مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

سلمى الدملوجي والعمارة في (حضرموت) قصة عشق تروحنت مع الطين

ليس غريباً أن يُلقبها الغربُ بـ(ملكة عمارة الصحراء)، فالمهندسة المعمارية البريطانية العراقية الدكتورة سلمى سمر الدملوجي (المولودة في بيروت عام 1954م) لم تتخصص أكاديمياً في فنون العمارة في شبه الجزيرة العربية، فحسب بل توجت تخصصها وعملها الميداني بإنجازات بحثية وعلمية أكاديمية صدرت في أكثر من 12 كتاباً، في مضمار العمارة التقليدية وأنماطها ومسارح تشكيلاتها البصرية، وقيمها الجمالية، والنفعية، في اليمن، وعُمَان، والإمارات، وغيرها، غير أن العمارة التقليدية (الطينية) اليمنية في حضرموت، تحولت إلى شغلها الشاغل وهجسها الوجداني المتناغم حدّ التروحن، ما جعلها تسجل قصة عشق تجاوز عمرها حتى الآن أكثر من ثلاثين عاماً، أسست فيها -إلى جانب أعمالها الأكاديمية والبحثية ومؤلفاتها- (مؤسسة دوعن للعمارة الطينية) (Daw,an Mud Brick Architecture) في 2006م لتتولى حشد وإدارة تمويل وأعمال مشاريع ترميم لعدد من المآثر العمرانية المشارفة على الاندثار في وادي حضرموت جنوب اليمن.. في هذه المادة سنتتبع تفاصيل شيقة ورائعة من قصة التحام الدملوجي مع العمارة اليمنية.
بداية الحكاية
في كتابها (العمارة اليمنية: من يافع إلى حضرموت) -الصادر باللغة الإنجليزية عن دار (لورانس كنج) في لندن 2007م- تُرجع أستاذ العمارة بالكلية الملكية للآداب والفنون البريطانية، المهندسة المعمارية سلمى الدملوجي قصة عشقها للعمارة التقليدية في اليمن إلى إحدى أماسي 1974م، حين شاهدت فيلماً تاريخياً كان اسمه (ألف ليلة وليلة) للمخرج الإيطالي (بيير باولو باسلوني)، الذي شمل مشاهد عن العمارة اليمنية كأقدم مظاهر حضارة الشرق، حيث صُوّرَتْ مشاهده في زبيد، وصنعاء، وشبام حضرموت. مؤكدة أن الفيلم كان عاملاً حاسماً في تحديد وجهة عملها المهنية كطالبة طموحة، كانت حينها في السنة الثانية من دراستها الجامعية تخصص العمارة، من مدرسة جمعية المعماريين للهندسة المعمارية في بريطانيا 1977م.
وفي 1981م سنحت الفرصة للمهندسة الدملوجي فرصة الزيارة الأولى لحضرموت، حيث كانت ضمن بعثة خاصة بالمنظمة التابعة للأمم المتحدة (الأسكوا) لدراسة المستوطنات البشرية، ومع تكرار الزيارات خلال عامين، ترسخ إيمانها بأهمية التعمق والاهتمام بالعمارة الطينية في حضرموت، وأصبح مشهد العمارة جزءاً من وجدانها وفكرها وتخصصها، فقد نالت درجة الدكتوراه في العمارة أواخر 1989م عن رسالتها الموسومة بـ(وادي حضرموت.. هندسة العمارة الطينية مدينتا: شبام، وتريم) وقد صدرت الدراسة في كتاب باللغة الإنجليزية عن دار الساقي لندن 1995م.
