مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الحج مـن منظـور ثقافـي وحضاري بين الأمم

الحج هو الشعيرة الخامسة في الإسلام، وذلك لمن استطاع إليه سبيلاً. وهذه الشعيرة الإسلامية لها رمزيتها ودلالاتها الثقافية والحضارية قديماً وحديثاً، فهي الشعيرة التي تؤكد بلا شك مواكبة الإسلام لكل مستجدات العصر الحضارية والثقافية والاجتماعية، حيث إن الاستطاعة لا تعني المقدرة المالية فقط، وإنما تعني القدرة على السفر وحضور العقل وسلامته؛ لأنها مناسبة أو مؤتمر دولي يجمع كل الملل والنحل، ويجمع بين عدة ثقافات مختلفة ومتعددة، والتي دخل أفرادها الإسلام طوعاً واختياراً وإيماناً بربه وبرسالة رسوله، وهذا المؤتمر الديني الكبير يحتاج لشخص له القدرة على السفر ودفع تكاليفه وإقامة طقوسه وشعائره، ثم التأكيد على حريته واختياره بمجيئه له وهو في قمة لياقته الجسمانية والعقلية والمادية، لكي تكون له القدرة على أداء الشعائر، والالتقاء والتحاور والتعارف مع الأقوام والشعوب المختلفة، وهذه المحاورة والالتقاء مع الغير تتيح للحاج أن يتأكد بنفسه ويؤكد لغيره بأن هذا الدين هو رسالة خالدة ورسالة عالمية لكل البشر بكل سحناتهم ولغاتهم وقبائلهم، يأتون من كل فج عميق، لا تقف في طريقهم مشقة السفر وبعد المسافة وإن نأت بلادهم وبعدت، وهي تلبية للنداء الرباني الذي يأمرهم بالحج ليلتقوا ويتعارفوا ويقضوا حوائجهم.

هذا المؤتمر السنوي الذي يلتقي فيه هؤلاء المسلمون، يؤكد كما أسلفنا بأن الإسلام هو رسالة موجهة لكل البشر وليس لفئة معينة، والدليل على ذلك بأن كل هذه الجموع مهما اختلفوا في لغاتهم وأشكالهم وسحناتهم، فإنهم يؤدون نفس الشعائر ونفس الطقوس وكلهم يصلون خلف إمام واحد، وكلهم يلبسون زياً واحداً لا يميز الغني عن الفقير، ولا يحس فيه أحد بأنه يختلف عن البقية، وهي قمة المساواة، وأن الإيمان بالله لا يتميز به شعب عن شعب آخر، وهذا الإيمان بالله هو الغنى والثراء الذي هو متاح للجميع الغني والفقير، والعربي والأعجمي. وإذا أردنا أن نعدد ونركز على أهمية هذا الركن الخامس في الإسلام، والذي يؤكد تمام وكمال أركان الدين عند المسلم ودوره الحضاري والثقافي والإنساني في كل الأجيال والعصور فهي تتمثل في الآتي:
أولاً: تأكيد للآية الكريمة التي تقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13). وهذا التعارف رغم أنه قد يتم في كل مكان وكل زمان، ولكنه أكثر فاعلية وانفعالاً بالفعل والقول في شعيرة وفريضة الحج، حيث يجتمع الملايين من مختلف مناطق العالم في مكان واحد لأداء شعيرة واحدة لها سننها وفرائضها، يقرؤون القرآن بلغة واحدة هي اللغة العربية، ويقفون في صفوف الصلاة بكل طبقاتهم ودرجاتهم الاجتماعية، على قلب رجل واحد، قبلتهم واحدة وإمامهم واحد ويؤدون نفس الشعائر والطقوس، أتى كل واحد منهم وهو يعرف المطلوب منه فرضاً أو سنة وهذا التعارف قد لا يتم بين كل الأفراد، ولكن يقصد به أن يدرك الحاج أولاً وأخيراً عظمة دينه وعظمة رسالته وخلودها وكونيتها. وكيف تجمع بين كل هذه الشعوب المختلفة وكيف ألفت بين قلوبهم فلا عداوة ولا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، فالكل أتى وهو يريد أن يتخفف من أوزاره وذنوبه ومن كل ما اقترفه في حياته، ويريد أن يفتح لنفسه صفحة جديدة في دفتر أعماله.
ثانياً: التقارب الثقافي والحضاري بين الأفراد، بحيث تحس في الحج بأنك تتعرف على ثقافات وحضارات جديدة في أفراد يختلفون عنك في طريقة الحياة اليومية وفي الأكل واللبس، وتكتشف حضارة الأمة السعودية المستضيفة وكرم أهلها، وكيف قامت بكل هذه التسهيلات والراحة لضيوف الرحمن بوسائل حضارية مواكبة لكل مستجدات وسائلها اليوم، وكيف أنها جعلت من هذه الشعيرة سبيلاً لتؤكد بأن تطبيق الإسلام هو الخلاص لكل مشاكل الإنسانية.
ثالثاً: يؤكد الحج المساواة بين الناس في كل مللهم ونحلهم، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فهم يؤدون شعيرة واحدة بكل سننها وفرائضها يكبرون ويهللون بلغة واحدة حتى إن اختلفت لهجاتها، فهي ذات غرض نبيل. يلبسون زياً واحداً وهو زي الإحرام الأبيض الذي يرتديه الكل دون تفرقة ودون تعالٍ أو خيلاء، وهذا يؤكد بأن الإسلام يريد أن يساوي بين الجميع دون تفرقة؛ لأن ربهم واحد ونبيهم هو آخر الأنبياء والرسل.. جاؤوا كلهم عبيداً لله، وهو سيدهم جميعاً. ويكتشف الحاج تفاني دولة الحرمين في خدمته وراحته، وأن مصطلح العولمة قد نادى به الإسلام منذ عدة قرون في أن جعل العالم كله يتمثل في مكان واحد ويقومون بتأدية شعيرة واحدة وقبلتهم واحدة وهدفهم إيماني عميق دون عصبية أو تعالٍ وفي أمن وسلام.
رابعاً: هذا المؤتمر السنوي والمحفل الجامع هو أكبر مؤتمر في الكون من حيث التنظيم والسلوك الحضاري الذي ينادي به الإسلام ويدعو له، وهو دليل على أنه دين عمل وفعل، فسلوك الحاج هو سلوك حضاري يؤكد الفطرة الإنسانية السليمة، فهو يحترم غيره امرأة كان أم رجلاً، لا يزاحمه ولا يضايقه ولا يجادله؛ بل يتفانى في خدمته طالما أن الهدف سامٍ ونبيل، ويلمس الحاج السلوك الحضاري للدولة المضيفة ولأفراد شعبها وكرمهم واحترامهم لضيوف الرحمن.

ذو صلة