مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

في مديح الاختلاف.. قراءة المخرج غييرمو تورو لقصة بينوكيو

قد تكون أهم ثيمة لقصة كارلو كولودي (بينوكيو) أنّ أنفه ينمو على إثر أيّة كذبة يقترفها. وتليها ثيمة أخرى، بأنّ أمنية بينوكيو أن يصبح ولداً طبيعيّاً، قد تحقّقت في نهاية قصته. لقد قام كارلو كولودي بتحوير النسخة الأولى التي أبدعها عام 1881-1882 من حياة الدمية الخشبية التي شنقت في نهايتها، جزاء وفاقاً للحياة السيئة التي عاشتها، وجاء ذلك بناء على اقتراح من رئيس تحرير الجريدة التي كان كولودي ينشر فيها قصة بينوكيو متسلسلة، بأن تعدّل نهاية بينوكيو الفجائعية، نتيجة شهرتها الواسعة والمتابعة الكبيرة من قبل القرّاء. هكذا يُعاد بينوكيو إلى الحياة من جديد، فيخوض العديد من المغامرات، حيث تتم مكافأته بعدها من قبل الجنّية، بسبب حسن سلوكه، بأن تجعله فتى بشريّاً، بعد أن كان مجرد دمية من خشب، فيعيش مع أبيه حياة جميلة.
هذه القصة لكولودي ذاع صيتها، فاقتبست أفكارها في الكثير من الأعمال الإبداعية، بل الاجتماعية والسياسية والفلسفية، لكنّ الأكثر شهرة من هذه الاقتباسات، كانت نسخة ديزني السينمائية، التي قدّمت نموذجاً مطهّراً وتربويّاً يحابي خيالات الآباء والأمهات عن أبنائهم. وفي الوقت نفسه يقدّم نموذجاً للطفل، حتى تتم مكافأته من قبل الجنّية، ذات الدلالات الأخلاقية والدينية والجمالية.
أمام ضخامة تاريخ قصة بينوكيو، يقف المخرج غييرمو ديل تورو مقدّماً قراءة أخرى، وبقدر ما يحافظ على الثيمات الأساسية للقصة، لكنّه في الوقت نفسه يجادلها، كاشفاً العنف المضمر فيها، لا على صعيد الشنق الذي تعرّض له بينوكيو، ولا حالة نمو أنفه كغصن كلّما كذب، بل بالعنف والكبت الذي مورس على بينوكيو حتى يفقد جوهره الأصلي كدمية خشبية ويغدو ولداً طبيعياً، وما إن يتحقّق ذلك، تنتهي القصة. لقد كان حلم بينوكيو أن يصبح ولداً طبيعيّاً، فهل كان هذا ما يريده حقّاً، أم هي رغبة المجتمع ممثّلاً بوالده والجنية؟ إنّ قراءة غييرمو لبينوكيو تذهب باتجاه الكشف عن أحلام بينوكيو الحقّة، والتي من خلالها سيصبح إنساناً، بما تعنيه هذه الكلمة من إيجابيات وسلبيات، لكن كدمية خشبية. هذه المحافظة على الأركان الأساسية للقصة من قِبل غييرمو، لم تتأت من رغبته على تأكيد الثيمات الإطارية للقصة، إنّما لينتقد الأنساق الجمالية الأخلاقية المقوننة وما تفرزه من إقصاء تجاه المختلف، والذي بثّ في القصة الأصلية بشكل واضح. يُعاد بينوكيو بعد الشنق في القصة الأصلية إلى الحياة، ليس نتيجة للسؤال الأخلاقي: كيف تشنقون طفلاً حتى ولو كان دمية خشبية، وإن تسبّب بموت حشرة الصرصار التي تعتبر بمثابة ضميره؟ إنّما لأنّ رغبة الجمهور في التسلية عبر متابعة مغامرات تلك الدمية الحمقاء، كانت هي العامل الحاسم في إعادة بينوكيو من الموت. هذا من ناحية، أمّا من الناحية الثانية، فتنتقد مبدأ الثواب الأخلاقي الموجَّه وفق رؤى معينة، بأن يتحوّل بينوكيو من دمية خشبية على التضاد من حقيقته الأصلية إلى ولد طبيعي نتيجة لسلوكه الحسن، وقد سعى المؤلّف كولودي أن يكون متوافقاً بذلك مع رؤى الفيلسوف جان جاك روسو في التربية، وبخاصة كتابه إميل، مع أنّ روسو كان يتخلّص من أطفاله الذين أنجبهم من خادمته عبر رميهم في الميتم! انطلاقاً من هذه التساؤلات يشرع غييرمو بإنتاج فيلمه الجديد بينوكيو المصوّر وفق أسلوب إيقاف الحركة، أو ما يعرف بتقنية الإطارات الثابتة، وكأنّه باستخدامه لهذا الأسلوب الذي يعتبر من أقدم أساليب تصوير الرسوم المتحركة؛ كان يؤشِّر بأنّنا كثيراً ما ننسى بأنّ إيقاف الحركة، أي أخذ لقطة تصويرية لدمية، ومن ثم تحريك عضو فيها كرمشة عين، وأخذ صورة لها وهكذا دواليك، هو ما يسمح بجعل تلك الأشياء الجامدة تتحرّك. وفي الوقت نفسه فإنّ بقاءنا عند أفكار معينة من دون تحريكها وفق مقتضيات تطور الحياة، سيجعلنا جامدين، لا نرى بأنّ التغيّر هو سمة الحياة الحقّة. هذا الأسلوب في التصوير جاء متعاضداً بشكل ملتحم مع المضمون الجديد والمختلف الذي سيقدّم به غييرمو رؤيته لبينوكيو.