العمارة في حضرموت
تتميز مدن وقرى وادي حضرموت بكون حواضرها من أقدم المستوطنات البشرية وأقدم ناطحات سحاب طينية في العالم، وتتوزع تلك المآثر -التي يعود تاريخها إلى خمسة قرون ق.م- في الوادي الذي التقت في طبيعته الجغرافية عوامل المياه العذبة، والتربة الخصبة، والهواء النقي، لتحيلها إلى قطعة من الواحات الخضراء التي تبقت من أطراف جنوب مملكة سبأ الموصوفة في القرآن الكريم بالأرض الطيبة، لتنفي بطبيعتها السندسية قطعياً، عن مسمى (حضَرْمُوت)، معنى الأرض القاحلة أو حاضرة الموت، وإن علّل المفسرون ذلك بالفناء الجماعي لقوم عاد وثمود وفق مصائر حتمية من العقاب الإلهي، فإن ثبات مسمى (حضَرمُوت) المسافر عبر الزمن، مع طبيعة حواضرها المتناثرة على واحات نَضِرَة، جعل الباحثين يربطون المسمى بدلالات مشهد تلك الناطحات من المنازل المتآلفة والمتعانقة، والقصور المستقلة بهيئاتها الهندسية، ورمزيتها الحاكمية، ونمطها المعماري، وربطه آخرون بما جمعته مدنها وقراها في تلك الواحات، من الأسباب الاقتصادية والمعيشية اللازمة لاكتفاء الساكنين ذاتياً، وربط فريق ثالث مسمى (حضرموت) المركب بدلالات الخلود والسعادة والبقاء، على اعتبار أن المفردة الأولى: (حضَرَ)، من الحضور والحضَر والسُكنَى، وهو عكس الغياب والقفر والصحراء. والثانية: (مُوت) بضم الميم وليس فتحها، بمعنى الآلهة التي ورد اسمها في النقوش الأوغاريتية، من وجهة نظر جدلية استشراقية تطرق إليها المؤرخ اللبناني الدكتور كمال سليمان الصليبي في مذكراته (طائر على سنديانة) الصادرة عن دار الشرق عمَّان، 2002م.
إن هذا الملمح الحضاري بقدر ما يشكله من ذاكرة بصرية لأقدم فنون الإنسان التجسيدية، يختزل مشهد حضارة قديمة عُرَفَ هذا المشهد بـ(شبه الجزيرة العربية) التي كانت كتلة ديموغرافية واحدة متواصلةٌ حواضرها من ضفاف بحر العرب جنوباً، حتى تخوم الشام والأراضي المباركة شمالاً، بشهادة السياق القرآني من كتاب الله العزيز في وصف مملكة سبأ: (وجعلنا بينها وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين)، حتى فصل بين تلك الحواضر سيل العرم بطوفان رملي هائل كون صحراء (الربع الخالي) وكانت تلك السمات الجغرافية والتاريخية الحضارية الضاربة جذورها قدم التاريخ، سر إطلاق الرومان عليها وصف: (العربية السعيدة).
إن انجذاب المستشرقين والرحالة والمعماريين الأجانب إلى مشهد العمارة الطينية في اليمن، يؤكد أن التداعي الذهني الحرّ لدلالات المشهد البصري لأنماط العمارة في شبام وتريم ودوعن بحضرموت، يشي بكاريزما من الحضور الإنساني المقرون بالتنوع الفكري والفني والثقافي ليس لمعماريين ومهندسين خطوا بالسليقة هذه اللوحات الخالدة، على مسارح تلك الواحات، فحسب، بل ولمجتمع يمني أثرى بتكوينه التعايشي الديمقراطي الاجتماعي، ثقافة البناء وأنماط العمارة، في دول شرق آسيا، وفق تناسخ حملته عقول ومهارات مهاجري الأسر الحضرمية الشهيرة كبيت الكاف، والمحضار، والسقاف، والعلوي وغيرها، وليس العكس بأن العمارة الحضرمية تأثرت بثقافة دول شرق آسيا، بل إن الفرع المهاجر في تلك الدول، عاد إلى الأصل، وهي حقيقة مطلقة استماتت دفاعاً عنها المعمارية البريطانية سلمى الدملوجي، بل سَخِرَت في أكثر من مقام وبمرارة من الآراء التي تعتبر أن الطابع المعماري لقصور بيت الكاف في تريم (مالوي) نسبة إلى شعوب شرق آسيا وبأنها ليست حضرمية يمنية.. مؤكدة أن آل الكاف وغيرهم من اليمنيين الذين هاجروا إلى بلدان شرق آسيا هم مَن أَثَّر في تلك الشعوب روحياً وثقافياً واقتصادياً، حيث كان آل الكاف ذوي ثقافة واسعة وكانوا رموزاً على المستوى العالمي وليس المحلي فحسب.
