تعزيز الهوية الوطنية، وتشجع الحوار الثقافي مع العالم).
وتحدد هدفها: (أن نمكّن ونشجع القطاع الثقافي السعودي بما يعكس حقيقة ماضينا العريق، ويساهم في سعينا نحو بناء مستقبل يعتز بالتراث ويفتح للعالم منافذ جديدة ومختلفة للإبداع والتعبير الثقافي).
ولتسهم بدورها المهم والمباشر في (تحقيق الركائز الإستراتيجية الثلاث لرؤية المملكة 2030، والمتمثلة في بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح).
الخصائص الثقافية
لكل مجتمع خصوصية ثقافية، وهذا لا يعني التفاضل على كل حال بين مجتمع وآخر على أساس هذه الخصائص، وإنما يعني أن هناك طرقاً مختلفة في حياة المجتمعات وأساليبها وأنماط سلوكها، ومقتنياتها المادية، ونظرتها إلى الوجود والحياة، والعلاقات والمعاملات، وهذه الاختلافات والتباينات لها أسبابها المتعددة المرتبطة بالتاريخ والبيئة والتضاريس والإرث الحضاري المادي والمعنوي.
وثقافة المملكة العربية السعودية تأتي وفق هذا المفهوم العام، كما أنها تأتي في ظل مفاهيم أكثر خصوصية، فبين حدودها الحالية ولدت ونشأت ثقافة إسلامية، وقبلها نشأت ثقافة عربية كانت هي جزء منها، فارتبط قديمها بجديدها، (إسلام وعروبة)، فالثقافة السعودية تلتقي مع العديد من المجتمعات والشعوب في هذين المحورين، وتختلف عنهما في خصوصيتها المحلية الثرية بالتنوع الحضاري الثقافي في وسطها وجهاتها الأربع.
وزارة الثقافة السعودية.. النشأة والمسؤوليات
تأسست وزارة الثقافة يوم 17 رمضان 1439هـ الموافق 2 يونيو 2018م، بموجب الأمر الملكي رقم أ/217، وأوكلت مهمة قيادتها للأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وزيراً لها.
وقد حددت مهامها ومسؤولياتها بشكل دقيق، وفق محددات عامة تدخل التفاصيل الثقافية ضمن أطرها العامة، وجاءت موضحة على موقعها على الشبكة، وفق المحددات العامة التالية:
التراث- الآداب- الفنون. بشقيها المادي واللامادي.
وقد تم تعريف هذه المحددات بالشكل التفصيلي الواضح، ويمكن الرجوع إليه على صفحة الوزارة.
نظرية الأجيال للتثاقف السعودي العربي والعالمي
بناء السياسة الثقافية استناداً على فهم طبيعة الأجيال أحد أهم المنطلقات التي تشد الانتباه لأسلوب وزارة الثقافة في فتح النوافذ الثقافية، ومد جسور التواصل بين الثقافات المحلية المتنوعة للوطن الواحد فيما بينها البين، وبين الثقافة السعودية والثقافات العربية والعالمية.
وقد أصدرت وزارة الثقافة دراسة بحثية تحت عنوان (مزامنة جيل ما بعد الألفية) بنتها وفق منهجية بحثية رصينة، وعلى أسس متينة في استخدام المنهج والأدوات البحثية المناسبة.
وقد جاء تحديد المفاهيم بدقة عالية ابتداء من تحديد جيل ما بعد الألفية والجيلين الآخرين، وهذا التحديد وإن كان يتفق مع بعض التقسيمات المطروحة سابقاً من حيث المسمى في دراسات الأجيال وربما التقسيمات الزمنية، إلا أن دراسة وزارة الثقافة جاءت لتطبق على مجتمع محدد، ووفق معطيات وأهداف بحثية دقيقة وشاملة وتحمل أهدافاً تنفيذية ضمنية متفقة مع أهداف الوزارة ومهامها.
والدراسة تشير إلى الأجيال وفق المحددات التالية:
جيل ما بعد الألفية (Z) الذين ولدوا بين عامي (1996 - 2016م).
جيل الألفية (Y) الذين ولدوا بين عامي (1981 - 1994م).
الجيل العاشر (X) الذين ولدوا بين عامي (1965 - 1980م).