تم تقديم قصة بينوكيو على الشاشات الكبيرة والصغيرة بعدة نسخ، لربما أشهرها المنتجة من قِبل ديزني. وحسب ما صرّح غييرمو ديل تورو بأنّ الفرصة قد واتته، بعدما تبنّت نتفليكس 2018 رؤيته الخاصة لبينوكيو بعدما حاول بيعها لهوليوود على مدى خمسة عشر عاماً وقوبل بالرفض، مع أنّه صاحب الأوسكارات والأفلام الخالدة!
تُضاء شاشة غييرمو عن دمية تمثل ولداً طبيعيّاً يُدعى كارلو، تم تصويره وفق ما يشتهي والده النجار جيبيتو لما يكون عليه الولد المثالي. وفي أحد المشاهد ينتقي الولد كوز صنوبر، لكن أباه يقول له: ابحثْ عن الكوز الكامل. وفي مشهد تالٍ نرى النجار يصنع تمثالاً للسيد المسيح على الصليب مع ابنه كارلو، وعندما ينتهي العمل يعود الولد إلى داخل الكنيسة ليأتي بالكوز الذي نسيه، لكن قذيفة تسقط من إحدى الطائرات على الكنيسة، وتؤدي إلى موت الطفل. يفجع الأب بموت ابنه ويدفنه، ويزرع قرب قبره كوز الصنوبر الذي قذفه الانفجار خارج الكنيسة. تنمو شجرة صنوبر مظلّلة قبر كارلو وتمر الأيام وفي لحظة غضب وجنون وسكر، يقطع النجّار صانع الدمى شجرة الصنوبر، ليصنع منها دمية لابنه. يبدأ النجّار جيبيتو نحت دمية لابنه كارلو تحت تأثير الحزن والغضب واليأس والشوق لابنه، ووحشة الوحدة التي يحياها. فيصنع الدمية تحت تأثير هذه الانفعالات. ولأول مرّة ينحت النجار دمية ناقصة فيها الكثير من فرانكشتاين إيميلي برونتي، بأنف طويل وأذن واحدة ومسامير نافرة وفي مكان القلب فتحة يسكنها صرصار. وأخيراً يسقط مغمى عليه، وفي الصباح يجد دمية حيّة تقول له: بأنّها ابنه واسمها بينوكيو. يرفض الأب جيبيتو هذه الدمية، فليس فيها من رقّة كارلو ومثاليته أي شبه. لقد صنع دمية حطمت آخر أحلامه، لكنّه أمام إحساسه المرير بفقد ابنه يرضى بتلك الدمية المشوّهة على أمل أن تصبح كارلو آخر، يعوضه عن ابنه الذي فقده. لم يكن بينوكيو لدى ديل تورو رافضاً لطبيعته الخشبية، لذلك عندما خاطب المجتمعين في الكنيسة المتعجّبين من دمية تتحرك من دون خيوط، بأنّه سيصبح ولداً حقيقياً نما أنفه دلالة على كذبه. وفي مشهد آخر يسأل بينوكيو أباه عن سبب محبة الناس لتمثال المسيح وكرههم له، مع أنّهما مصنوعان من الخشب؟
عبر هذه الخلفية يمضي غييرمو مع بينوكيو إلى زمن الفاشية الإيطالية، بما تمثّله من قمع وكبت وتحويل البشر إلى نسخ تمجّد موسيليني، حيث يقع بينوكيو في حبائل مالك سيرك يقنعه بأنّ الناس تحبّ الدمى المقيّدة بخيوط. وبما أنّ بينوكيو يبحث عن قطيع يشبهه بعد أن رُفض كدمية خشبية، فيجد بالسيرك قناعه الجديد، بعدما نبذ وجهه الحقيقي. يعدّه مالك السيرك ليقدّم عرضاً يمجّد فيه الفاشية، لكن بينوكيو يثور على ذلك ويسخر من موسيليني.
