مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

السرد البصري

هل الرسم أو التصوير هما النوع الثانوي لسرد بصري هو الأقوى فعلياً من الكلمة؟
عبّرت الصورة الفوتوغرافية جنباً إلى جنب مع اللوحة عن المغامرة التاريخية التي تبقى مستمرة في الحياة رغم رحيل صاحبها أو شخوصها أو حتى ما تبقى من الحدث، وبخاصة تلك التي تمثل شيئاً من ميدان المعارك المنتهية فعلياً في مستقبل عشنا فيه، وهذا يحولها حصرياً إلى نص بصري كدفتر لملاحظات إنسان ترك ذكرياته في صورة أو لوحة تمثل خاسراً أو منتصراً في حرب أو حتى في موقف ما زلنا نلمسه ونحن على قيد الحياة، وتحمل الكثير من الإشارات الفعلية لأسلوب القدماء في التعبير عن الانفعالات بالحياة الساكنة التي تتمثل بالرسم والتصوير. فهل الرسم أو التصوير هما النوع الثانوي لسرد بصري هو الأقوى فعلياً من الكلمة؟ أم أن لوحات الحروب التي تترجم الموت والمجازر هي بصمة تُشكل مؤثرات الخراب والدمار والقتل على الإنسان؟ وهل علامات العنف البشري في الحروب تلتقطها العين من خلف الكاميرا باحترافية تمثيل المشهد الذي يتلاءم مع الحدث؟
ألا توفر الصورة الفوتوغرافية ملاذاً للإغواء البصري في الفن المعاصر كما في الفن القديم الذي استطاع من خلاله الكثير من المصورين والرسامين تقديم شهادة تاريخية يمكن دراستها بشتى الطرق، لاستخراج الدافع الأساسي الذي استفز صاحبها أو مبدعها ليرسمها أو ليلتقط عدة مواقف نشأت عنها، بل لتكون عالقة في الذكريات الفنية على مسارح مفتوحة الفضاءات بشكل ساكن وصامت، إلا أنه تتكاثر من خلاله الحركة البصرية، لتكوين المشاهد أو المناظر الطبيعية منها بشكل رمزي أو واقعي أو سريالي أو غير ذلك من المدارس الفنية المتعارف عليها عملياً، على الأقل بشكل سيادي يمنح اللوحة شهرة كبيرة تمتد لمئات السنين، وتندرج تحت مسميات تاريخية من شأنها أن تنمو فنياً، لتكون مدرسة أو مثيرة للجدل أو مفتوحة على دراسات تحيا وينبع منها عدة استنتاجات مؤثرة ذوقياً ومهمة فنياً، وقادرة على حمل رسالة زمنية خالدة. فهل الصورة الفوتوغرافية أو اللوحة التشكيلية هي نوع من المسارح الصامتة؟ أم أن لكل حركة فنية معاصرة انعكاسات في الرسم التشكيلي والفن الفوتوغرافي، والسرد الأدبي من شعر وقصة ورواية وغير ذلك؟ وهل بعض المناظر الطبيعية في الحياة البرجوازية هي اهتمام ذاتي؟ أم أن تحويل اللحظة الحياتية جمالياً هو تجسيد لرؤية العين فكرياً لتكون الشاهد الحي على الزمن الذي نرحل عنه ونبقى فيه من خلال صورة أو لوحة؟
تجمع الصورة الفوتوغرافية بين ما هو بصري وما هو حسي وتفاعلي بمعنى كيميائي نوعاً ما، وحتى اللوحة التشكيلية وما تحمله من معانٍ وخصائص فنية ومعنوية، فهي تتحدث عما تركه الزمن من أثر على الأشياء من حولنا أو حتى على الإنسان والطبيعة، لنكتشف العديد من المتغيرات المؤرشفة للحظات جمالية أو لأحداث تاريخية أو حتى لمواقف تم تسجيلها إيحائياً، فالرسام أو المصور هو مغامر بالريشة أو بالعدسة، ويسعى لخلق مساحات من الحوارات البصرية لقضايا مختلفة إنسانياً وحياتياً أو حتى بمختلف المجالات كالطب والعلوم وغيرها، حتى في ساحات المعارك يعيش المصور النزاعات بشكل حي مع عدسته. فهل يتقاعد رسام أو مصور عن إنتاج العمل الفني؟ وهل يمكن أن نستنكر مكانة التصوير الفوتوغرافي والاعتراف به كفن يشهد على جمالية بصرية تجمع بينه وبين اللوحة التشكيلية؟ أم أن الحياة الساكنة في أي عمل فني هي متعة الإنسان المتأمل والمحب للفكر والجمال؟ وهل ما يمضي حاضراً يصبح في الصورة أو اللوحة مستقبلاً؟
