مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

ثلاثة أحلام غريبة تحققت في التراث العربي

يكاد يكون من شبه المؤكد أن جميع البشر يحلمون، حتى العميان منهم، وذلك يدل على استمرار نشاط دماغ البشر حتى أثناء النوم. والحلم، حسب تعريف قاموس التراث الأمريكي للغة الإنجليزية، هو (سلسلة من الصور والأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تحدث عادة بشكل لا إرادي في العقل أثناء مراحل معينة من النوم). وهذا يعني أن الحالم يكون أمام قصة يشاهدها أثناء نومه، أو يتراءى له أنه عضو مشارك في أحداثها. مع أن هذه الأحداث قد تكون خيالية، إلا أن لها صلة -بشكلٍ أو بآخر- بالواقع المُعاش للشخص الحالم.
لقد سجل لنا المؤرخون للتراث العربي القديم ثلاثة أحلام غريبة تحققت على أرض الواقع، ولايزال أثر بعضها ماثلاً -حضارياً- حتى يومنا هذا.
بناء الأهرامات
يروي لنا الحلم الأول قصة سبب بناء الأهرامات في مصر، فقد ذكر علي بن الحسين بن علي المسعودي (توفي 346هـ/ 957م) في كتابه (أخبار الزمان) أنّ: (سوريد بن فيلمون، وكان ملكاً على مصر قبل الطوفان بثلاثمئة سنة فرأى في منامه كأن الأرض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس يهربون على وجوههم وكأن الكواكب تتساقط، ويصدم بعضها بعضاً بأصوات هائلة مفزعة فرجف قلبه وأزعجه ذلك وأرعبه ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم. ثم رأى بعد ذلك، كأن الكواكب الثابتة (النجوم) نزلت إلى الأرض في صورة طيور بيض كأنها تخطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة، فانتبه أيضاً مذعوراً فزعاً.
فدخل إلى هيكل الشمس، وجعل يتضرع فيه ويمرغ خديه في التراب، ويبكي، فلما أصبح أمر رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مئة وثلاثين، فخلا بهم وحكى لهم جميع ما رآه فأعظموه وأكبروه وتأولوه على أمر عظيم يحدث في العالم.
فقال فيلمون عظيم الكهان، وكان فيلمون إذ ذاك كبيرهم، وكان لا يبرح من حضرة الملك لأنه رأس الكهنة كهنة أشمون، وهي مدينة مصر الأولى، قال إن في رؤيا الملك عجباً، وأمراً كبيراً، وأحلام أهل الملك لا تجري على محال ولا كذب لعظم أقدارهم، وكبير أخطارهم، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لأحد من الناس. فقال له الملك: قصها عليّ يا فيلمون، قال: رأيت كأني قاعد مع الملك على رأس المغار الذي في أشمون، وكأن الفلك قد انحط من موضعه، حتى قارب رؤوسنا وكأن علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك رافع يديه إلى السماء، وكواكبا قد خالطتنا في صور شتى مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انجفلوا إلى قصره، وكأن الملك رافع يديه إلى أن يبلغ رأسه، وأمرني أن أفعل مثل فعله، ونحن على وجل شديد إذ رأينا منه موضعاً قد انفتح وخرج منه ضياء يضيء، ثم طلعت علينا منه الشمس فكأنا استغثنا بها فخاطبتنا بأن الفلك سيعود إلى موضعه إذا مضت له ثلاث وستون دورة. وهبط الفلك حتى كاد أن يلصق بالأرض ثم عاد إلى موضعه، فانتبهت فزعاً. فقال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب وانظروا هل من حادث، فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، فأخبروه بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تحرق العالم.
فأمر الملك ببناء الأهرام، فلما تمت على ما دبروا حكمه، نقل إليها ما أحب من عجائبهم وأموالهم وأجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا فيها علومهم، وحكمهم).
طبعاً لا توضح القصة أي أهرامات تلك التي بُنيت، هل هي أهرامات الجيزة الكبرى الشهيرة أم غيرها؟! إلا أنه في جميع الأحوال حقق حلمه بمشروع خلّده الزمن.
استيطان الحيرة
الحلم الثاني يروي لنا قصة التنبؤ بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدوث المصائب والويلات لقبيلة ربيعة بن نصر ملك اليمن، فقد جاء في السيرة النبوية لابن هشام أن ابن إسحق قال: (كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته، وفظع بها فلم يدع كاهناً، ولا ساحراً، ولا عائفاً ولا منجماً من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم‏‏‏:‏‏‏ إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له‏‏‏:‏‏‏ اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال ‏‏‏:‏‏‏ إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها‏‏‏.‏‏‏ فقال له رجل منهم‏‏‏:‏‏‏ فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه‏‏‏.‏‏‏ فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له‏‏‏:‏‏‏ إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها‏‏‏.‏‏‏