إن تماسك المنازل بجسور ربط توفر للفرد وسيلة الانتقال من منزله إلى منزل جاره وعلى امتداد عشرات المنازل المتراصة بانتظام فني بديع، في شبام أو تريم أو دوعن، يعكس بلا شك، دلالات واضحة تؤصل قيم العمارة من وجهة نظر إنسانية إزاء مجتمع يتميز بالتنوع، والقبول بالآخر، والمسؤولية الأخلاقية المشتركة في حماية الفرد والجماعة معاً، حيث تؤكد المعمارية سلمى الدملوجي -في هذا السياق- أن جوهر التقليد الديمقراطي في تشارك الناس في تقرير نوعية عيشهم، تجسد بدقة عالية سمات العمارة الطينية في حضرموت، القائمة على تكامل مفاهيم التخطيط الحضري الكفيل بتوليد الحلول الجديرة بمقاومة مشكلات المناخ، وظروف الطبيعة، ما يعني أن تلك المدن والقرى والقصور والحصون، حصيلة تراكمية لتجارب تناسلت وتطورت مع الأجيال اليمنية عبر التاريخ.
مشاريع الترميم
إن ذلك الثراء الإبداعي الإنساني يستحق الحفاظ عليه للأجيال وإعادة بنائه وإحياء معالمه الهادئة، في ضجيج المدن المخرسنة بالحديد والإسمنت والفولاذ، وهو ما تؤمن به الدكتورة سلمى الدملوجي، قولاً وعملاً، إذ ترى أن الترميم عملية معقدة ومكلفة جداً، ويحتاج إلى دراسات وخطط وخبرات عالية وهذا يتطلب بذل جهد إضافي مقرون بقيم التفاني والإخلاص، وانطلاقاً من إيمانها بأن إعادة إحياء الموروث الإنساني الموصول بالعمارة رسالة حضارية خادمة للأجيال، فقد ترجمت الدملوجي تلك القيم منذ دشنت مهمتها العملية التنفيذية في 2006م بتأسيس (مؤسسة دوعن للعمارة الطينية) لتتولى تنفيذ مجموعة من مشاريع الترميم لعدد من المآثر المعمارية في محافظة حضرموت، ففي منطقة وادي دوعن نفذت المؤسسة مشروعي: (مصنعة عورة 2007-2013) و(قرن ماجد 2012-2014م)، وفي منقطة ساه وعينات نفذت مشاريع: (قباب صيقة السادة 2008-2010م) و(مسجد غيل عمر باوزير 2008-2010م) و(مسجد جامع عينات القديم 2008-2011)، وفي منطقة شبام نفذت مشاريع ترميمية كبيرة منها: (بيت باصوطين 2013) و(بيت باصهي 2013م)، و(بوابة شبام وسور القصر 2017-2018م)، أما مشاريع منطقة ساحل حضرموت فتمثلت في إعادة بناء وترميم: (قبة يعقوب بالمكلا 2019-2020م)، و(قباب الوالي بساه 2019-2020م)، و(مسجدا: شكلينزا وابن إسماعيل بالشحر 2019-2020م)، و(قبتا: شيخان ومحجوب بالمكلا 2020-2021م)، و(مبنى المحافظة بالمكلا 2020-2021).
أعمال سابقة
الدكتورة سلمى الدملوجي عملت -أيضاً- في مصر مع المعماري الشهير حسن فتحي خلال (1973-1984م) وتأثرت بتجربته المعمارية الفريدة في الشرق الأوسط، كما درّست العمارة في الكلية الملكية للفنون في لندن خلال الفترة (1989-1994م)، بالتزامن مع تدريسها في مدرسة جمعية المعماريين للهندسة بلندن خلال (1989-1997م) ودرّست في المغرب خلال (1994-1997م) وعملت رئيسة للمكتب الفني لرئيس دائرة الأشغال في أبو ظبي خلال (2002-2004م)، وحالياً تعمل أستاذ الهندسة المعمارية للعالم الإسلامي في الجامعة الأمريكية-بيروت.
أخيراً
إن إنجازات المهندسة المعمارية سلمى الدملوجي الأكاديمية والبحثية الهندسية الترميمية المشار إليه أهلتها للصدارة والحصول على عدة جوائز عالمية في مجال العمارة، كان أهمها: (الجائزة العالمية للعمارة المستدامة) في 2012م، وفي 2015م نالت (جائزة الأكاديمية الفرنسية Locus للترميم المعماري)، وفي عام 2017م حصلت على (جائزة العمارة الفضية) من الأكاديمية الهندسية في باريس، وفي 2021م، نالت (جائزة هولسيم الإقليمية للشرق الأوسط وأفريقيا).

ذو صلة