يوجد المسلمون اليوم، في كل بقاع العالم، وداخل مختلف الثقافات، وفرض السياق العولمي للعالم الحديث، انفتاح هذه الثقافات وتحاورها، وتعكس مقاصد مناسك الحج، تجدّر فلسفة الحوار الثقافي والحضاري في المرجعية الإسلامية، بين أفراد الأمم والشعوب المختلفة، فالنسق التصوري لشعيرة الحج يقوم على الحوار والتواصل، باعتبارهما وسيلة وإستراتيجية لمدّ الجسور الثقافية والحضارية والإنسانية بين الشعوب، في سياق تحولات العالم الجديد، فالحجاج يمثلون سفراء شعوبهم في نقل رسائل مناسك الحج، الرامية إلى نشر القيم الرفيعة، والسلوك النموذجي لنبي مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم.
تمثل مناسك الحج تظاهرة ثقافية عالمية، يجتمع فيها ملايين المسلمين من جميع أقطار العالم، في مكان وزمان محددين، إنه موعد مكاني لتأدية الركن الخامس من أركان الدين الإسلامي، بمكة المكرمة مهبط الوحي وعاصمة الثقافة الإسلامية، يقف فيها المسلمون في صعيد واحد، على اختلاف ألسنتهم، وألوانهم، ومستواهم الاجتماعي، والعلمي والثقافي.
إن الاختلاف سنة كونية سنها الله في أرضه، يقول تعالى في محكم تنزيله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (سورة الروم 22)، فمن آيات عظمة سلطان الله تعالى، وكمال اقتداره، قدرته التامة على خلق كل شيء، ومن آياته أيضاً (اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي اختلاف لغات الناس ولهجاتهم باختلاف جغرافياتهم، وقد نجد الأمة الواحدة تتكلم عدة لغات ولهجات. كما جعل الله تعالى الاختلاف في الألوان (وَأَلْوَانِكُمْ)، فنجد الأبيض، والأسود، مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة، هما آدم وحواء.
فالاختلاف حكمة من حكم الله تعالى، ومناسك الحج تعكس البعد الكوني للقيم الإنسانية، التي تدعو للمساواة، لإلغاء كل التمايزات بين الناس، أمام حضرة الله تعالى، ويتجلى ذلك في تجرُّد المسلم من مكانته الاجتماعية، وألقابه، وجاهه، ومن كل ما يميزه عن أخيه المسلم، في لباس الإحرام الموحد البسيط، فليس لأحد مزية أو سمة يتفرد بها على غيره من المحرمين، فتتحقق بذلك قيم التآخي والمساواة والعدالة الإلهية بين المسلمين.
انطلاقاً من هذه القيم، التي تدعو إلى المساواة، والتعاون، وقبول الاختلاف، تتواشج أواصر الإنسانية، وتُطمس الفروق والحواجز المصطنعة بين الناس، بناء على منظومة القيم الإسلامية الكونية السائدة بين المعتمرين، فتغدو شعيرة الحج مؤتمراً إسلامياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً، يحتفي بالتواصل الثقافي والحضاري، المتحرِّر من التحيّزات الجغرافية للأمم والشعوب، والذي يراعي في نفس الوقت، السياقات التاريخية التي نشأت فيها هذه الحضارات.
فشعيرة الحج مشروع حضاري يهدف إلى تقويض الحدود الجغرافية والثقافية والعرقية والجنسية واللغوية، ومناسبة لبداية عهد جديد بين المسلمين وخالقهم، وبين المسلمين فيما بينهم، وهذا الاتصال الروحي، والزماني، والمكاني، والبشري، تتحقق منه منافع دنيوية وأخروية، مصداقاً لقوله تعالى في كتابه العزيز: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات) (سورة الحج 28)، فمنافع الآخرة رضوان الله تعالى، ومغفرة للذنوب، فالحج يضع المسلم في علاقة مباشرة بخالقه، يغفر ذنوبه، فيولد من جديد بصفحة بيضاء، يعيش بعدها حياة جديدة، تضع قطيعة مع ماضيه الذي أتى لتطهيره، ويتصل بحاضر ومستقبل وحياة كلها طُهر وصفاء ونور.
أما منافع الدنيا فما يتحقق من منافع التجارة، والذبائح، والبدن، إلى جانب التواصل -الثقافي والحضاري والإنساني- بين المسلمين، الذي يصل حاضرهم بماضيهم، ويربط الجيل الحاضر بالجيل الأول، من جهة، والمسلمين والإنسانية جمعاء فيما بينهم، من جهة ثانية، تنزيلاً للرسالة الربانية التي تدعو للتواصل، يقول الله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات 13). ويعد التواصل الذي يتحقق في سياق أداء مناسك الحج، ضرباً من ضروب التعارف الذي دعت له الآية الكريمة، وتجسيداً لفلسفة الحج، وسرّاً من أسرار تشريعاته.
ولعل من أبرز مظاهر التواصل بين الشعوب الإسلامية، تواصل العلماء ثقافياً وعلمياً، في الأيام التي يتواجدون فيها بمكة المكرمة، التي يتداولون ويتبادلون فيها الأفكار والإبداعات والعلوم والخبرات الإنسانية بصفة عامة في كافة مجالات الحياة، لحل بعض المشاكل التي تعترض المسلمين، في سياق المجتمع المعاصر.
بهذا المعنى، فإن مناسك الحج ليست ممارسة دينية أو سعياً لحظياً مرتبطاً بزمان ومكان معينين فحسب، بل هي فعل روحي، وحركي، وتربوي، واجتماعي، وسياسي، واقتصادي، وفعل ثقافي قادر على دمج واستيعاب التشكلات الثقافية والحضارية لمختلف الشعوب، لأن ما تحمله مناسك الحج للآخرين من قيم مستقاة من سياق تأدية هذه المناسك، تمثل روح الحج ومقاصده، فالحجاج على اختلاف ثقافاتهم، يتمثلون هذه القيم في كونيتها وفق خصوصياتهم الثقافية، ويروّجون لها في مجتمعاتهم.
إن شعيرة الحج، ممارسة ثقافية/دينية، تقوم على بناء المشتركات الثقافية والحضارية والإنسانية للأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها، من خلال إقامة جسور التواصل الإنساني، وتعزيز التعاون بين هذه الشعوب، لنشر القيم الإنسانية العابرة للخصوصيات الثقافية والحضارية، بناء على البنى القيمية الكونية، التي تنمي في المسلم الشعور بعالمية الإسلام.