تعد مسرحية (أم الخير) للكاتب المسرحي السعودي عباس الحايك عملاً مهماً في مشروعه المسرحي نظراً لأهمية الموضوع وطريقة معالجته درامياً. تبحث شخصيات مسرحية الحايك (أم الخير) عن معان مجردة كالخير والحق والحرية والعدل في ظل وجود الطغيان، كما تبحث عن النموذج الأعلى الذي ترجو منه تحقيق تلك المعاني، لكن هذا النموذج الذي غاب تحول إلى أسطورة بفعل الغياب في مكان غير معروف، ونظراً لأنه ابن الشيخ يوسف وجيه المدينة السابق الذي تعلم المواطنون كل تلك المعاني على يديه. يسوق الحايك قطبي البشرية التقليديين للصراع في المسرحية وهما الخير والشر، وكما يمنح أصحاب الشر القوة والسطوة للقضاء على الآخر فإنه يمنح أيضاً أصحاب الخير سبل الوقوف ضد الشر كالتنوير وطرائق دحره.
يرى أرسطو أن على الشاعر أن يصوغ خطته بحيث يبدو ما قد يكون مستحيلاً ممكناً، فالمستحيل الممكن أفضل دائماً من الممكن المستحيل، أي غير المقنع. تتجلى تلك الفكرة في مسرحية (أم الخير)، إذ كان وجود رسلان على رأس المدينة وتنصيب نفسه وجيهاً عليها باستقدامه العبيد كي يكونوا عوناً له في مواجهة أهل المدينة، كما استقطب بعض الشخصيات التي لها نزوع سلطوي كلقمان. وصارت مسألة (عودة برهان والتغلب على رسلان) المستحيلة ممكنة بالفعل الدرامي الذي بدأ بالطرق على القدور والغناء ليكون نواة النضال من أجل عودة الحق.
الأهالي: يا حوت يا حوت.. أطلق سراح القمر العالي.. قمر المدن الغافية.
يرسم الحايك الشخصيات بشكل فني، إذ يمنح كل شخصية معنى، خصوصاً شخصية لقمان الطماع الذي يسعى للحكم بعكس أخيه عارف الذي ينضم لجانب الخير، بينما نجد شخصية رسلان البحار الذي نصّب نفسه وجيهاً أي حاكماً للمدينة تقابلها شخصية زيدون المعلم الضرير صاحب الفكر والمعرفة والحكمة، يحاول الحايك منذ البداية الكشف عن رؤاها الظاهرة التي تتجلى في تصرفاتها الواضحة والمضمرة التي تؤثر بشكل غير مباشر في دعم الحدث المسرحي ونشوئه ونموه وتصاعده، كما أنه يعتبرها أداة لاستبطان اللاوعي الذي يوفره التخييل المسرحي، ويكشف عن بعدها الاجتماعي المرتبك بسبب ظروف استيلاء رسلان على سفينة أم الخير التي كانت تُبنى من أجل رفاهية وخير أهل المدينة والتي كرس لها الوجيه الراحل الشيخ يوسف حياته، كما رسم البعد النفسي الذي تخلخله ضغوط المشهد الحياتي الذي يسيطر عليه رسلان وعبيده، كما أبرز البعد البدني الذي تحدثه الالتحامات المباشرة مع الخصوم، وكذلك علاقاتها المتشابكة والتي تساهم في نمو الحدث المسرحي واستنبات الخيوط الدرامية من خلال الحبكة.
استخدم الحايك اللغة المسرحية المناسبة للحوار المباشر الذي يساهم في نمو الحدث والحوار غير المباشر المجازي القريب من اللغة الشعرية الذي يحمل دلالات أخرى ويعبر عن مكنون الشخصيات، ويؤثر بشكل إيجابي على تماسك الحبكة وخصوصاً في المشهد الافتتاحي الذي جاء بين رسلان والعبيد (السفينة باتت لي/ السفينة لك/أنا الوجيه والمدينة كلها لي/أنت الوجيه والمدينة لك، لكن المشهد انتهى بتراتيل الأهالي وهم يغنون من أجل عودة الرمز الغائب، قمرنا يا حوت يشبه وجه برهان الذي غاب/أتسمع نساء الحي هنا، يقرعن طبولا/ يرفعن خرافة أحلامهن، يبسطنها على قدر غيابك؟ أنت النقي، أنت العاشق، ابن المدينة، ابن مآذنها وأزقتها، ووارث الطين. استطاعت الشخصيات من خلال الحوار أن تعبر عن وجهة نظرها أو تتفاعل من خلالها مع بقية الشخصيات وكذلك علاقاتها المتشابكة التي يعتمد عليها الصراع بشكل أساسي، لا تعتمد اللغة على التطويل بل على الإيجاز الذي يحمل الدلالة والرمز.
على الرغم من أنه يجب أن يكون الثريا التي تضيء فضاء النص إلا أن العتبة اللغوية الأولى تعتمد على الغموض مذهباً لتضع المتلقي في رهان التفكير والتحليل والمقارنة، إذ جاء في صورة كلمتين (أم الخير)، عنوان المسرحية لأنه سلطة النص أو المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص، وتسهيل مأمورية الدخول في أغواره وتشعباته الوعرة، وتزيد العتبة اللغوية من غموض النص، إذ جاءت في شكل لفظين متجاورين لكنهما متفقين مجازياً، إذ جاء المضاف إليه ليؤكد على هذا المعنى، ومن حيث الجانب التركيبي فإن (أم الخير) تعرب مضافاً ومضافاً إليه، إذ يشكل الدليل المعرفي الذي يقود إلى النص ويرسم أبعاده الجمالية والدرامية، ومن المؤكد أن تلك العلاقة نفسها سوف تحث المتلقي على الولوج إلى المتن.
أكسبت اللغة الحبكة متانة، كما أكسبت الشخصيات الدرامية الدينامية المنتظرة وتمكنت من بنائها من الداخل، فضلاً عن رسوخ الحكاية من خلال اللغة وانتقالها إلى البناء الدرامي بشكل مطرد ونموه ليصل إلى الصراع ومن ثم الذروة، واستطاع الحايك أن يحول التسلسل الزمني غير المرئي إلى بناء درامي متماسك من خلال لغة خصبة ودلالية سواء كانت سردية أو حوارية. وختاماً نؤكد على أن مسرحية (أم الخير) عمل مسرحي شديد الأهمية قام الحايك ببنائه درامياً في ظل عالم مرتبك.