يقطع بينوكيو خيوطه، ولكنّه دمية، تطارده يد عليا، تريد أن تسيطر عليه وتجعله كالقطيع البشري. هكذا يتم تجنيده، فهو الجندي المثالي لأنّه لا يموت، بل يظلّ قادراً على العودة إلى الحياة في كل مرّة، وكأنّه مسيح آخر. رويداً رويداً يكتشف جيبيتو، بأنّ الأبوة هي أن تتقبل ابنك كيفما يكون، فيغادر بلدته بحثاً عن ابنه الخشبي. وبعد عدة مغامرات، تبتلع سمكة عجيبة كل من جبيبتو وبينوكيو والصرصار، ولم يكن من حلّ للنجاة منها، إلّا أن يكذب بينوكيو. وهنا يكتشف جيبيتو بأنّ للكذب وجهاً إيجابيّاً. يكذب بينوكيو ويطول أنفه، حتى يصبح شجرة يتسلقونها من أجل الهروب من جوف السمكة الضخمة.
كان بينوكيو كلّما مات صعد إلى قاعة فيها جنّية تخبره، بأنّه بعد كل موت عليه أن يقضي وقتاً أطول لديها. وفي هذه المرّة يطلب منها أن تعيده سريعاً إلى الحياة، لأنّ أباه سيموت إن لم يسارع لإنقاذه. تخبره الجنّية التي هي أقرب لسفينكس أوديب، بأنّه إذا خالف مدّة الانتظار لديها، سيكون موته هذه المرّة أبدياً. لا يكترث بينوكيو لذلك، فهو يريد أن ينقذ والده. يصبح بينوكيو فانياً، ولكنه يظلّ دمية خشبية يعيش مع والده حتى يموت. وبعدها ينطلق بينوكيو ليكتشف العالم من حوله.
ليس ما قُدّم أعلاه، إلّا شذرات دلالية لفيلم غييرمو، فهو في جداله مع النمطية التي عرضت بها القصة عبر سيرها في الزمن البشري منذ لحظة ولادتها على يد كارلو كولودي، أراد أن يفتح القصة على قراءات عديدة ومختلفة، لكنّها متكاملة. فالفيلم يناقش علاقة الوالد بابنه بين الأنا الأعلى والأنا الأصغر وفق فرويد. وهل للأنا الأعلى الحقّ بأن يغيّر من جوهر ابنه من أجل مثالية مقوننة وفق رؤى مجتمع فاشي على سبيل المثال، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كان الصرصار في منطلق الحكاية قد استقرّ في شجرة الصنوبر ليكتب سيرته الذاتية، لكن تقوده الأقدار كي يكتب قصة بينوكيو، مع أنّه في القصة الأصلية كان بينوكيو قد قتله. هذا الغفران الذي يمثّله الصرصار، افتقده كلّ من مالك السيرك والضابط الفاشي والمصلين في الكنيسة، عندما أعلنوا بأنّ بينوكيو من عمل الشيطان. في القصة الأصلية كان الصرصار ضمير بينوكيو، لكن في رؤية غييرمو يتعلّم الصرصار من بينوكيو!
في رواية فرانكشتاين لإيميلي برونتي يلتقي الكائن المرعب بأحد العميان، فلا يرتعب منه، بل يقبله كما هو، ويصبح صديقه، ويأخذه ليرى عائلته التي تهلع وترتعب من فرانكشتاين. وهنا يتحوّل فرانكشتاين إلى وحش لا يستكين حتى يقتل صانعه. لا يختلف بينوكيو عن فرانكشتاين، فكلاهما منبوذان، لكن أجزاء فرانكشتاين بشرية، وأجزاء بينوكيو خشبية، وفي هذا إشارة للعنف المتجذّر في الطبيعة البشرية التي رفضها بينوكيو، لأنّه في الأساس شجرة حملت من صلَبَه الناس، وكان فداء للبشرية. ما رغب غييرمو بقوله، بأنّ الاختلاف فضيلة، وهو ما يجمعنا ويجعلنا بشراً. وما يفرّقنا ويبعدنا عن بشريتنا هو التشابه، بل إنّ الحروب والعنف والقتل والإبادة تنشأ من الهاجس المجنون في جعل البشر نسخاً متشابهة، أرقاماً في زمن لا ينتهي به العدّ.
بينوكيو من إخراج وسيناريو غييرمو ديل تورو، وتمثيل: غريغوري مان، ديفيد برادلي، وكيت بلانشت وآخرين، إنتاج عام 2022.

ذو صلة