والدراسة موجودة على موقع الوزارة المنظم والثري رغم حداثة عمر الوزارة، وهذه الدراسة جديرة بالاطلاع والبناء عليها عند القيام ببحوث مرتبطة بالمواضيع الثقافية وتفرعاتها التي تدخل ضمن اهتمامات وزارة الثقافة، وكذلك عند دراسة المجتمع السعودي من عدة جوانب، فالثقافة مرتبطة بالكل الاجتماعي، وهي عنصر تقوم عليه الحياة الاجتماعية وتطور الواقع الاجتماعي.
المشتركات الإنسانية للتثاقف السعودي العربي والعالمي
بنيت سياسة وزارة الثقافة على عدة أسس نحاول أن نقف على بعضها، فبعد أساس فهم الأجيال الذي جاء معنا في الأسطر الماضية، فقد بنت سياستها أيضاً على أساس المشتركات الإنسانية، وهذه المشتركات الإنسانية تتشابه في العام وتختلف في الخاص، فالألبسة، والأدوات، وجوانب الطهي المختلفة، والأجناس الأدبية.. إلخ.. مشتركات إنسانية إلا أن لكل مجتمع مكتسباته التي يتعامل مع هذه العناصر وفقها، ولذلك فإن الثقافة تسمى أحياناً (الموروث الثقافي) أو (المخزون الثقافي)، ومن خلالها بالإضافة لاعتبارات أخرى يتم تمييز المجتمعات، وتشكيل الهوية الخاصة.
والمملكة العربية السعودية مستودع ضخم لثقافات فرعية تدخل ضمن تشكيل ثقافتها السعودية العامة، وقد حددت وزارة الثقافة (16) قطاعاً فرعياً ركزت عليها جهودها وأنشطتها سنجد أنها شاملة ومتضمنة كل ما يمكن أن يدخل ضمن حدود الثقافة، وبما يكون قوة ثقافية حقيقية تشترك الميول والتفضيلات الإنسانية في عدد منها مع اختلاف المحتوى المبني على الثقافة الخاصة لكل مجتمع وبيئة ثقافية، وهي في الوقت ذاته تربط الحاضر السعودي بجذوره المعرفية والثقافية من خلال عدة قطاعات ضمن هذه القطاعات المشمولة باهتمام وتركيز وزارة الثقافة ومنها على سبيل المثال قطاع التراث، والمتاحف، واللغة، ويمكن أن نطرح مثالاً ملموساً عن الاهتمام الفعلي بجانب الثقافة المادية من خلال ما أشار إليه (شون فولي) في كتابه الصادر حديثاً عن دار أدب للدراسة والنشر تحت عنوان (السعودية المتغيرة): الفن والثقافة والمجتمع في المملكة، عن توجه الدولة بشكل مباشر عن طريق وزارة الثقافة إلى اقتناء الأعمال الفنية للفنانين السعوديين، ووضعها في الأماكن التي تعطيها حقها من البروز والشهرة، كما أن هناك توجيهاً من ولي العهد منذ عام 2013م بأن تكون الأعمال الفنية التشكيلية في مقراته الرسمية أعمالاً منفذة بأيد سعودية حسب ما جاء في نفس المصدر بناء على ما أوضحه وزير الثقافة، ومن خلال هذه المبادرة الرائدة يكون هناك لغة ثقافية أخرى تخاطب النخبة من زوار المملكة الذين يلتقيهم ولي العهد، أو يلتقيهم مسؤولو الدولة على اختلاف جنسيات هؤلاء الزوار، وثقافاتهم، ويكون اللقاء بطبيعة الحال في المقرات الحكومية المختلفة التي شملها التوجيه الكريم بشراء الأعمال الإبداعية التشكيلية السعودية، ووضعها في مختلف هذه الجهات.
صندوق الفعاليات ومستقبل الثقافة
تبع إنشاء وزارة الثقافة العديد من الخطوات التي تأخذ بيد الثقافة السعودية إلى أبعد من حدودها في تشكيل الهوية ورسم معالم الخصوصية وجماليات التراث والإرث المعرفي وجاذبية اللون وعراقة النغم، إلى مساحات وميادين أخرى كان آخرها إطلاق الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، صندوق الفعاليات الاستثماري بتاريخ 17 يناير 2023م، والذي يأخذ بيد الثقافة إلى ميدان الاستثمار، وجعل العنصر الثقافي شريكاً في تحقيق رؤية المملكة 2030 من أجل اقتصاد متنوع المصادر، وجودة حياة اجتماعية ترتكز على قيم ثقافية واضحة المعالم، ومستدامة الفائدة.

ذو صلة