قال‏‏‏:‏‏‏ أفعل، رأيت حممه خرجت من ظلمه، فوقعت بأرض تهمه، فأكلت منها كل ذات جمجمه، فقال له الملك‏‏‏:‏‏‏ ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح، فما عندك في تأويلها‏‏‏؟‏‏‏ فقال‏‏‏:‏‏‏ أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فلتملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك‏‏‏:‏‏‏ وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظٌ موجعٌ، فمتى هو كائن‏‏‏؟‏‏‏ أفي زماني هذا، أم بعده‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، قال‏‏‏:‏‏‏ أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع‏‏‏؟‏‏‏ قال‏:‏‏‏ لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، ‏ قال، ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن، قال‏‏‏:‏‏‏ أفيدوم ذلك من سلطانه، أم ينقطع‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏: لا، بل ينقطع، قال ومن يقطعه‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي، قال وممن هذا النبي‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال‏‏‏:‏‏‏ وهل للدهر من آخر‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال‏‏‏:‏‏‏ أحق ما تخبرني‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق‏‏‏.‏‏‏
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان، فقال‏‏‏:‏‏‏ نعم، رأيت حممه، خرجت من ظلمه، فوقعت بين روضة وأكمه، فأكلت منها كل ذات نسمه قال‏‏‏:‏‏‏ فلما قال له ذلك، وعرف أنهما قد اتفقا وأن قولهما واحد‏‏ إلا أن سطيحاً قال‏‏‏:‏‏‏‏‏‏ (‏‏‏وقعت بأرض تهمه، فأكلت منها كل ذات جمجمه)‏‏‏‏‏‏.‏‏‏ وقال شق‏‏‏:‏‏‏ ‏‏(وقعت بين روضة وأكمه، فأكلت منها كل ذات نسمه‏‏‏)‏‏‏‏‏‏.‏‏‏
فقال له الملك‏‏‏:‏‏‏ ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران‏‏‏.‏‏‏
فقال له الملك‏‏‏:‏‏‏ وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظٌ موجعٌ، فمتى هو كائن‏‏‏؟‏‏‏ أفي زماني، أم بعده‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ لا، بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شأن، ويذيقهم أشد الهوان، قال‏‏‏:‏‏‏ ومن هذا العظيم الشأن‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ غلام ليس بِدَنيِّ، ولا مُدَنِّ، يخرج عليهم من بيت ذي يزن، فلا يترك أحداً منهم باليمن، قال‏‏‏:‏‏‏ أفيدوم سلطانه، أم ينقطع‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال‏‏‏:‏‏‏ وما يوم الفصل‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، وُيجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، ‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ أحق ما تقول‏‏‏؟‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض‏‏‏.‏‏‏ فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خُرَّزاذ فأسكنهم الحيرة).
وقد كان من سلالة ربيعة بن نصر هذا بعد تحقيق حلمه النعمان بن المنذر آخر وأشهر ملوك المناذرة وملك الحيرة.
طبعاً اليوم مدينة الحيرة التي سكنها ربيعة بن نصر وسلالته صارت بائدة وأثراً بعد عين.
حركة الترجمة إلى اللغة العربية
الحلم الأخير الذي سنورد قصته من أبلغ الأحلام أثراً في تاريخ البشرية. إنها يروي قصة نشأة بيت الحكمة في بغداد في القرن التاسع للميلاد، وهي أهم مؤسسة للترجمة ظهرت ونقلت التراث اليوناني والفارسي والهندي القديم وحفظته من الضياع.
قال ابن النديم (توفي 438هـ/ 1047م): (ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد. أحد الأسباب في ذلك أن المأمون رأى في منامه كأن رجلاً أبيض اللون، مشرباً حمرةً، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالسٌ على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة، فقلت: من أنت. قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم. وفي رواية أخرى قلت: زدني. قال: من نصحك في الذهب فليكن عندك كالذهب وعليك بالتوحيد. فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.
فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما من مختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلّما صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل، وقد قيل إن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلد الروم. قال محمد بن إسحاق ممن عني بإخراج الكتب من بلد الروم محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم وخبرهم يجيء بعد ذلك وبذلوا الرغائب وانفذوا حنين بن إسحاق وغيره إلى بلد الروم، فجاؤوهم بطرائف الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والإرثماطيقي والطب).
ونحن لانزال حتى يومنا هذا نفخر بتأسيس بيت الحكمة، وما أنتجه من معارف وعلوم، قد لا يصدق الكثير من القراء أننا حتى الساعة لم نحقق وندرس هذا الإنتاج الغزير بعد أكثر من ألف سنة على تأسيسه.
بعد استعراض قصص الأحلام الغريبة التي مرت معنا نجد أن الرابط بينها هو رؤيتها من قبل ثلاثة ملوك. والملك إذا حَلُمَ وصَدّقَ حُلمه فهو لا محالة سيتحقق.

ذو صلة