تبدو فكرة المواضيع المحمّلة بإشارات سردية بصرياً كعاطفة تمسك بلمحات العمل الفني وطبيعته الصامتة غالباً، وتلك القادرة على خلق إثارة حسية تعد نوعاً من التحفيز للتعمق أكثر في لب الموضوع المطروح في اللوحة أو الصورة بعيداً عن التحلل المادي في الحياة كنظامها بين البقاء والفناء، لهذا نجد أن العدسة بالتوازي مع اللوحة هما رواية بصرية تكشف عن ما ورائيات اللحظة المتجسدة في الفكرة كما في أعمال الرسام (ماكس بيكمان) في محاولة منه للبحث عن وسيلة يخاطب بها قادة الحرب، وكأنه يجعلنا أمام مرآة نرى فيها أحداثاً جمعت بين حربين هما شيئاً من الماضي، إذ استطاع من خلال التعبير اللوني خنق الخوف الذاتي والسعي لهروب إلى النقاء، كما في لوحته التي تحمل هذا العنوان، إذ يقدم من خلال مواقفه الفعلية في الحياة بعيداً عن الانتقاد الصريح ومن خلال الفن التشكيلي أو اللوحة التعبيرية ما يمثل نوعاً من الانعطافات التي تؤدي في الواقع إلى اختزال السرد البصري إكلينيكياً، إذ يعالج بالرسم ما لم يستطع معالجته بسواه. فهل الانفتاح على المشهد الفني برمته هو نوع من الإغواء السردي بصرياً؟ وهل يستخرج الراوي أو المصور أو حتى الرسام نفسه من سرد يحاول إيقاظ الماضي فيه ليجعله في حاضر يعكس ما هو آتٍ؟
يقول آرتورو بيريز ريفرتي الكاتب الإسباني: «نلتقط الصور، ليس لغرض التذكر، ولكن لاستكمالها في وقت لاحق مع بقية حياتنا. هذا هو السبب في وجود صور صحيحة والصور التي تفعل ذلك. الصور التي يضعها الوقت في مكانها. وتنسب إلى بعض معناها الأصيل، وتحرم الآخرين الذين يخرجون بمفردهم، كما لو تم محو الألوان مع الوقت». فهل رد الفعل البصري يجعلنا نتعمق بشكل أوسع بالتفاصيل التي غابت عنا في الماضي ويتم استحضارها من خلال قصة أو لوحة أو صورة؟
تبدو علاقة النص بالصورة للوهلة الأولى علاقة سيميائية ذات فروقات مرتبطة بالممارسات الدقيقة للفن والأدب معاً، وبتطورات ذات انعكاسات تتذبذب بين ما هو حي حسياً وبصرياً، وبين ما هو نوع من البدائل لصورة يتم التعامل معها نقدياً وفق المضمون والأسلوب وقدرة الحس البصري على ترجمة الحوارات المزدوجة بين النص والصورة، بحيث لا نستطيع البقاء على هامش التناقضات التي تفرضها الصورة أو النص بعيداً عن الإغواء البصري الذي يستطيع القبض على الحواس من خلال صورة، كما نلمس ذلك من خلال التصوير السينمائي وتكامل الصورة الإخراجية، حيث يعلق المشاهد بين معيارين لصورة ونص، فلولا قدرة الأدب على فرض المعطيات الأساسية للصورة الحسية من خلال النص الأدبي، ما استطاعت الصورة الوصول إلى ما هي عليه الآن. فهل يتم الجمع بين العين والحواس من خلال الصورة والنص؟ أم أن الأذن تشترك معهما من خلال الأصوات والرؤية في القراءات الشعرية التصويرية التي يُقبل عليها حالياً الكثير من الشعراء؟
يمثل السرد البصري سرعة في العبور الزمني، وهذا يتمثل في أعمال الكثيرين من الكتاب والرسامين والمصورين، كما في رواية (جورج أوريل 1984) وفي لوحة (الغارنيكا لبابلو بيكاسو) وغيرها من لوحات (جورج دولاتور) وسواهم، وهذا يغري في حقيقة الأمر كل مهتم بالاستحضار الفعلي لزمن مضى أو كل ما يتجسد في الحاضر، وهو المستقبل الذي يتجدد آنياً من خلال العمل البصري بشكل أوسع، خصوصاً الآن وكأن المصور أو الرسام تحديداً ينتزع الحياة من الموت، لتبقى في استمرارية جمالية باردة نوعاً ما، لأنها انفصلت في حقيقة الأمر عن تناقضات الزمن والحياة. فهل تأثيرات (جورج باتاي) وغيره من المفكرين والكتاب وتأثير أفكارهم ما زال ينتج عنه الكثير من الأعمال الفنية؟ وهل من لقطات حياتية يتم تجاهلها في الكثير من الأحيان؟ أم أن الكاتب والرسام والمصوّر الفوتوغرافي هم الأحياء فعلاً في لوحة أو صورة أو كتاب؟ ومتى يصبح السرد البصري أقوى من الكلمة؟ وهل تقتل الصورة صاحبها كما تقتل اللوحة رسامها؟ أم أن البقاء الفعلي والحي للكلمة؟

ذو صلة